في عدد القافلة لشهر أغسطس عام 1960م، كتب الأستاذ محمد عبدالله عنان مقالة حول مكانة السِّيَر في الأدب العربي، واستعرض تاريخها وقارنها بما هي عليه في الآداب الغربية. وفيما يأتي مقتطفات من أبرز ما جاء فيها:
فطن روَّاد الأدب العربي إلى أهمية السِّير منذ عصر مبكر. وتطورت السِّيَر منذ عصر السيرة النبوية حتى غدت فناً رفيعاً، يستكمل كل أصوله الفنية والأدبية. ومنذ القرن الثاني للهجرة (القرن الثامن الميلادي) يُعنى الرواة والمؤرخون المسلمون بالسِّير والتراجم الفردية. وقد لبثت تراجم العظماء والخاصة حتى العصر الأخير، تملأ فراغاً كبيراً في الآداب التاريخية العربية.
وإن كان مما يدعو إلى الأسف أنه وقف عند المستوى الكلاسيكي، الذي انتهى إليه في عصر الركود والانحلال، ولم يكتسب تلك الأوضاع العلمية المصقولة، التي انتهى إليها فن السِّير في الآداب الحديثة.
فقد بلغ فن التراجم ذروة ازدهاره في القرنين الثامن والتاسع من الهجرة، وظهرت في تلك الفترة طائفة كبيرة من الموسوعات الحليلة والسير الخاصة، وخصَّ كل عصر وكل قرن بأعلامه، وخصّت كل طائفة بأقطابها فيما يسمى كتب الطبقات. ونستطيع أن نذكر من آثار هذه الفترة كتاب «أعيان العصر وأعوان النصر» لصلاح الدين الصفدي المتوفى سنة 764هـ، وهو موسوعة كبيرة في تراجم الأعلام المعاصرين، لم يصلنا منها سوى بضعة مجلدات. وللصفدي أيضاً كتاب «الوافي بالوفيات» وهو موسوعة عام في تراجم أعلام الأمم الإسلامية من سائر الطبقات والطوائف منذ الصحابة إلى عصره، ولم يصلنا منها أيضاً سوى بضعة مجلدات، وقد ذيل عليها مؤرخ مصر، أبو المحاسن بن ثغرى بردى بمعجمه «المنهل الصافي، والمستوفى بعد الوافي» في تراجم الأعلام منذ القرن السابع إلى عصره، أي إلى منتصف القرن التاسع. ولدينا منذ القرن الثامن سلسلة متصلة من معاجم السِّير، يختص كل منها بقرنه، وهي على التوالي: كتاب «الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة»، لحافظ ابن حجر، ثم «الضوء اللامع في أعياد القرن التاسع» لشمس الدين السخاوي، وهو من أنفس معاجم الترجمة وأقواها من الوجهة النقدية، ثم كتاب «الكواكب السائرة بمناقب أعيان المائة العاشرة» لنجم الدين الغزي، ثم «خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر» للمحبي الحموي، ثم «سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر» لأبي الفضل المرادي.
ونجد فن السِّير يزدهر كذلك في الغرب الإسلامي، أي في المغرب والأندلس، ونكتفي بأن نذكر من ذلك على سبيل المثال، جذوة المقتبس للحميدي، والصلة لابن بشكوال، وتكملة الصلة والحلة السيراء لابن الأبار القضاعي، وبغية الملتمس للضبي، والذخيرة لابن بسام، والإحاطة لابن الخطيب، والتكملة لابن عبدالملك المراكشي.
بيد أننا مع الأسف، لا نجد في تراث السِّير المعروفة في الأدب العربي، على ضخامته وتنوعه، ما يضارع آثار السير الحديثة، في الآداب الغربية. ففي الوقت الذي ركدت فيه الآداب الغربية، منذ خاتمة العصور الوسطى، كانت الآداب الأوروبية، منذ عصر النهضة أو عصر الأحياء، تسير قدماً في سبيل التقدم والازدهار. وتستكمل أسباب تنوعها وصقلها، سواء من حيث المادة أو الأسلوب، وقد انتهت فيها كتابة السِّير بالأخص إلى ذروة الاكتمال الأدبي والفني، وأضحت السِّير، مع أرفع فنون الأدب، التي تبرز في ميدانها ألمع الأذهان والأقلام.