وُلدت القبعة من حاجة الإنسان إلى الحماية من عوامل الطقس والطبيعة. ولكنها خضعت في تصميمها وصناعتها خلال تاريخها الطويل لاعتبارات وعوامل لا حصر لها ولا عد، تبدأ بالوظيفة العملية المتوخاة منها والمواد المتوافرة لصناعتها في هذه البيئة أو تلك، وتصل إلى قوتها التعبيرية عن وظيفة صاحبها ومكانته الاجتماعية وانتمائه ونظرته إلى الأناقة والجمال. حتى بتنا نجدها في كل بلد وعند كل شعب رمزاً ثقافياً وإعلاناً عن الهوية.
في هذا الملف نجوب مع حسام الدين صالح في عوالم القبعة اللامتناهية، نقلّب تاريخها وأنواعها وأشكالها، ونرفعها احتراماً لأهميتها في حياة الإنسان القديم والمعاصر.
يعود تاريخ ارتداء القبعات إلى تاريخ ارتداء الإنسان للملابس نفسه. فلم تكن القبعات بأقل أهمية من بقية الملابس التي لبسها الإنسان القديم، لستر عورته وحماية جسمه من الطبيعة حوله. ولهذا يبدأ تاريخ اعتمار الناس للقبعات من النقطة الزمانية والمكانية التي شعر فيها الإنسان بالحاجة لتدفئة رأسه من البرد الشديد، ومن اللحظة التي أحسَّ فيها بضرورة تجنب أشعة الشمس المحرقة بشيء يحمي الرأس والعين من الأذى. ثم ظهر التميّز كحاجة مُلِحَّة ومرتبطة بالسلطة، فبدأت أشكال القبعات في التطور باستصحاب الوظيفة الحمائية الأولى. فارتدى المصريون القدماء التاج منذ ثلاثمائة ألف عام قبل الميلاد للدلالة على نبلهم مقارنة بغيرهم، مثلما ارتدى الرومان والإغريق قبعات تدل على مكانتهم الاجتماعية، وشيئاً فشيئاً بدأت القبعات تستجيب للحاجات الإنسانية في التجمّل، ويلحظ المؤرخون تطوراً جمالياً كبيراً في أشكالها بدءاً من القرن الرابع عشر الميلادي. وظلت القبعات تتميز بألوان وأشكال شتى تبعاً لطبيعة الجغرافية والهوية والتقاليد لكل بلد، ولم تكن القبعات في تطورها التاريخي تفرِّق بين رجل وامرأة، لكن قد يطغى في فترة تاريخية معيَّنة استخدام جنس للقبعات أكثر من الجنس الآخر.
وعلى الرغم من أن القبعة في وقت ما كانت تعبيراً عن المكانة الاجتماعية المميزة للنخبة الحاكمة، إلا أنها ظلت كذلك رفيقة العامة والبسطاء. ولم يكن التمييز سوى في مستوى الأناقة ومادة القبعة، فكان الملوك يرتدون قبعات ريش النعام والتيجان المرصعة بالأحجار الكريمة، بينما يرتدي عامة الشعب قبعات القش أو القماش.
قبعات الملوك: تيجان
التاج هو رفيق رؤوس الملوك، منذ تاريخ البشرية البعيد حتى اليوم. بدأت التيجان بسيطة ومصنوعة من الزهور، ثم تطورت لتزينها المعادن النفيسة. وكان لها في العهد الفرعوني أشكال مرمّزة كالكوبرا والكبش وقرص الشمس مع قرون البقر، واشتهر (النمس) عند الفراعنة كغطاء رأس ملكي، ويتضح شكله بصورة جلية عند الملك توت عنخ آمون.
أصبح التاج معظّماً منذ ذلك الوقت، يختلف ما ترتديه الملكات عن تيجان الملوك، حتى أصبح عند الرومان مرتبطاً بالمكافآت وجائز اقتناؤه لدى العامة إذا قاموا بأفعال مشرّفة تحمي الملك. واستمرّت عادة لبس الملوك للتيجان على مر العصور، وما زال التاج في العصر الحالي يستمد حياته من تقاليد التتويج التي تقيمها الدول الأوروبية المرتبطة حتى اليوم بالنظام الملكي.
أما الطاقية فلن تجدها في قواميس اللغة العربية القديمة، لكنك ستجدها في كتب التاريخ وكتب الرحالة العرب والمستشر
صناعة متطورة مع الزمن
أضحت صناعة القبعات عملاً يدر الأرباح منذ وقت بعيد. ففي القرن الثامن عشر أطلق على الأوروبيين العاملين في صناعة القبعات اسم (الميللينرز) نسبة لمدينة ميلانو الإيطالية التي انطلقوا منها. وفي فرنسا كانوا يدعون «الشابولييه» قبل أن يسموهم «الموديست». وبحلول القرن العشرين صارت القبعات زياً أساسياً للخارج إلى الشارع، ثم أصابها الضمور مع بداية الحرب العالمية الأولى، إلى أن عاد لها الألق وأصبحت إكسسواراً مهماً للأناقة المكتملة بجانب وظيفتها العملية الملائمة للطقس، فصار لكل فصل من الفصول قبعته، التي أصبحت عنواناً لأناقة الرجل والمرأة، وصارت لها مدارسها المختلفة ومصمموها الذين يغذونها بابتكاراتهم المتماشية مع الأذواق والتطلعات. وتبع هذا التطور تطوراً في أشكالها وموادها وطريقة ارتدائها، حتى تدخلت ملامح الوجه والميول النفسية في تحديد القبعة المناسبة للشخص المناسب.
قبعات العرب:
قلنسوة وطاقية وغفارة وكلوتة.. و.. و..
القبعة التي عرفها العرب قديماً هي القلنسوة. ويطلقون عليها أيضاً القَلْسُوَة والقَلْساة والقُلَنْسِيَة والقَلَنْسَاة والقلْنِيسَةُ. بيد أن القبعة تتميز في الأصل بحافة دائرية ممتدة، وهو ما ليس موجوداً في القلنسوة، إلا أنها تُعد من القبعات لاحتوائها على مكونات أخرى موجودة في القبعة مثل الجزء الملامس للرأس ويسمى التاج.
وتُعرف المعاجم العربية القلنسوة على أنها ملابس الرُّؤوس وتجمع عندهم على قَلانِس وقَلاسٍ وقَلَنْس، وقالوا عنها قديما في شعرهم:
لا مهل حتى تلحقي بعنس
أهل الرباط البيض والقلنس
وروى ثعلب للعجير السلومي :
إذا ما القلنسي والعمائم أجهلت
ففيهن عن صلع الرجال حسور
طاقية الإخفاء: حلم في طور التحقق
كانت قبعة الإخفاء وما زالت، حلماً طفولياً يلازم الصغار والكبار على حد سواء، أمنية تدغدغ رغباتنا الإنسانية في التملص من قبضة الدنيا والسياحة في عالم الغيب مع مخلوقاته التي ترانا ولا نراها، مثلما تمثل قبعة الإخفاء عند البعض تحقيقاً لرغباته الشريرة في الهروب من استحقاقات الواقع أو استحقاقات الآخرين عليه، أو حينما يهُم أحدهم بفعل شائن لا يغتفره خجل الإنسان من نظر الإنسان، ليرتدي الطاقية السحرية ويفعل أفاعيله دون أن تمتد إليه نظرات الناس أو سلطتهم بالتقريع أو المنع أو المحاكمة.إذا قُدّر لطاقية الإخفاء أن تدخل عالم السينما العربية كموضوع أساس من مواضيعها، فإن هذه الطاقية قد خطت بالفعل خطوات حقيقية نحو التحقق على أرض الواقع عبر باب الاختراعات الحديثة. ويرجو الباحث الأمريكي بجامعة تكساس أندري ألو أن تتم ولادة طاقية الإخفاء الحقيقية على يديه الماهرتين في تقنيات الخداع البصري لدرجة الشهرة، حيث ظل يعمل على تصميم قبعة بوسعها إخفاء أي شيء تحتها.وتعتمد فكرة قبعة الإخفاء التي طرحها ألو وباحثوه المشاركين على استخدام التقنية التي تعتمد على وجود مصدر خارجي للطاقة، بعكس تقنية النانو التي تشتغل على انتشار الموجات الضوئية وتحويل اتجاهاتها؛ ومن المؤمّل أن يحوز نجاح هذه التقنية الجديدة على اهتمام العسكريين والأطباء والمشتغلين بصناعة الترفيه، بجانب مساعدتها على تطوير تقنيات الاتصال الخلوي واللاسلكي.وكان ألو قد صرح لوسائل الإعلام بأن القبعة المراد إنتاجها ستحتوي على شبكة كهربائية، وبطارية، ومكبرات تستخدم لرفع قدرة الإشارات. وسيكون باستطاعتها تخفيض تشتت الضوء ضمن مجال الترددات؛ ويشير إلى أن كثيراً من مشاريع الخداع البصري تعتمد على حجب الرؤية في ظروف معيَّنة أو لدى استخدام موجة واحدة للإشعاع الكهرومغناطيسي، إلا أنهم يريدون أن يجعلوا قبعة الإخفاء تعمل ضمن مجال واسع للموجات الكهرومغناطيسية.
وكانت تُسمّى عندهم أيضاً بالكُمة، وتعني القلنسوة المدورة التي تغطي الرأس.
قين الذين قدموا إلى بلاد العرب مستكشفين ومسجلين لعادات الناس وطبائعهم. والمرجح أن الطاقية قدمت من بلاد فارس للإشارة إلى قبعة تُلبس تحت العمامة، أو تعني في أصلها الفارسي عصابة تربط على الرأس.
ويبدو أن الطاقية قد مثَّلت دور المخفف لنزع العمامة الذي كان يُعد قديماً ضربٌ من العار. فأصبحت الطاقية وسيطاً بين التقيّد بلبس العمامة وبين تعرية الرأس تماماً، حتى أن المستشرق دوسي الكبير كان يصف القبعة بقوله: «العمامة المثلى».
ويبدو أن الطاقية بدأت تأخذ مكانها في الألسنة والكتب بين القرنين الخامس والثامن الهجريين خصوصاً عند الرحَّالة الأندلسي أبي حامد الغرناطي وعند ابن بطوطة.
للمتزينة غفارة وللمقاتل مغفر
وعرفت المرأة العربية قديماً أنواعاً من القبعات، منها الغفارة، وهي القبعة التي تعتمرها المرأة حينما تدهن شعرها. وعرّفها ابن منظور في لسان العرب بأنها خرقة تلبسها المرأة فتغطي رأسها ما قبل منه وما دبر غير وسط رأسها، وقيل: الغفارة خرقة تكون دون المقنعة توقي بها المرأة الخمار من الدهن. ويعتقد المستشرق الهولندي رينهارت دوزي أن الأندلسيين قد أطلقوا كلمة غفارة على الطاقية التي يسمونها في المغرب شاشية وتلبس عادة بدون عمامة.
وقريباً من الغفارة، وبعيداً عن استخدامها الأنثوي التجميلي، نجد المغفر كقبعة عسكرية صنعت من الحديد لتقي الفارس المقاتل شر السيوف والحراب والسهام، وعرف العرب منذ القدم المغفر كدرع من الحديد يوضع على الرأس كالقلنسوة.
وبظهور الطاقية في سماء العرب ورؤوسهم، ظهرت قبعة أخرى شبيهة بالطاقية هي الكلوتة. وقد يطلق عليها أيضاً الكلفتاة والكلفة، لكنها ارتبطت أكثر بالأمراء، وازدهرت صناعتها في العهد الأيوبي متزامنة مع العمائم التي كان يرتديها الأمراء بمسمى «الشربوش»، ويشهد المؤرخون للكلوتة بشأن كبير اكتسبته بعد أيام السلطان خليل ابن قلاوون، فكان نزعها وإلقاؤها على الأرض كفيل بإعلان سقوط الملك. حتى أنه حدث في سنة 710هـ أن قبض على الأمير جيراي نائب السلطنة بالشام فنزعت كلوته ومرغت بالأرض، وألبس عمامة صغيرة بدلاً منها، ففهم منها أنه فقد كل سلطانه ونفوذه.
وحينما عظمت أهمية الكلوتة كقبعة مرتبطة بالسلطة، صارت أكثر قيمة، حتى أنه يُحكى عن الوزير عبدالله بن زنبور أن ثروته ضمت ستة آلاف كلوتة.
العمامة: الأشهر عند العرب والمسلمين
تُعد العمامة من أشهر أغطية الرأس عند العرب، ولمكانتها وأهميتها قيل: «تيجان العرب العمائم» وكان للقبعة شرف الارتباط بالعمامة منذ العصور العربية الأولى وحتى هذه اللحظة التي يرتدي فيها كثير من العرب العمامة. فكانت القبعة دائماً – بمسمياتها القديمة كالقلنسوة والحديثة نسبياً كالطاقية – تلازم لبس العمامة لتكون بمنزلة الأساس لها كي ترتفع فوق الرأس ثابتة وشامخة ومميزة. وتأخذ العمامة عديداً من الأسماء تبعاً لاختلاف البيئات وطريقة لفها على الرأس، فهناك العمامة المُكَوَّرة، والعمار، والعصابة، والمعجر، والمقطّعة والتلثيمة، والمشوذ.
وعظّمت العرب العمامة حتى قال قائلهم إذا رأى شخصاً حسن الشكل: «أجمل من ذي العمامة». وكان سعيد بن العاص بن أمية يتميز بين العرب القدامى بجمال عمامته، حتى وصف بـ «ذو العمامة» و«ذو العصابة» كناية عن السيادة والعظمة والمسؤولية، وقيل: كان سعيد إذا اعتم لم يعتم أحد من قريش حتى ينزع عمامته، أو لم يعتم قرشي بعمامة على لونها. وعندما سئل الأحنف بن قيس عن علامات العز والسؤدد في العرب، قال: «إذا تقلَّدُوا السُّيوف، وشَدُّوا العمائم» فضلاً عن أبي الأسود الدؤلي الذي قال عن العمامة: «هي وقاية في الحرب، حافظة من الحرّ، ومِدْفأة من البرد، ووقار في المجلس، وواقية من الأحداث، وزيادة في القامة، وعادة من عادات العرب».
القبعة في الشعر العربي المعاصر
ورد ذكر القبعة في الشعر العربي المعاصر بدلالات مختلفة كل الاختلاف عن بعضها، والمختارات التالية تعبِّر عن تنوعها:لَبِسْتُ الآنَ قُبَّعَةً بَعيداً
عن الأوطانِ مُعتادَ الشُّجونِ
فإنْ هِيَ غَيَّرَتْ شكلي فإنِّي متى أضع العِمامةَ تعرفوني(علي الجارم)****لا أعرف كيف أجلس هكذا
رأسي قبعة الكون ويداي في جنون
لست متعَباً ولا حزيناً
أرى البياض أبراج الفوضى
ألمَسُ الحِبرَ وراحتي جنةُ الكلام(قاسم حداد)****
يثب الفنجان من لهفته
في يدي، شوقاً إلى فنجانها
آه من قبعة الشمس التي
يلهث الصيف على خيطانها(نزار قباني)****
كانوا ثلاثة عائدين
شيخ، وابنته، وجندي قديم
يقفون عند الجسر ..
كان الجسر نعسانًا، وكان الليل قبعة، وبعد دقائق يصلون
هل في البيت ماء ؟ وتحسَّس المِفتاح ثم تلا من القرآن آية
قال الشيخ منتعشًا: وكم من منزل في الأرض يألفه الفتى
قالت: ولكنّ المنازل يا أبي أطلال
فأجاب: تبنيها يدان
(محمود درويش)
****
ما إن أرى ورقةً رسميةً على عتبة
أو قبعةً من فرجة باب
حتى تصطكّ عظامي ودموعي ببعضها
ويفرّ دمي مذعوراً في كل اتجاه
أنا ليسَ لي عِلْمُ الحواةْ
(محمد الماغوط)
****
كَيْ أُخرِجَ الجبَلَ العظيمَ منَ الحصاةْ
وأَجُـرَّ آلافَ الفوارسِ كالأرانبِ
من بُطونِ القُبَّـعاتْ
أنا ليسَ لي عِلْـمٌ
بتعبئةِ الشجاعةِ في القناني
أو فنِّ تحويل الخروفِ إلى حصانِ !
أنا لستُ إلاّ شاعِراً
أَبصرتُ نارَ العارِ
ناشبةً بأرديـةِ الغُفاةْ
فصرختُ : هُبّـوا للنجاةْ
(أحمد مطر)
****
«بضعٌ وعشرونَ».. فَصَّلتُ الجنـاسَ لهـا
تفصيلَ «زِيٍّ» على أعطـافِ «عارضـةِ»
أهديتُ لـلرَّمزِ طربوشاً يُـظَـلِّلُهُ
وما بخلتُ على المعنَـى بِـقُبَّعَةِ
(جاسم محمد الصحيح)
بعد الإسلام ترسخت مكانة العمامة أكثر من أي وقت مضى، وثبت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يلبس العمامة ويلبس تحتها القلنسوة، وكانت لديه عمامة اشتهرت بالسحاب وعندما دخل مكة فاتحاً كانت عليه العمامة السوداء.
وكان القضاة عند العرب والمسلمين يتميزون عن غيرهم بضخامة العمامة. ومضت العزة بالعمامة أبعد من ذلك، حيث عُدّ من إكرام الرجل ضيفه أو صاحبه أن يلبسه عمامته.
وكانت العمامة قديماً مكاناً آمناً لحفظ الأشياء، حيث اشتهر العرب حينها بأنهم ينزلون عمائمهم منزلة جيوبهم حتى إن اللصوص كانوا يحرصون على اختطاف عمائم المسافرين للظفر بما تحتويه من غنائم.
ولا تتوقف وظائف العمامة عند هذا الحد، فكانت تستخدم في تكتيف السجين والأسير، ولهذا تحفل حكايات ألف ليلة وليلة بقصص من قبضوا عليه وأوثقوه بعمامته. وكان لف العمامة على الرأس وحول العنق دليلاً على الانقياد والطاعة للأسياد والملوك ويقولون «فلان عمامته في عنقه».
ولهذا كان الجاحظ يقول: «للخلفاء عِمَّة، وللفقهاء عِمة، وللبقالين عمة، وللأعراب عمة، وللصوص عمة، وللأبناء عمة، وللروم والنصارى عمة، ولأصحاب التشاجي عمة».
وخلافاً للوظائف الحيوية، كانت للعمامة وظيفة مميتة، إذ كانت تستخدم في الخنق والشنق، وربما أودت بكثيرين إلى حتفهم بالانتحار طوعاً أو كرهاً. وكان أهل الهند – كما كان يحكي ابن بطوطة في رحلاته – يضعون العمامة على أعناق خيولهم إذا أرادوا الموت.
ولم تندثر العمامة من حياة العرب اليوم، فما زال يرتديها أهل مكة وجدة من السعوديين، والعمانيين والسودانيين والموريتانيين واليمنيين وبعض المصريين والطوارق.
وتميزت العمامة المكية (الغبانة) الشهيرة بين أهل الحجاز عن غيرها من العمائم بنسيجها ونقوشها وطريقة لفها، وما زال أبناء الحجاز يجتهدون في تطويرها بلمسات حداثية لتواكب العصر وتواجه الاندثار.
ولم تنحصر العمامة كذلك في العرب والمسلمين، فقد لبسها منذ وقت قديم الأوروبيون واختلف المؤرخون في شكلها وموادها المصنعة منها. وما زالت العمامة تميز عِلْيَة القوم في بعض الطوائف، حيث يلبسها كبار رجال الدين عندهم وتسمى العمامة المكورة أو المكولسة وكانت مقصورة على لبنان وفلسطين، وهي نوعان الأولى عادية بطربوش أحمر ملفوف بقماشة بيضاء والثانية هي العمامة المكولسة التي تعود إلى ما قبل أيام الانتداب الفرنسي.
أما عند طائفة السيخ في الهند، فيجب على كل فرد ارتداء العمامة بألوان ترمز إلى الشرف والهوية الدينية وحرصاً على تغطية الشعر غير المقصوص، وهي عمامة طويلة قد تبلغ ثمانية أمتار ويلبسها السيخي منذ أن يبلغ الخامسة من عمره.
الطرطور: قبعة السخرية والعقاب
تروي حكايات ألف ليلة وليلة أن سيدة في مقتبل عمرها قالت للأمير (شركان) بعد أن صرعته في مبارزة وهي تضحك: «كأنك طرطور بدوي تقع من بطشة» وقد تحوَّلت هذه المقولة فيما بعد إلى مثل يتداوله الناس.
كان لابسو الطرطور من أهل البادية المصرية يحتفون بطراطيرهم إلى الدرجة التي جعلتهم يقسمون بها على ما أرادوا تعظيمه أو الصدق فيه. وهو ما نقلته حكايات ألف ليلة وليلة. وكان الطرطور في بداية الأمر يرمز إلى السماحة ولين القول والجانب حتى إن لابسه حينما يقول إن «طرطوري يقع من أول ضربة» فإنه يعني لين عريكته وإمكانية تبديل رأيه، إلا أن الصورة المضحكة والمستخفّة بالطرطور كقبعة مثلها مثل كثير من القبعات التي يلبسها الناس، لم ترتسم بشكل كبير إلا عند سكان المدن الذين كانوا يستخفون آنذاك بالبدو الذين يلبسون الطراطير.
وقد وصل الأمر بالطراطير أن جعلت ملبساً لرأس المجرم، والعدو المنهزم، والتصقت بها منذ ذلك الوقت صفة السخرية والضعة. ويُروى أن صلاح الدين الأيوبي خلال حصاره للقدس، أجبر أسيره غي دي لوزينيان على ارتداء طرطور وأجلسه على حمار واستعرضه أمام الفرنجة المحاصرين في المدينة لزعزعة معنوياتهم. إلى أن ظهرت «قبعة الأغبياء» المخروطية الورقية، التي كان يُجبر على ارتدائها تلاميذ المدارس إمعاناً في معاقبتهم على شقاوتهم أو تقصيرهم في واجباتهم المدرسية، وتحوَّلت هذه القبعة إلى (أيقونة) للغباء في كثير من الثقافات الشعبية والرسوم الكاريكاتورية المتحركة.
نصيب القبعات من الأمثال
إذا أردت ان ترأس فعليك بقبعة رأس.
قبعات كثيرة، لكن لا ماشية.
لبس القبعة، ولحق ربعه.
الغاوي ينقط بطاقيته.
منكس الطاقية وعاملها عنترية.
حبك في قلبي يا بهية زي حب الأقرع للكوفية.
طاقية ده في راس ده.
الطاقية لو وقعت من الراس بتلزم الكتف.
عريان ولابس طاقية.
راسين في قحفيّة.
الطربوش بدلالاته المتناقضة
لمع نجم الطربوش في البلاد العربية خلال العصر الحديث – كقبعة حمراء ذات ذيل خيطي أسود يتدلى من أعلاها – بفضل الأتراك، وخفت بريقه –للمفارقة- على يد الأتراك أنفسهم. فأول من فرض لبس الطرابيش في البلاد العربية كانوا هم الولاة العثمانيون، كما أن أول من حارب ارتداء الطربوش في تركيا هو كمال أتاتورك، تعبيراً عن محاربته لكل مظاهر الإمبراطورية العثمانية. لكن المؤكد أن الطربوش كان سابقاً للأتراك ولوجودهم في البلاد العربية. إذ يؤكد كثير من المؤرخين العرب والمستشرقين أن الطربوش ظهر مع مطلع القرن السادس عشر الميلادي وقيل إنه تحريف لكلمة سربوش الفارسية التي هي شربوش في العربية، وكان متداولاً في مصر بمسمى الشاشية وهو الاسم نفسه الذي يُعرف به في المغرب. وكان شائعاً في سوريا ويختلف عن المصري بعدم ملامسته الكاملة للرأس وميلانه إلى أحد جوانبه.
وكان الطربوش في السودان قبعة شائعة الاستخدام يرتديه موظفو الدولة والفقهاء وتلاميذ المدارس والمثقفين الذين كانوا يُعرفون بالأفندية، كما كان رمزاً اشتهر به قادة حركة اللواء الأبيض الذين كانوا يُعرفون بثوار حركة 1924م فاتخذ بعضهم الطربوش انحيازاً لمصر وثورتها بقيادة سعد زغلول كمقابل ثوري يرمز لرفض إملاءات الاستعمار البريطاني الذي كان يريد أن يعمم القبعة بدلاً للطربوش الذي ارتبط بالحكم التركي في مصر والسودان.
وفي لبنان خلال مرحلة الانتداب الفرنسي، أصبح ارتداء الطربوش رمزاً للانتماء السياسي. فالذين كانوا يعتمرونه كانوا من أنصار الاستقلال عن فرنسا والانضمام إلى سوريا، أما الذين ارتدوا القبعات الغربية، فكانوا من أنصار الانتداب، أو أقله من المتحفظين على الوحدة مع سوريا.
أشهر مصممي القبعات
خلال مسيرة التصنيع الإبداعي للقبعات الممتدة، اشتهر كثير من مصممي القبعات على مستوى العالم بتصميم قبعات جذَّابة ومتماشية مع الموضة والحاجة الإنسانية. فعرف الناس منذ القرن الماضي عديداً من الأسماء اللامعة أمثال إيلسا سكابيريللي التي نقلت القبعات النسائية من محطات الصرامة إلى الطرافة متعاونة لتحقيق هذا الهدف مع فنان السريالية سلفادور دالي، ثم أعقبتها الأمريكية ليلي داشيه، والمصمم الفرنسي كريستوبل بالنسياغا الذي لفت الأنظار بتصاميمه الضئيلة والمتضخمة للقبعات، ثم ظهرت فيفان ويستوود، وفيليب تريسي، أوليفيير شانان، جيورجيو أرماني، جون غاليانو، مارك جايكوبس، ستيفن جونز، والمصمم الياباني الشهير أكيو هيراتا، ولن ننسى المصمم الأسترالي فريمان فوكي الذي صمّم قبعات للأميرة ديانا وهيلاري كلينتون وجوان كولينز ونجوم الأفلام الكلاسيكية وقدَّم مئات القبعات للملكة إليزابيت خلال ثلاثين عاماً.
أما اليوم فما عاد للطربوش الملبوس على الرأس سوى سيرة التاريخ القديم يستذكرها الناس في الكتب والفلكلور والمتاحف والأعمال السينمائية. وعلى الرغم من ذلك، يظل الملمح الاجتماعي للطربوش عصياً على الزوال النهائي، فما زالت الأسر العربية التي ارتبطت بصناعة الطرابيش تحتفظ به في ذاكرتها العائلية وأسماء شهرتها بين الناس، كعائلة طرابيشي في الشام التي اشتهرت قديما بتصنيع الطرابيش.
أغطية رؤوسنا اليوم
يكاد الشماغ العربي بطرزه المختلفة أن يكون غطاء الرأس الأقوى حضوراً في عالمنا اليوم، من بين كل أنواع أغطية الرأس والقبعات المعتمرة في العالم. فهو جزء من اللباس اليومي للملايين في كل دول الجزيرة العربية، وأيضاً في العراق وسوريا وإلى حد ما في الأردن ومصر. وبذلك يكون قد تحوَّل عن جدارة إلى رمز من رموز الانتماء إلى الهوية العربية في نظر كل من يراه من شعوب العالم المختلفة.
وبعد الشماغ التقليدي، وبمسافة شاسعة، تظهر عندنا وعلى رؤوس شبابنا قبعات من طرز مستوردة، قد يكون أشهرها قبعة «البايسبول» الأمريكية التي يرى الشبان أنها سهلة الاستخدام، ولربما رأوا فيها أيضاً تعبيراً عن انتمائهم إلى «الحداثة»، بسبب رواجها العالمي. ولكن، لحسن الحظ لا تزال الطرز المستوردة هذه أضعف وأقل شأناً من أن تنافس الشماغ على مكانته.
أما أغطية الرأس والقبعات التي تلعب عند شعوب العالم الدور الذي يلعبه الشماغ العربي على مستوى الهوية، فهي كثيرة، نذكر منها:
• قبعة الهنود الحمر
• قبعة رعاة البقر(الكاوبوي)
• القبعة المكسيكية (سومبريرو)
• القبعة الروسية (أوشنكا)
• القبعة الكولمبية (فيولتياو)
• القبعة القوقازية (باباخا)
• القبعة الصينية
• القبعة الأسترالية (أكوبرا)
• القبعة الفلبينية (سالاكوت)
• القبعة الفرنسية (بيريه)
القبعات الرياضية.. أشكال وألوان
لاعبو البيسبول: قبعة أنيقة وخفيفة وقد تستخدم خارج الملاعب.
راكبو الدراجات البخارية: قبعة قوية في شكل خوذة لكامل الرأس.
راكبو الدراجات الهوائية: قبعة ذات فتحات لتهوية الرأس.
السباحون: قبعة مطاطية تلتصق بالرأس تصنّع عادة من السيلكون.
لاعبو كرة القدم الأمريكية: قبعة حديدية في شكل خوذة تغطي كامل الرأس.
لاعبو الهوكي: قبعة حديدية تشبه قبعة كرة القدم الأمريكية.
مصارع الثيران: قبعة خفيفة مستديرة قد تكون سوداء أو حمراء.
أرني قبعتك أقل لك مَنْ أنت
واليوم ترتبط مهن كثيرة إلى حد كبير بقبعاتها. من هذه المهن الطب لا سيما قبعة الطبيب حينما يدخل غرفة العمليات وهي غالباً قبعة خضراء أو زرقاء خفيفة وشفَّافة، بينما تتميز الممرضات بقبعة بيضاء صغيرة تزيّن مقدمة الرأس، وهي قبعة ترتديها الممرضات من دون الممرضين الرجال. أما الطهاة فيمتازون بقبعة بيضاء طويلة ومستقيمة، قد تنتهي أحياناً بتكورات منتفخة، وقيل إنها أخذت هذا الشكل لتسمح بتسهيل مرور الهواء وتقليل أثر حرارة المطبخ على الطباخين. ومن الذين ترى قبعاتهم فتعرف وظائفهم: العسكريون بكافة رتبهم، ورجال الشرطة، ورجال الإطفاء، والبحّارة، والطيارون والصيّادون وعمال البناء والمناجم. أما إذا كنت معتمراً قبعة زرقاء فأنت تنتسب إلى بعثة من بعثات الأمم المتحدة المنتشرة في العالم لحفظ الأمن والسلام. بينما لو كنت معتمرا للقبعة السوداء المربعة التي تتدلى منها خيوط حمراء أو سوداء فأنت خريج جامعي على أعتاب مهنة جديدة.
حتى القبعة صارت ذكية!
لأن المكان الذي تعلوه القبعة هو المكان الأغلى عند الإنسان (الرأس)، كان لابد للدراسات الحديثة أن تمنح بعض وقتها للقبعات. صارت القبعة مجالاً لتطبيق الأفكار الجديدة وإنزالها على أرض الواقع على نحو ما نشاهده ونسمعه من حين لآخر عن اختراعات جديدة في شكل قبعات تساعد الإنسان على مواجهة أمراضه باقتدار. من هذه الاختراعات (قبعة التعبير عن المشاعر) وهي قبعة بأذنين يرتديها الشخص فتتحرك طبقاً لاختلاجات مشاعره الإرادية وغير الإرادية. فإذا شعر بالحزن تنخفض الآذان لأسفل، وتقف في حالة السعادة وتهتز في حالة الشعور بالتسلية، ويستفاد من هذا الاختراع الياباني في تسهيل التعبير عن المشاعر المكبوتة بتحويله لما يحدث في الأعصاب إلى حركة مرئية.وثمة اختراع ياباني آخر لقبعة ذكية لمراقبة نشاط الدماغ، وتستخدم هذه القبعة التحليل الفوري لنشاط الدماغ عن طريق تغيّر ألوان الإشعاعات الضوئية للصمامات وعرض النتائج على شاشة تلفزيونية.وتمضي شركة سويدية في تجربة قبعة تدعى (ديجنيكاب) تقي مرضى السرطان الخاضعين للعلاج الكيميائي من تساقط الشعر، وتحوي القبعة على مرهم يبرّد بصيلات الشعر ويحد من امتصاصها للمواد الكيميائية الموجودة في العلاج. ويؤمل مخترعو هذه القبعة أن يستفيد منها حوالي %65 على الأقل من مرضى السرطان الذين يتلقون العلاج الكيميائي ويخسرون بسببه شعرهم كأثر جانبي للعلاج، وهو ما يسبب للكثيرين أضراراً نفسية بالغة تؤثر على حياتهم الاجتماعية.
للقبعات جمعيات
لا يعرف قيمة القبعات إلا من ينتسب إليها. شرف الانتساب إلى القبعات تتقلده كثير من جمعيات المجتمع المدني التي تتمركز حول القبعة وتساهم في تطويرها، من هذه الروابط المدنية: جمعية القبعات الأمريكية التي أسست في العام 1908م بالولايات المتحدة الأمريكية، وتشتهر بإصدارها قائمة سنوية بأفضل معتمري القبعات في العالم من المشاهير، وتشرك جمهورها في التصويت للأفضل عبر موقعها الإلكتروني.أما جمعية القبعات الحمراء بأوروبا وأمريكا فلعلها استلفت من الأديب الفرنسي فيكتور هوجو قولته الشهيرة: «أنا الذي ألبس الأدب الفرنسي القبعة الحمراء» للدلالة على الجمال، وكذلك فعلت هذه الجمعية لتستعيد جمال النساء بعد أن يتجاوزن سن الخمسين، وقيل إنها تأسست بالصدفة حينما اشترت سيدة أمريكية باقة زهور وقرأت مطلعاً من قصيدة للشاعرة الإنجليزية جيني جوزيف تقول فيها: «عندما أصبح امرأة مسنة سأرتدي اللون البنفسجي وأضع قبعة حمراء لا تناسب عمري». لقد تفاجأت الأمريكية سو إيلين كوبر بالجمعية التي أسستها، ولم يدر في خلدها أن تجد النجاح والاهتمام الكبيرين. وهي تتخذ من جمعيتها هدفاً واحداً هو إسعاد النسوة اللاتي بلغن الخمسين من العمر. وتوزعت الآن الجمعية على ثلاثين دولة كما تقول كوبر، ولا يشترط للانضمام إليها سوى التزام النساء اللاتي تقل أعمارهن عن خمسين عاماً بارتداء قبعات وردية اللون، وأن يطلق على المرأة المؤسسة لكل فرع لقب الملكة الأم.
a
القبعة في السينما: للفكاهة ولأناقة الفكرة وغموضها
في علاقة القبعة بالفن السابع، نتذكر الفِلم العربي «طاقية الإخفاء» الذي أنتج في العام 1959م ببطولة عبد المنعم إبراهيم وزهرة العلا وإخراج نيازي مصطفى. ولأن القبعة- كما يقول المخرج الروسي سيرغني بارجانوف: «رمز للنوعية، إشارة للنزعات الفنية، وفوق كل شيء، هي رمز للذوق واللياقة وآداب السلوك»، اهتمت بها السينما الغربية، فظهرت بوضوح وفاعلية في سلسلة أفلام هاري بوتر خاصة فِلم «هاري بوتر وحجرة الأسرار» حيث يرتدي تلاميذ مدرسة هوغورتس «قبعة التنسيق» السحرية فتريهم ما في دواخلهم.ومن الأفلام التي تعود إلى القرن الماضي، الفِلم الفرنسي الكوميدي «السيدات في القبعات الخضراء» الذي عرض في العام 1929م وأخرجه أندريه بيرثومي، والفِلم الأمريكي الكوميدي «القبعة العلوية» المنتج في العام 1935م وأدى فيه دور البطولة فريد أستير وجنجر روجرز، وفِلم «القط في القبعة» المنتج في العام 2003م للممثل الكندي مايك مايرز الذي يجسد شخصية القط اللعوب ذي القبعة الحمراء الطويلة الذي يُدخل البهجة في قلبي طفلين وحيدين في المنزل بمقابل الفوضى التي تعم المكان.ولا تنتهي الفكاهة السينمائية مع القبعات، فها هو ذا الفِلم الإيراني «القبعة الحمراء والطفل المدلل» للمخرج إيرج طهماسبي، استطاع في يوم واحد تحطيم الرقم القياسي لأعلى إيرادات مالية في دور السينما الإيرانية، ويرجع كثيرون نجاحه إلى خفة دمه ومخاطبته لشريحة الأطفال واهتمامه بالتسويق المنظم.وفي العام 2008م عرض الفِلم الوثائقي «رجال مع قبعات» للمخرج ألفيس ويلسون. ومن أفلام الحرب الفيتنامية التي عرضت في العام 1968م نشاهد فِلم «القبعات الخضر» لجون واين الذي يسرف في وصف «النبل والبطولة» الأمريكية في الحرب.
في صياغة الشخصيات السينمائية من شارلي شابلن إلى جوني ديب
شخصيات سينمائية كثيرة ستفقد بريقها مع أول وهلة نزيل فيها قبعاتها من على رؤوسها، لأن لحم الشخصية ودمها وطبائعها امتزجت مع شكل القبعة التي ترتديها بطريقة تجعل من المستحيل المجازفة بإبعادها عن قبعاتها. شخصيات عديدة كان لها فضل التغلغل في دواخلنا بمشاركتنا لمشاعرها، ارتسمت في أذهاننا بقبعاتها المميزة، من هذه الشخصيات السينمائية شخصية القرصان جاك سبارو في فِلم «قراصنة الكاريبي» التي برع في أدائها الممثل جوني ديب الفائز بلقب أفضل معتمر للقبعة في العالم في الحياة الواقعية. ولذلك لم يكن غريبا أن يبدع في تقمص شخصية جاك سبارو بقبعته المخيفة في الفِلم، ولك أن تعرف أن قبعة البحارة الجلدية التي ظهرت بها شخصية سبارو كانت من إضافات جوني ديب على الشخصية.واشتهر الممثل الكوميدي تشارلي شابلن بقبعته السوداء التي عندما بيعت حققت أكثر من ثمانية عشر ألف دولار. وكان للقبعة دور كبير في نجاح شخصية (ذا ترامب) التي امتاز بها تشارلي شابلن في القرن العشرين، وكان شابلن يعتمر هذه القبعة في جولاته في الولايات المتحدة وإنجلترا، وأصبح بقبعته الهزلية من أفضل الممثلين الإنجليز في نهايات الحرب العالمية الأولى. إذ طالما كان مصراً على اختيار القبعة لتكمّل شخصية الصعلوك التي اعتبرت من الشخصيات الأساسية لشابلن المرح والمضحك.
أما شخصية السباك الإيطالي سوبر ماريو فظهرت كلعبة فديو في ثمانينيات القرن الماضي على يد المصمم الياباني شيغيرو مياموتو، وظلت تطور نفسها مع تطور تقنيات الألعاب والرسوم الكاريكاتيرية. وقيل إن قبعة ماريو الحمراء ما كان لها لتظهر إلى الوجود، لولا عجز الرسام على إيجاد شعر مناسب للشخصية الكاريكاتيرية.وتشتهر في أوساط الأطفال، قبعة رامي الصياد الصغير في مسلسل الرسوم المتحركة التي أنتجته شركة «نيبون أنيميشن اليابانية» عام 1980م، مقتبساً من سلسلة مانغا للمؤلف الياباني تاكاو ياغوتشي. وتتميز شخصية رامي المحب لصيد السمك، بقبعة الصيادين الكبيرة والمستديرة.
واكتسب ذات الاهتمام الطفولي، مسلسل الرسوم المتحركة «أسطورة زورو» المنتَج بشراكة إيطالية يابانية ليحكي عن شخصية زورو الذي يواجه الأشرار بوجه مقنّع ورأس مغطّى بقبعة سوداء، كما شاهدناه في الحلة نفسها في فِلم سينمائي، وقبل ذلك في القصص المصورة المطبوعة.
القبعة في الفن التشكيلي
يكاد تاريخ الفن الأوروبي، خاصة في مجال رسم الصور الشخصية أن يكون توثيقاً لما كانت عليه طرز القبعات وأغطية الرأس في أوروبا مند عصر النهضة وحتى اليوم. ولو توقفنا أمام عيِّنات من الفن المعاصر، لوجدنا أن الفنان الإسباني بابلو بيكاسو اهتم في أعماله التشكيلية بالقبعة بقدر اهتمامه بالمرأة، فحضرت القبعة في أعماله الشهيرة والمهمة مرتبطة في أحيان كثيرة بالمرأة، مثل لوحته الشهيرة «المرأة الباكية» التي رسمها في العام 1937م لتجسد شخصية زوجته دورا مار التي تزوجها قبل سنتين من إنجازه لهذه اللوحة، فتناظرت الدموع مع القبعة الحمراء ذات الوردة الزرقاء، وقيل إن دورا كانت تعشق اعتمار القبعات التي ظل يحولها بيكاسو إلى أشكال تتقلب بين الفكاهة والسخرية الحزينة. وتركز اهتمام بيكاسو بالقبعات في الفترة التي كان يميل فيها نحو المدرسة التكعيبية ومن أشهر لوحات هذه الفترة لوحة «الرجل بالقبعة» أو«قبعة الغيبوس» التي بيعت لصالح جمعية خيرية تعمل لإنقاذ آثار مدينة صور اللبنانية.ودخلت القبعة الفن السريالي عبر فنانها الشهير سلفادور دالي بلوحته”رجل في قبعة وسترة” حيث تمتد القبعة الطويلة ليستقر جزء منها في رأس الرجل ويهرب الجزء الآخر ليستقر على عكازة من لسانين.ولأن الفنان السريالي البلجيكي رينيه ماجريت كان يحب التخفّي، كانت القبعة من أدواته المهمة في إنجاح مهمته، فكان دائما يرسم الوجوه متوارية خلف شيء ما، مثل لوحته التي رسمت في العام 1964م «الرجل ذو القبعة السوداء المستديرة» وظهرت القبعة كذلك في لوحته الشهيرة «ابن الإنسان» لتشارك التفاحة الحمراء طقس الاختباء المحبب.
القبعة في عالم الرواية والمسرح
استخدم كثير من الروائيين في العالم القبعة كرمز إنساني ثقافي يمتاز بتمدد جغرافي وتاريخي يؤهله للتأثير في أوساط اجتماعية متعددة. ولذلك رأينا القبعة تظهر في كتابات أدبية قديمة كرواية «القبعة ثلاثية الأبعاد» للروائي الإسباني بيدرو أنطونيو دي ألاركون الذي ولد في غرناطة في العام 1883م واشتهر بكتاباته المتأثرة بالواقعية، إلا أن روايته «القبعة ثلاثية الزوايا» المنشورة في العام 1871م كان لها صدى شعبي كبير. ومن الروايات الغربية الشهيرة المرتبطة بالقبعات رواية أستاذ علم الأعصاب أوليفر ساكس «الرجل الذي حسب زوجته قبعة» التي يشخّص فيها مرض بطل روايته الموسيقي المصاب باضطراب بصري لا يمكّنه من رؤية المشاهد متكاملة فيكتسب قدرة خارقة على تبسيط الأشياء وفق أشكالها الأساسية، وعلى هذه الطريقة يتعامل مع من حوله، لا سيما زوجته التي يراها في شكل قبعة.على المستوى العربي، نجد الكاتب والروائي المصري يستعين في روايته «العمامة والقبعة» بفكرة المقابلة ما بين المظاهر الثقافية الشرقية والغربية. فيختار القبعة الأفرنجية مقابلاً للعمامة العربية، ويعكس صاحب «اللجنة» في روايته «العمامة والقبعة» أجواء الاحتلال الفرنسي لمصر بلسان بطلها المتتلمذ على يد المؤرخ المصري الشهير الجبرتي.
وتتساءل الرواية في مجملها المُمَازِج بين التاريخية والتخييل عن حقيقة التاريخ المكتوب وصدقيته.أمّا الكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني فكتب مسرحيته القصيرة الشهيرة «النبي والقبعة» في العام 1967م دون أن يشهد نشرها في حياته. المسرحية التي تغلب عليها النظرة الفلسفية تدور حول محاكمة شاب فقير متهم بلا شئ. وقريباً من المعالجة المسرحية، ظهرت رواية «قبعتان ورأس واحد» للكاتب الأردني مؤنس الرزاز التي تحوَّلت فيما بعد إلى مسرحية تدور في عمارة من العمارات.وهناك رواية «قبعة الوطن» لزكريا عبدالجواد التي تتخذ من الهند موطناً لعالمها الروائي. بجانب رواية الخيال العلمي لطالب عمران «زمن القبعات المنتفخة والألسنة الطويلة» وهي رواية تتحدث عن مدينة تعيش في المستقبل وتتعرض لوباء الألسنة الممدودة، والرؤوس الضامرة المعتمرة للقبعات المنتفخة طمعاً فيما عند التجار الوافدين إلى المدينة الغريبة.واستطاعت القبعة أن تضع الكاتبة الأردنية تغريد النجار في القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب عن فئة أدب الطفل والناشئة في دورتها الثامنة 2014م، لقصتها «قبعة رغدة»، وتحكي القصة المنشورة عن دار السلوى الأردنية عن الفتاة رغدة التي تنتقل مع أسرتها إلى منزل جديد وتواجه أوضاعاً صعبة للتأقلم مع المحيط الجديد بسبب قبعتها التي ترتديها طوال الوقت، ولا ينصلح حال رغدة مع صديقاتها الناقمات عليها، إلا حينما تكشف لهن عن سر اعتمارها الدائم لقبعتها.
قبعات في كتب
من الكتب الحديثة التي تناولت مراحل تطور القبعات في العالم كتاب «القبعات: المنزلة الرفيعة والأناقة والسحر» لمؤلفه كولن ماكداول؛ أما الكتب التي حضرت القبعة في عناوينها فمنها كتاب «قبعة فيرمير: القرن السابع عشر وفجر العولمة» للمؤرخ البريطاني المتخصص في تاريخ الصين تيموثي بروك بترجمة شاكر عبد الحميد ويستعرض الكتاب بدايات العولمة المتجسدة في لوحات الفنان فيرمير والمتمثلة في تفاصيل عالمه التشكيلي كالقبعات، والكؤوس والفضة وأطباق البورسلين والخرائط وغيرها، كما يتتبع تاريخ الرحلات البحرية والحروب التي دارت بين الأمم في الشرق والغرب في ذلك الوقت.ويجيئ مرتبطاً بالقبعة كتاب «القبعات الست للتفكير» للدكتور إدواردر ديبونو ليشرح فيه نظريته التنموية حول القبعات الست. وصدر حديثاً عن مركز الأهرام للترجمة والنشر كتاب «السودان: القبعة والعمامة: زلزال انفصال الجنوب وتوابعه» للكاتب حمدي الحسيني الذي يناقش التأثيرات المتوقعة لانفصال جنوب السودان عن الوطن الأم، ومن الكتب الصادرة حديثاً أيضاً كتاب «قبعة القذافي: سقوط طاغية وقيام أمة» وهو كتاب للمراسلة الصحفية أليكس كراوفورد التي تحكي فيه عن يومياتها الخطرة في ليبيا.
بين خلعها وحظرها
للقبعة كامل الحق والحرية في الظهور على رؤوس الناس في العالم، وفي أي مكان يرتادونه. هذا هو الأصل الذي ظل يتعرض للاستثناءات من حين لآخر، حيث تفرض الظروف وتقتضي الضرورات أن يتم منع القبعات من أداء مهامها الاعتيادية على الرؤوس. قد يكون منع القبعات مرتبطاً بهوية المجتمعات وثقافاتها، التي قد ترى في قبعة ما مهدداً للهوية المحلية التي تعارفت على نوع معيَّن من القبعات وأغطية الرأس، وقد يكون سبب المنع أمنياً، مثلما منعت الشرطة الفيلبينية في مانيلا اعتمار قبعات تخفي ملامح الوجه في المراكز التجارية لردع اللصوص عن إخفاء هويتهم من كاميرات المراقبة، وتوصلت الشرطة إلى هذا الإجراء الاحترازي بعد استعانة لصوص بقبعات بيسبول لإخفاء هوياتهم عند سرقتهم متجراً للمجوهرات.وهناك قبعات تم منعها لأخطارها الصحية على مرتديها، مثل الخوذة الواقية التي ظل يلبسها الملاكمون الهواة في مبارياتهم لتقليل إصابات الرأس، حيث حظرت رابطة الملاكمة الدولية (أيبا) ارتداء هذه القبعة على الملاكمين الهواة أسوة بالمحترفين لأنها تحجب الرؤية المحيطة باللاعب، وتجعل من الصعب معرفة مكان تلقى اللكمة التالية من اللاعب الآخر على جانب الرأس. ويؤكد باحثون أن دراسات سابقة أظهرت أن عدم وجود غطاء واقٍ للرأس في لعبات الملاكمة يقلل من خطر الإصابة بالارتجاجات لشعور اللاعب المنافس بالخوف إذا ما وجَّه لكمات مميتة على رأس اللاعب الآخر فى عدم وجود وقاية كاملة للرأس.ويخلع الناس قبعاتهم في العادة حينما تنتفي الحاجة إليها. لكنها في أحوال كثيرة، وبفضل التقاليد والأعراف، صارت تخلع أمام الآخرين لإثبات الاحترام، وأصبح رفع القبعة رمزا لإلقاء التحية، وهو تقليد غربي قديم أنتجته طرائق الأدب في التعامل مع الملوك، كما صار من آداب السلوك في أوروبا فيما بعد، أن يبادر الرجل إلى خلع قبعته في الأماكن المسقوفة، بعكس المرأة التي بإمكانها ارتداؤها. بينما يكون على الجميع خلع القبعة في دور السينما والمسارح والملاعب حتى لا تحجب الرؤية عن الآخرين، وتقتضي تقاليد كثير من الشعوب على الضيف خلع قبعته ومعطفه قبل الدخول إلى بيت المضيف.