من يتجول في أرياف بعض الدول الأوروبية قد يلحظ انتشار تلك المراوح العملاقة المثبتة على أعمدة معدنية شاهقة الارتفاع، وغرضها تحويل طاقة الرياح إلى طاقة كهربائية، حيث تُثبت أعداد كبيرة متراصة من تلك المراوح على مسطحات اليابسة أو على امتداد السواحل في ما يعرف بمزارع الرياح (Wind Farms). ورغم أن البعض يرى في انتشارها السريع اختراقاً قبيحاً لمنظر الريف الهادئ، إلا أنها صارت واقعاً لا مفر منه، وبدأ الرأي العام يتقبل إلى حد ما وجودها، بفعل ما صاحب انتشارها من دعاية وترويج بمزاياها البيئية والاقتصادية.
حققت طاقة الرياح نمواً لافتاً خلال السنوات العشر الماضية، ونجحت في دخول منظومة توليد الكهرباء في عديد من دول العالم. إلا أنها وعلى الرغم من هذا النمو، لا تمثل حتى الآن سوى %3 من إجمالي مصادر الطاقة في قطاع توليد الكهرباء حول العالم، وأقل من %1 من إجمالي الطاقة المستخدمة عالمياً بكل أشكالها وكافة استعمالاتها (بما فيها قطاع النقل والصناعة.. إلخ). وفي أحسن الأحوال، لن تزيد مساهمتها على %5 من إجمالي الطاقة المستخدمة بحلول العام 2030م. ولكن هل لنا أن نتوقع استمرار زخم النمو الحالي على الوتيرة نفسها –حوالي %25 سنوياً–على المدى البعيد، مما يعني هيمنة طاقة الرياح الحتمية على ما سواها من مصادر؟ المسألة ليست بتلك البداهة، والواقع يشي بكثير من التحديات في هذا الصدد، لذا علينا الخوض في شيء من التفاصيل.
سر النمو السريع: أكثر من مجرد تقنية
من الواضح أن أبرز ميزة لطاقة الرياح هي أنها طاقة نظيفة لا تصدر عنها أية انبعاثات ضارة كثاني أكسيد الكربون. كما أن تكلفة وقودها (الرياح) تساوي صفراً، ولكن هذه المزايا تنطبق أيضاً على مصادر متجددة أخرى كالطاقة الشمسية، فلمَ إذاً تميزت طاقة الرياح بهذا النمو المتسارع مؤخراً دون غيرها؟
يمكن أن نعزو وتيرة النمو المذهلة في استغلال طاقة الرياح لسببين رئيسين: أولهما التقدم التقني وتراكم الخبرات في صناعة مراوح التوليد وإدارة شبكات الكهرباء وتوصيلاتها. وأدى هذا العامل التقني على مدار الثلاثين عاماً الماضية إلى انخفاض تكلفة طاقة الرياح بحوالي %80. وهي التي كانت في الأساس أقل تكلفة من مصادر الطاقة المتجددة الأخرى كالطاقة الشمسية. فلا غرابة إذاً أن يكون انخفاض تكلفتها نتيجة التقدم التقني قد أعطاها ميزة نسبية وزاد من جاذبيتها.
أما السبب الثاني، الذي لا يقل أهمية، فهو الكم الهائل من الدعم الحكومي سواء بالمال مباشرة أو بالحوافز والإعفاءات الضريبية، لجعل مشاريع طاقة الرياح مربحة اقتصادياً. حيث إنه وعلى الرغم من التقدم التقني المشار إليه آنفاً، لا تزال طاقة الرياح مكلفة جداً، إذا ما قورنت بغيرها من مصادر الطاقة التقليدية كالفحم أو الغاز أو حتى الطاقة النووية. ولا تصمد مشاريعها اقتصادياً لولا هذا الدعم والحماية الحكومية. ويمثل الدعم الحكومي حوالي نصف إجمالي أرباح مشاريع طاقة الرياح أي أن زواله في الظروف الحالية سيقضي فعلياً على مستقبل هذا المصدر في المدى المنظور، ويمثل الدعم دون شك عبئاً على الحكومات ودافعي الضرائب. ولكن يبرّره الأمل المعقود على طاقة الرياح في تقليل الانبعاثات الضارة من مصادر الطاقة التقليدية.
أما إذا أريد لطاقة الرياح أن تنافس مباشرة دون دعم حكومي، فلا بد عندئذ من رفع قيمة البدائل التقليدية أولاً. ولا يتم ذلك إلا بفرض ضرائب عالية على انبعاثات الكربون من المصادر التقليدية. مما يعني رفع تكلفة إنتاج الكهرباء على كل الأطراف، بما فيها المستهلك النهائي، لتحقيق استخدام أوسع لطاقة الرياح.
كفاءة التشغيل
طاقة الرياح كما ذكرنا هي من أسرع أنواع الطاقة البديلة نمواً. فمنذ العام 2005م تضاعف أعداد مراوح طاقة الرياح في العالم كل أربع سنوات تقريباً. حتى إن هناك دولاً أوروبية كالدانمارك، صارت تسد حاجاتها في مجال توليد الكهرباء بالكامل من طاقة الرياح عندما تكون الرياح مواتية. ويلاحظ هنا أننا نتحدث عن سعة التوليد القصوى، وليس عمَّا يتم إنتاجه من الكهرباء فعلياً، فهبوب الرياح بسرعة مناسبة طوال الوقت نادر الحدوث. لذا، كثيراً ما تضطر الدانمارك لاستيراد الكهرباء من جارتها النرويج عند سكون الرياح الدانماركية.
يُستنتج من هذا أن طاقة التوليد الإجمالية المعلنة نادراً ما يتم استغلالها فعلياً لأقصى حد. إذ إنها تعتمد على وتيرة الرياح وشدتها وتوقيت هبوبها. وكلها عوامل خارج تحكم البشر، اللهم إلا في محاولتهم التنبؤ بمسارات وحركة الرياح. ولذا فإن غالبية مشاريع طاقة الرياح لا تحقق نسبة تشغيل تفوق 25 إلى %30 من الطاقة القصوى الممكنة. فهذه ألمانيا مثلاً لم تحقق في العام الماضي كفاءة أعلى من %18 من مراوحها، علماً بأن هذه المراوح قد نُصبت بدءاً بأفضل مواقع هبوب الرياح في البلاد.
هل هي فعلاً متجددة؟ إعادة تعريف
صدرت مقالات مؤخراً تقول إن العالم إذا مُلئت سواحله وسهوله بمزارع الرياح لاستغلال طاقتها وتحويلها إلى كهرباء، سيكون بمقدورنا الاستغناء عن كل أشكال الطاقة الأخرى. هذا القول وإن كان صحيحاً نظرياً، إلا أنه يُغفل البُعد الاقتصادي والعملي لهذه المشاريع. فرغم كون الرياح عنصراً متجدداً لا ينفد، إلا أن تعريف النفاد والندرة ينبغي أن يكون أكثر شمولاً. ولتحقيق أفضل عائد ومردود تشغيلي على مشاريع الرياح ينبغي تخيّر مواقع هبوب الرياح ذات المميزات المطلوبة من قربها من مراكز الطلب والتجمعات السكانية، بالإضافة إلى تمتعها بنسبة هبوب رياح مناسبة على مدار العام، وبُعدها عن المحميات البيئية أو المواقع السياحية التي تفسدها مناظر هذه الغابات الصناعية من مراوح التوليد. وإذا أردنا اجتماع كل هذه الخصال في موقع واحد، فإن هذه المواقع الجذابة ستكون محدودة و«قابلة للنفاد» تماماً كمصادر الطاقة التقليدية، وإن اختلف مفهوم النفاد هنا. أي أن البحث عن مواقع جديدة مميزة يعني الابتعاد أكثر فأكثر عن مواقع الاستهلاك، وصعوبة مد الأسلاك وخطوط النقل وازدياد تكاليف التشغيل والتركيب ونقل المعدات، وبالتالي زيادةً في التكلفة وتباطؤاً في وتيرة النمو وعائقاً دون توسع القطاع فوق مستوى معيَّن.
هذا التعريف للنفاد ليس جديداً، بل يفهمه القريبون من صناعة الطاقة التقليدية من نفط وغاز مثلاً، فإن مفهوم الندرة لا بد أن يرتبط بالظروف التقنية والاقتصادية المتاحة. فمثلاً يمكننا أن نستمر في استخراج مزيد من النفط لقرون قادمة إن كان عامل الجدوى الاقتصادية موائماً أو كانت التقنية تتطور بشكل سريع. الحال ينطبق تماماً على طاقة الرياح، التي تتأثر أيضاً بعامل ندرة المواقع في تقييم مشاريعها وتغيير معطيات جدواها اقتصادياً وفق التقنيات المتاحة حالياً.
ماذا عن مزاياها البيئية
الأثر العام على الأحياء الطبيعية
عند الحديث عن الأثر البيئي لاستخدام طاقة الرياح، لا بد أن نتذكر أنها لا تزال تمثل جزءاً يسيراً من منظومة توليد الطاقة القائمة، أي أن المفاضلة ليست بين استخدامها وحدها وترك ما سواها، بل في مدى التوسع فيها لتكون مكملّة لنظام الطاقة الحالي على اختلاف أشكاله. هناك أثر بيئي مباشر لتركيب آلاف المراوح على سواحل الدول ومسطحات اليابسة، فمثلاً تلقى آلاف الطيور المهاجرة حتفها سنوياً نتيجة الاصطدام بمراوح التوليد الضخمة التي يصل ارتفاع عمودها إلى 80 متراً، مع أذرع المراوح التي يصل طول الواحد منها إلى أربعين متراً وتدور بسرعة تصل إلى 320 كلم في الساعة عند الأطراف، كما تقتل المراوح أشكالاً أخرى من الكائنات ذات الدور المحوري في توازن البيئة كالخفافيش التي تسهم في السيطرة على الآفات الحشرية التي تغزو المحاصيل. هذه الآثار البيئية بدأت تثير غضب المزارعين والناشطين على حد سواء. أما الذبذبات والاهتزازات الناجمة عن دوران هذه المراوح الضخمة فتؤثر سلباً على ديدان التربة المفيدة والنباتات الدقيقة وغير ذلك من أشكال الأحياء صغيرها وكبيرها. هذا بالإضافة إلى شكوى السكان المجاورين من آثار الضوضاء والاهتزازات والتلوث البصري على جودة حياتهم وصحتهم، وهي بعض من الأثار الجانبية السلبية لمراوح توليد طاقة الرياح.
عشوائية الرياح وأثرها على الانبعاثات
كي نستطيع تقدير فائدة طاقة الرياح في تخفيف الانبعاثات الكلية، لا بد من معرفة مدى تناغم مصدر الطاقة هذا مع غيره من المصادر التقليدية. معظم نظم توليد الكهرباء في العالم لا يعتمد على مصدر واحد للطاقة فحسب، بل تستخدم مجموعة مصادر متفاوتة التكاليف والخصائص. وتوظّف كل منها حسب تغير الأحمال على مدار اليوم وعبر المواسم. فالأحمال الكهربائية الثابتة تقريباً على مدار اليوم وقليلة التقلب تتم تلبيتها عن طريق مصادر تتطلب تكلفة إنشاء عالية مقابل تكلفة تشغيل منخفضة. ولذا يفضّل إبقاؤها تعمل طوال الوقت، وأبرز أمثلتها مولدات الفحم. أما الأحمال المتغيرة التي تزيد وتنقص حسب نشاط السكان على مدار اليوم كأوقات العمل وأوقات ازدياد تشغيل الأجهزة الكهربائية، أو أوقات الذروة في ظهيرة الصيف مثلاً، فتتم تلبيتها عن طريق معامل توليد ذات تكلفة إنشائية أقل، ولكن تكلفتها التشغيلية أعلى بسبب ارتفاع ثمن الوقود المستخدم فيها، وأبرز أمثلتها مولدات الغاز الطبيعي والديزل، ويتم تشغيل هذه المولدات حسب الحاجة لمراعاة دورة أحمال الكهرباء على مدار اليوم والموسم.
طاقة الرياح لا تخضع لهذه المعايير. فبحكم شبه انعدام تكلفتها التشغيلية –إذ لا تكلف الرياح شيئاً– فإن الخيار الأمثل لمشغلي شبكة الكهرباء هو استقبالها مباشرة طالما هبت الرياح، سواء دعت حاجة الشبكة في ذلك الوقت أم لا. لذا، فإن دخول طاقة الرياح على الخط يستوجب تكاليف وتقنيات إضافية لاستيعاب هذا المتغير الجديد. المفارقة أن الرياح غالباً ما تهب بوتيرة أعلى في ساعات الليل بين الواحدة إلى الرابعة فجراً، أي في الوقت الميت من ناحية الطلب، وفي المقابل، فإن أيام شدة حرارة الصيف وذروة الطلب على التكييف تتزامن غالباً مع مناطق ضغط جوي مرتفع وسكون في حركة الرياح، أي أن هبوب الرياح قد لا يواكب أنماط الطلب على الكهرباء، بل ربما يخالفه في كثير من الأحيان، مما يفقد هذا المصدر فاعليته في مواجهة أحمال الذروة.
بالإضافة إلى ما سبق، تضطر شركات الكهرباء للاستثمار في مولدات غاز احتياطية ووضعها على أهبة الاستعداد تحسباً لسكون مفاجئ للرياح، ولا بد من توفير مشغلي شبكة مهرة ومزودين بتقنية عالية للتعامل مع فوائض طاقة الرياح المفاجئة والتي قد تزيد على قدرة تحمل الشبكة فتسبب أضراراً على الشبكة ومكوناتها مما يزيد التكاليف الكلية.
نذكر أيضاً أن نوع وكمية الانبعاثات التي يتم تفاديها نتيجة استعمال طاقة الرياح يعتمد في المقام الأول على مصدر الطاقة التقليدي الذي تحل محله ضمن منظومة إنتاج الكهرباء. فمن الخطأ افتراض أن كل كيلو واط من طاقة الرياح سيستبدل كيلو واط من مصادر الطاقة الأكثر تلويثاً (كالفحم مثلاً).
كمثال مبسط، فإذا كانت شبكة الكهرباء تغذيها ثلاثة معامل، الأول معمل توليد بطاقة الفحم ذو سعة عالية لتلبية الأحمال الكهربائية الدائمة، وآخر يعمل بطاقة الغاز الطبيعي ذو سعة متوسطة أو صغيرة، بالإضافة إلى عدد من مراوح طاقة الرياح، ثم ازدادت سرعة الرياح فجأة في وقت يقل فيه الطلب على الكهرباء، فإن المشغل للشبكة سيضطر إلى إيقاف بعض المولدات من المصادر التقليدية لفسح المجال أمام دفعة طاقة الرياح المفاجئة حتى لا تتضرر الشبكة. وخياره سيكون غالباً إيقاف مولدات الغاز الطبيعي نظراً لسهولة إيقافها وتشغيلها ولسعتها الأقل، مع الإبقاء على المعمل الأكثر تلويثاً (الفحم) يعمل دون انقطاع نظراً لسعته العالية وصعوبة إيقافه وتشغيله بسرعة دون التأثير على كفاءته. وهذا السيناريو كثير الحدوث في دول مثل أمريكا والصين وغيرها، ويقلل بالتالي من النفع المتوقع لطاقة الرياح في تخفيف الانبعاثات الضارة، لأن طبيعتها المتذبذبة تضعها في منافسة مباشرة مع المصدر الأنظف، لا الأكثر تلويثاً.
نظرة إلى المستقبل المنظور
بعد أن استعرضنا أبرز العوائق التقنية والاقتصادية الحالية التي تواجه التوسع في استغلال طاقة الرياح، ننتقل الآن إلى استشراف المستقبل والمسارات المتوقعة لكل واحدة من هذه التحديات.
أولاً: يُستبعد استمرار الدعم الحكومي الكبير لهذا القطاع على المدى البعيد، خاصة مع ازدياد أعباء الديون على الدول المنتجة. ومع زوال هذا الدعم فإن وتيرة النمو ستتأثر بلا شك. لكن مقابل ذلك، فإن التطور التقني السريع قد تكون له الغلبة في تخفيض تكلفة هذه الطاقة حتى تنافس غيرها دون الحاجة للدعم. العامل الثاني في هذه المعادلة هو أن دول العالم تتجه بوضوح إلى فرض أسعار عادلة على كافة أشكال الانبعاثات الضارة من كربون وكبريت وغيره، بحيث يتحمل منتجو الطاقة التقليدية التكلفة الحقيقية للأضرار البيئية الجانبية لانبعاثات معاملهم. ضرائب الانبعاثات هذه كفيلة بجعل مصادر إنتاج الكهرباء التقليدية أقل جاذبية إذا توفر بديل من الطاقة المتجددة كالرياح، مما يعزز فرص التوسع في مشاريعها.
وإضافة إلى ذلك، فإن عامل الندرة واستنفاد مواقع الرياح المجدية اقتصادياً وخاصة في الدول كبيرة المساحة هو عامل مهم أيضاً، خاصة أنه كلما ازدادت مزارع الرياح بُعداً عن مراكز الاستهلاك، ازدادت الحاجة لاستثمارات ضخمة في التمديدات ومحطات التقوية والتوزيع مع ما يصاحبها من صعوبات تقنية واقتصادية. هذه الندرة قد تؤثر سلباً على وتيرة الاستثمارات الجديدة في هذا المجال، خصوصاً إذا بدأ الناس في التبرم من منظر هذه المراوح التي تسدّ الأفق وتقتل أشكالاً من الطيور والأحياء. ولا بد لتجاوز هذه العقبة من حلول سياسية وتقنية قد لا تكون بالسهولة المتوقعة.
أما العامل الأهم والذي قد يحل أكثر المشاكل الحالية فهو إيجاد طريقة فعالة لتخزين طاقة الرياح، وهو ما سيمكِّن شبكة الكهرباء من الاستفادة القصوى من هذه الطاقة وقت الحاجة إليها، لا الاضطرار إلى استهلاكها فوراً وتطويع باقي مصادر الطاقة من أجلها. فتقنية تخزين الطاقة ستحل مشكلة المولدات الاحتياطية وتقلل تكلفة إدارة الشبكات تحسباً لهبات الرياح العشوائية.
يظل الطريق طويلاً أمام طاقة الرياح وغيرها من مصادر الطاقة المتجدد لتزيح المصادر التقليدية، وتبقى توقعات المستقبل رهينة كثير من العوامل التقنية والاقتصادية المتغيرة.