إذا كانت هذه الزاوية في القافلة مخصصة لمحاورة فنان في محترفه، فما وجدناه حين وصلنا لمقابلة أحمد ماطر لم نكن نتوقّعه.
حين انتقل أحمد من أبها إلى جدّة منذ حوالي ثلاث سنوات، وكان يتحدّث عن إنشاء محترف، كان الظن أنه مجرّد انتقال من أبها إلى هنا، حاملاً ما قد أسسه هناك ليكمل المشوار نفسه. لكن اتضح الآن أنه أكثر من انتقال، بل نقلة، وليس نقلة واحدة بل نقلتان. فالمكان الذي استقبلنا عند مدخله ليس محترفاً مستقراً لرسام أو نحَّات، أو حتى متعدد الاهتمامات، كما هو أحمد ماطر، بل هو مكان لا يبدو فيه شيء على استقرار سوى المكتبة التي تملأ جداراً كاملاً. فيما عدا ذلك صناديق تصوير فوتوغرافي بعضها فوق البعض. أدوات الرسم ليس لها وجود، وشرح أحمد أنه رفعها إلى الدور الأعلى ريثما تنتهي إعادة هيكلة المكان للمشروع الجديد. جدار عليه صفحات صحف صُفر قديمة، جدران بيض غير مكتملة المعالم تنتظر أعمالاً فنية.
فما هي الحكاية وأين نحن بالضبط يا ترى؟
كان معه عند الباب شابان عرفنا أن أحدهما مصمم فني والآخر سينمائي. وعندما أوضحنا له أن طبيعة هذه المقابلات هي حوار مع محترف الفنان أكثر منها حوار مع الفنان، ابتسم وكان ذلك هو بالنسبة له غب الطلب، لأنه يريد أن يشرح ما هو عازم عليه مع زملائه. قال: «وصلت إلى اقتناع دفعني بعيداً عن الفنان القابع منعزلاً في مرسمه. لا أسعى إلى فنان ينفعل بالمجتمع فقط، بل فنان يفعل به».
ما نقوم بإنشائه هنا ليس محترفاً لفنان، بل هو مكان للمشاركة بالأفكار والعمل الفني. فيه مكتبة، وغرفة تظهير أفلام تقليدية dark room ومختبر واستديو تصوير. إنه مساحة مفتوحة لتبادل الأفكار والتفاعل الثقافي إنه مقهى فكري وصالون فني ومجلس ثقافي. سمّه ما شئت. نحن نخلق هنا ما يسمى «حاوية تفكير» (think tank).
مغادرة أبها كانت مغادرتين
أحمد ماطر الذي غادر أبها، غادر في الحقيقة مدينة ومهنة في آنٍ معاً. كان ذاك المنعطف هو آخر صلة له بمهنة الطب، التي مارسها في المستشفى هناك طوال سنين. وخلال تلك المدة لم يكن أثر المهنة على فنه من خلال المنحى الاجتماعي أو الإنساني غير المباشر، بل كان لها تجسيدات مباشرة جداً. وبينما أخذ أحمد الطبيب الناشئ، يُعرف بأعماله الفوتوجرافية لطبيعة عسير (نشرت القافلة له في حينه فاصلاً مصوراً مكرساً لسحر طريق الهدا)، ظهرت له فجأة مجموعة من الأعمال الفنيّة الخلابة والغريبة في آنٍ معاً، فيها استخدام واسع لصور أشعّة إكس بشكل مفاجئ. وحين حملها إلى لندن كانت أوّل ما لفت نظر الأوساط الفنية العالمية إلى موهبته.
أحمد ماطر في سطور
ولد أحمد ماطر عسيري بمدينة تبوك عام 1979م.
نشأ متأثراً برسوم والدته للمنازل العسيرية الشعبية برجال ألمع.
بدأ نشاطه الفني برفقة عدد من أصدقائه على مجموعة «شتا» عام 2004م.
درس الطب ، وهو أبعد ما يكون عن الفن وتخرّج في جامعة الملك خالد بدرجة البكالريوس عام 2006م.
قدَّم أعماله المستوحاة من مزيج الموروث الشعبي والفن المعاصر
يستخدم عدداً غير محدود من المواد المختلفة في تقديم أعماله، بدءاً من الألوان، الصور الفوتغرافية، الخط و الرسم مروراً بالفديو و الشاشات ، وانتهاءً ببعض الخامات الغريبة مثل قطع البلاستيك لحشو البنادق وبرادة الحديد حول المغناطيس.
كان له دور كبير في برنامج «edge of arabia» بين دبي والمملكة ونشر له كتاب لقى رواجاً واسعاً هو «البقرة الصفراء».
شارك في عدد من المعارض مطلع الألفية تشمل بلداناً عدة مثل: الشارقة 2007، البندقية 2009، لندن 2010، ميامي 1011، قرطاج واليابان 2012.. وعدد كبير من مناطق المملكة على مدار سنوات نشاطه، وحتى الآن.
وكأن المختبر الطبي كان أول محترفاته الفنية. واستمرت تنويعاته على صور أشعة إكس تمثل إحدى علامات فنّه المميزة، حتى يومنا هذا على الرغم من ابتعاده عن أروقة المستشفيات ومختبرات الأشعة.
وهو يقول متذكراً أول ما جذبه إلى فيلم أشعة إكس، وهو كمادة ليس غريباً عن الفيلم الفوتوجرافي الذي كان قد بدأ يختفي في ذلك الوقت: «أرى أن فيلم الأشعّة يعبُر من كونه موقعاً تشخيصياً محدداً لإنسان محدد، الى كونه موقعاً تشخيصياً أوسع للحياة. وهذه نقلة بسيطة لكن لها معنى كبيرا. وهذا هو وجه الجمال الذي لفتني». ويتذكّر تلك الحقبة فيقول: «كنت أعيش حياة مزدوجة. حياة فيها هذه المفارقة. الطب علم عظيم».
وليس مجرد علم في البحث، ولا هو علم للخيال. فيه الاثنان. وهذه المفارقة تسم فني. وهكذا فإن أعمالي تميل إلى التعاكس أو «الكونتراست» بدل الانسجام والوئام. وأعطاني الطب أيضاً النزوع إلى إعادة تكوين الأشياء. الفن التشريحي، إذا جاز التعبير. من هنا يخرج العمل الفني فيه إعادة تكوين reconstruction. والمفارقة تسم أعمالي، وكأنها لا تفارقها».
وهكذا انتقل أحمد ماطر من مختبر المستشفى، إلى مرسم أبهى، إلى محترف جدة.
ويقول إنه إلى جانب إدراكه تأثير الطب، أدرك أيضاً تأثير الريف. القرية. وهو يشعر بعد انتقاله إلى المدينة أن الأجواء قد تغيّرت عليه، وأن القرية لا تزال تعيش في داخله.
في جدة منعطف ضد العزلة
خلال المرحلة الأولى من وجوده في جدة تابع أحمد ماطر النشاطين الرئيسين في إنتاجه الفني. العمل الإبداعي المحض، إلى جانب القيام بمهام فوتوجرافية. منها محض توثيقي وذلك بكونه فناناً محترفاً قديراً، مثل قيامه بتصوير أعمال النحت التي يتم ترميمها في جدة ونقلها إلى متحف في الهواء الطلق. ولكن شغفه الفوتوجرافي الرئيس كان في تصوير مكة وما تشهده من تحوّلات عمرانية كبيرة. وخلال تجواله في مكة جمع أشياء بسيطة قديمة وجديدة صادفها، من حجر قديم إلى ساعة جيب تقليدية إلى لوحة سيارة علاها الصدأ إلى وسام المشاركين في معركة جهيمان. وقد نظمت لها هيئة الثقافة في الشارقة معرضاً توثيقياً، تصدر معه كتيّباً سوف يشرح كل قطعة وكأنه يروي قصة مكة من القدم حتى يومنا هذا.
الرحلة إلى فاران
وقبل ان يأخذنا إلى ركن عمله على الكمبيوتر خرجنا من الصالة، وإذ بنا في قاعة شاسعة قيد الإنشاء وبسقف عال، فهمنا أنها سوف تكون استديو التصوير بشكل أساسي، علماً بأنها لعلوّها واتساعها تصلح لنشاطات فنية لا حصر لها.
وهذا ما يجعل جدية المشروع تكتمل، فنحن في قاعة استديو احترافية بالمعنى الكامل.
عندما جلسنا أمام الكمبيوتر عاد ليشرح رؤيته لمشروعه حول مكة. وشاهدنا على الشاشة صوراً خارقة بالأبيض والأسود أو ربما ما يسمى باللون الدخاني (الأنتراسيد) لمشاهد من مكة بعضها كانّه أُخذ من الجو. وشرح قائلاً: «أنا أعمل على كتاب يوثّق مكة فوتوجرافياً، ولكنه فني جداً. بحث بصري فني معاصر للتاريخ، أستعمل له اسم «صحراء فاران». لأنه ثبت أن هذه الجبال التي تضم مكة والتي أقام إبراهيم فيها بيته هي نفسها جبال فاران وتسمى بالأجنبيّة Paran Mountains. وأنا شعرت أني جئت من الطرف الجنوبي من هذا الشريط الذي يسمى صحراء فاران إلى شماله كي أنجز هذا العمل».
وأعلن لنا في الختام أنه في هذه الأثناء يستعد لمعرضين الأول في مركز بومبيدو في باريس والآخر في «ذا نيو ميوزيم» في نيويورك.