ليس الليل مجرد غياب النهار ونوره، الليل كيان قائم بذاته. والتأكيد على هذا في القرآن الكريم في آياتٍ عديدة هو أمر لافت يثير التساؤل ويستدعي التأمل.
لدى أمتنا علاقة خاصة بالليل. كيف لا وأجمل الأسماء ليلى. أولسنا نحن الأمة التي قدمت للعالم ألف ليلة وليلة، كإحد أهم منابع الثقافة والحكمة والفن. حديث الليل لاينتهي، والحديث عن الليل، أيضاً، لاينتهي، نبدأه هنا في الملف الذي أعده للقافلة الكاتب والشاعر اللبناني المعروف محمد علي شمس الدين مع الإضافات المعتادة والمعزِّزة من فريق التحرير.
رحلة مع الليل
الليلُ والنهارُ ضِدّان. جاء في التهذيب، ونَقَلَهُ ابنُ منظور في مَعْجَمِهِ، الليل ضدُّ النهار، والليلُ ظلامُ الليلِ والنهارُ الضياء . إلاّ أنّ هذه الضِديّة، وإن كانت صراعية في بعض الأحيان، فهيَ أيضاً تكامليه ومن ضرورات الوجود. يقول دوقلة المنبجي في وصف دعد :
لهْفي على دَعْدٍ وهل خُلِقَتْ
إلاّ لطولِ تلهّفي دعدُ
فالوجه مثل الصبح مبيضٌ
والشعر مثل الليل مُسوَدُّ
ضِدّانِ لما استُجْمِعا حَسُنا
والضدُّ يظهر حسنَه الضِدُّ
فالبياض والسواد، كالليل والنهار، من محاسِنِ الأضداد. وللجاحظ كتاب هو كتاب المحاسن والأضداد يُظْهِرُ فيه ما لهذا الطِباق من حسنات. فالنهار ابنُ الضوء، والضوء ابنُ الشمس، والألوان بنت الضوء، ومن دون ضوء تكون ظلمةً والظلمةُ عَماء.
في النصّ القرآني أنّ الله هو نورُ السماواتِ والأرض . والضوءُ غيرُ النور. الضوء منسوب للشمس، لكنّ النور تبعاً للآية الكريمة آنفة الذكر، أعظم وقعاً، فلم يأتِ فيها الله ضوء السماوات والأرض بل نورُ السماوات والأرض . كذلك ألّف ابن عربي في الأنوار المحمّدية وليس في الأضواء المحمّدية … فالنور رمز أعظم من الضوء. هذا على أنّ في الاستعمال السائِد في كثيرٍ من الأحيان مَن يخلُطُ بين الضوءِ والنور. فيقالُ: ضوءُ الشمس ونورُ الشمس، بالمعنى نفسه.
ولا يُتَصَوّرُ الليلُ من دون النهار. ففي ذلك، فيما لو تَمّ، ما يشبه التدميرَ للحياةِ الكونيّة والبشريّة على السواء. صحيح أنه حينَ يكونُ في هذه الناحية من الأرض ليلٌ، يكونُ في الناحية الأخرى نهارٌ، وأنّ مواقيتَ الليل والنهار متغيّرة تِبْعاً لحركة الشمس والقمر… وصحيح أيضاً أنّ ليلَ القطب يمتدّ على نصف العام، ونهارَهُ النصف الآخر… إلاّ أنه دائماً لا بدّ من تعاقبٍ بين الليل والنهار .. يقول عمر الخيام (بترجمة أحمد رامي): .. فكم توالى الليل بعد النهار .
إنّ التعبير المجازي في العربيّة ليلٌ بلا آخر يُشيرُ إلى عقوبةٍ بشريّة لا تنتهي … فكلُّ من لا ينتهي ليلُهُ لا ينتهي عذابُه أو مأزِقُهُ، حَتَّى لكأنّ المقصودَ من العبارة هو عذابٌ بلا آخر .
الليل في القرآن الكريم
يشير القرآن الكريم إلى المرحَمةِ في تعاقُب الليل والنهار، ويسوق افتراضاً ما، للتأكيد على هذه المرحمة: قُلْ أرأيتمُ إنْ جَعَلَ الله عليكم النهار سَرْمداً إلى يومِ القيامة؟ (القَصَص: 71). فهذا التوازن في مواقيت الليل والنهار، وفي تعاقبهما، هو توازن وُجودي قائم وضروري للحياة واستمرارها، ليس لحياة الإنسان على الأرض، وحده، بل لحياة جميع الكائنات أيضاً من حيوان ونبات وجماد، فكما يفعل القمر فعله في حركة المدّ والجزر في البحار، فكذلك للشمس في النهار دورُها في حَياةِ الكائِناتِ جميعاً، وكذلك لليل دورُهُ الحاسم.
ومن لُطْفِ الخَلْق أيضاً، بل من جماله، فعلُ استدارةِ الليلِ على النهار واستدارة النهار على الليل … يكوّرُ الليلَ على النهار، ويكوّرُ النهارَ على الليل (الزُمَر:5)، كأنّما ثَمَّةَ تعاطُف تكوينيّ بين هذين الطرفين من أطراف الخلق، كتعاطف الذكر والأنثى.
وقد وَرَدَ لفظُ الليل ومشتقّاتُه (ليلة، أليل، ليال، … إلخ) زهاء خمسين مرة في آيات القرآن الكريم. وهي موزّعة ما بين اعتبار الليل آيةً من آيات الخلق أو مطرحاً للقسم به نظراً لما له من دلالة على عظمة الخالق، وبين اعتباره فسحة للسكينة والهدوء أو للصلاة والتأمّل.
فمن آياتِ الخَلْقِ، تلك التي يَرِدُ فيها الليل كجزء من القَسَم أو مطرح له: والضُحَى، والليلِ إذا سجى، ما ودَّعَكَ ربُّكَ وما قلا (الضحى:1-3). والليلِ إذا عسعس، والصبح إذا تنفّس (التكوير:17-18). والليلِ إذا يَسْرِ (الفجر:4)، والفجرِ، وليالٍ عَشْرٍ (الفجر:1-2).
أما الآيات التي تدلّ على السكون، أو سكينة النفس أثناء الليل، فتتدرّجُ ما بينَ طُمأنينة النفس الهاجعة وطمأنينة النفس المتأمّلة أو المتهجّدة العابدة المصلّية، وصولاً إلى طمأنينة النفس المتوفّاة. فقد ورد في الآية 60 من سورة الأنعام وهو الذي يَتَوفّاكُم بالليل ويعلم ما جَرَحْتُم بالنهار . وَوَرَدَ في الآية 67 من سورة يونس هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهارَ مبصراً ومثله ما ورد في الأنعام وجعل الليل سَكَنا (96).
والليلُ محوٌ والنهارُ إبصار فمحونا آية الليلِ وجعلنا آية النهار مبصرة (الإسراء:12) هذا على أنّ لليل دالّة على النهار، باعتبارِهِ وقتاً للعبادة إنّ ناشئةَ الليل هي أشدّ وطْأً وأَقْوَمُ قيلا (المزّمّل:6)… فناشئة الليل أوّل الليل.
وجاء في الذاريات كانوا قليلاً من الليل ما يهجَعون (17). أمّا آية الآيات فهي ليلة القَدْر: إنا أنزلناهُ في ليلةِ القدْر وما أدراكَ ما ليلةُ القَدْر، ليلة القَدْرِ خيرٌ من ألف شهر، تَنَزَّلُ الملائكةُ والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر، سلامٌ هيَ حتّى مطلعِ الفجر (سورة القدر) … فهي ليلةُ إنزالِ القرآن على الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وفي فضائلها وخصوصيتها أَفَاضَ السالكون والشارحون إفاضات كثيرة.
وقد سمّت العرب الليلةَ الأخيرة من الشهر الدأداء … ولأوّلِه اسم، ولأوسطه اسم … ولبعض الليالي حرمتها الخاصة (الأشهر الحرام التي تحرّم فيها الحرب)، ولبعض الليالي قدسيتها الخاصّة (الليالي العشْر …).
حركةُ الليل – مراتب الظلمة
جاء في اعتذاريّات النابغة الذبياني للنعمان بن المنذر:
فإنّكَ كالليلِ الذي هو مُدركي
وإنْ خِلْتُ أنّ المُنتَأى عنكَ واسِعُ
فأين إذنْ يَفِرُّ الإنسانُ من الليل؟ فالليل هنا قَدَرٌ واقع لا محالة.
ولليلِ في حركتِهِ ومراتِبِهِ، عبارات وأوصاف. ففي الإفصاح في فقه اللغة أنّ الجديد هو الليل، والجديدين الليلُ والنهار . والشَفَقُ ضوء الشمس وحمرتُها في أوّلِ الليل. أما الغَسَقُ فأوّل ظلمة الليل. ويقال له الظلام. فالفرق بين الغَسَق والشفق هو أنّ الشَفَقَ منسوب للشمس المعتمة والغَسَق منسوب لليل.
ويُسَمَّى الثلثُ الأوّلُ من الليل العتمة. كما يُطلق الهزيع على جزءٍ من الليل نحو ثلثه أو ربعه أو نصفه. وحين يشتدُّ ظلام الليل، فإنه يأخذ من اللغة أسماء، فالفحمة هي فحمة الليل. وهي خاصّة بالصيف، أي بالليلِ الصيفي، والغَبَشُ شدّة الظلمة، ومِثْلُهُ الدَغَشُ، إلاّ أنّ الدغَش أوّلُ الظلمة. والسُدْفَة الظُلْمةُ، والديجورُ الظلامُ وهو عكسُ النور وضده، يقال: النور والديجور ، أما جِنْحُ الظلام فظلامُهُ واختلاطُهُ، والحِنْدِسُ (بالحاءِ المكسورة والدال المكسورة) وجمعُها حنادِس، الظلمة والليل الشديد الظلمة. ويُسمّى الليلُ البَهيمَ حين لا يُبْصَرُ فيه شيء. وهو الأشدّ سواداً والليل الأليَل الشديد الظلمة.
وكما لليل أسماء في حالاتِ إقبالِهِ، وأسماء في حالات اشتداد سوادِهِ وحلكته، فله أسماء في حالات إدباره. فالموهِن حين يُدبِرُ الليل. قال جرير في وصف الذئب:
وأطلسَ عسّالٍ وما كان صاحباً
دَعَوْتُ بناري موهناً فأتاني
فالعرب في الصحراء، كانوا يوقدون في الليل النار ليأنسوا بها، ويَدْعوا إليها الضالين في الصحراء يأتوا إليهم ويدفأوا بها ويأكلوا من طعامهم. وهي نار القِرى. وينسب لحاتم الطائي:
أوقد فإن الليل ليلٌ قرُّ
والريحَ – يا غلام – ريحٌ ضرُّ
علَّ يرى نارك من يمرُّ
إن جلبت ضيفاً فأنت حرُّ
يقال أيضاً: حاطبُ ليل أي باحث عن الحطب في الليل ليوقده ويدفأ به. وكما الغَسَقُ أول ظلمة الليل فإن السَحَر آخره. والفَلَس قبل الصبح.
وفي حركة الليل أفعالٌ كثيرة. ومنه اشتقاق فعل أَلْيَلَ … ففي مَتْنِ اللغة ألْيَلَ القومُ دَخَلوا في الليل ، و لايَلَهُ استأجرهُ لليلة وهي ضد المياومة التي هي استئجارٌ ليوم. والليليُّ من الرجال هو الذي يحبُّ سُرى الليل. أما ابن الليل فكناية عن اللص. واللصوص أبناء الليل. وبنات الليل هُنَّ الهموم وصوادق الأحلام. أمّا زوّار الليل فكناية عن رجال الشرطة والبوليس الذين يفاجئون المطلوبين للسلطة بزياراتهم الليلية.
في حركة الليل يقال: عَسْعَسَ الليل، إذا أقبل بظلامه أو أدبر ، ويقال أيضاً سجا الليل أي ستر بظلمته. ويقول أحمد شوقي في مسرحيّة مجنون ليلى:
سجا الليلُ حتّى هاجَ لي الشعر والهوى
وما البيد إلاّ الليلُ والشعر والحبُّ
ويقال دجا الليل أي تمّت ظلمته. ويقال جُنَّ الليل أي ستر وأخفى. والمِجَنُّ هو الترس الذي يحمي المقاتل. أما الجِنّة فهي الحماية. والجِنّ سميت كذلك لأنّها كائنات مستترة (ليليّة). يقال: أَجَنَّهُ الليلُ أي ستَرَهُ وأخفاهُ.
قال شمر بن الحارث، (وهو من أعجب أبيات الشعر العربي نظراً لما ينطوي عليه من أبعاد لغوية ونفسية وإبداعية، وقد وَرَدَ في كتاب الحيوان للجاحظ):
أَتوا داري فقلتُ مَنونَ قالوا
سُراةُ الجنّ قُلتُ عِموا ظلاما
والمفارقة الأولى في البيت تأتي من قول الشاعر فقلتُ مَنونَ ، وليس في اللغة جواز استعمال مَنون مكان مَن الاستفهامية … هو يقصد مَنْ أنتم؟ … وتُفَسَّر على محمل الخوف والاضطراب الذي وقع فيه الشاعر حين أتى الجِنَّ دارهُ في الليل بغتةً، فاضطرب، فبدلاً من قوله: مَنْ أنتم؟ قال مَنونَ . إلاّ أنّ الأرجح هو لجوء الشاعر لهذا التجاوز في استعمال اللغة لضرورة استقامة الوزن. أمّا المفارقة الثانية فتأتي من قوله عِموا ظلاماً . فالتنعُّم بالظلام أمر عَجَبٌ، ولا يقوله سوى الشاعر الذي يحقُّ له ما لا يحقّ لغيره .
التأمل في سماء الليل
في الليالي الصحراوية الصافية – النظر إلى قبة السماء يمنح الإنسان الشعور بالمتعة أو بالخدر اللذيذ. الكواكب التي تزيّن قبّة السماء تنبض مثل نقاط من الضوء، وربّما تحرَّكَ بعضُها من موقعه، أو هوى بشدّة (يقال زَرَقَ النجم). هناك شعور بجلال الكون في ليل الصحراء، خاصّةً إذا توسّط البدرُ قُبّةَ السماءِ وكان كبيراً وتحيط به هالة من الضوء الفضّي.
إن ذلك يغري الإنسان بالتفكّر في خلق السماوات والأرض، ويطلق العنان لمخيّلة الشعراء، وربما حرّك في نفوس العشَّاق والساهرين أحاسيس الجوى، وربما أثار شيئاً من الحزن، من خلال الصمت والتأمّل، تكون ضوضاء النهار قد أزاحته قليلاً عن صدر الإنسان، أو أرجأت تحركه لحين هبوط الليل.
كان هناك علم التنجيم. وقد كانت شعوب الحضارات الباكرة تؤمن بالأنماط الثابتة للنجوم في السماء. قسمت سماء الليل إلى بروج، وأطلقت الأسماءَ عليها وعلى الكواكب. وكان التنجيم يغلبُ على علم الفَلَك، ويرى المنجمون قدرة الأحداث في السماءِ على التأثير في حياةِ البشر على الأرض، فرُصِدَتْ مواقعُ الكواكب بغرض التنبؤات التنجيمية، وتداخلت واجبات القساوسة الوثنيين والفلكيين… فعلى سبيل المثال، كان هيكل الزكّورة البابلي الشهير، نصفَ معبد ونصف مرصد. وكان الفلكيون في الصين يرسمون مخططات مواقع النجوم منذ أوائِل القرنِ الثالث عشر قبل الميلاد.
وحتى بداية القرن السابع عشر، كان معظم الناس يعتقدون أنّ الأرض ثابتة وتقع في مركز الكون، إلى أن حقّقت المعرفة الفلكية قفزة رئيسة للأمام، عندما تمّ توجيه المِقراب (الناظور) المخترع آنذاك، إلى السماء. وأثبت جوهنز كيلر أنّ الكواكب تدور حول الشمس، وأنّ الأرض ليست ثابتة، كما كان يسود الاعتقاد، بل هي أيضاً تدور حول الشمس .. وهكذا ولد تفسير جديد للظواهر الكونية والفلكية، وولد علم الفلك الحديث.
تدور الأيام والسنوات والقرون. وتنظُرُ في الليل إلى السماء.
نجوم … نجوم … يُقدِّر الفلكيون أنّ أقدم نجمٍ من نجوم الليل عمره 15 بليون سنة، وأنّ أدنى نجمٍ إلى شمسنا هو الظَلَمانُ الأقرب ، وهو على بعد 4 سنوات ضوئية من الأرض.
إنه نجم قزمٌ أحمرُ خابٍ …
السماء تتحرّك في الليل، أم الأرض تدور؟
تبدو النجوم بالنسبة لمراقب على الأرض ثابتة كمسامير في السماء. ويظهر أنّ هناك كرةً محدّقةً واسعة تدور حول الأرض من الشرقِ إلى الغرب، دورة واحدة في اليوم …
لكنّ هذه الرؤية غير صحيحة. الأرض هي التي تدور لا السماء.
ومع ذلك، فغالباً ما يُفيد التظاهرُ الفلكيينَ بوجود هذه الكرةِ حقاً في السماء، فيمكن حينئذٍ تحديد قطبي الأرض وخطوط العرض والطول على الكرة السماويّة، مما يساعد الفلكيين على وضع خارطةٍ لمواقع النجوم في السماء.
ما هو مركز الكون؟ الشمسُ أم الأرض؟
كانت الحضاراتُ القديمة منذ قرونٍ خَلتْ، تنظر إلى السماء وتعتقد بأن الأرض مركز الكون وأن الشمس والنجوم تدور حولها. ومع تزايد فهمنا للكون، بدأ البشر يدركون صغر الأرض وضآلتها .. فهي لا تعدو كونها كوكباً صغيراً يدور حول نجمٍ عادي في مجرّةٍ ذات مئة بليون نجمٍ على الأقلّ، بيد أنّنا مُحقّون في اعتقادنا بأنّ الأرضَ متميّزة.
من بطليموس، الفَلَكي المصري الذي عاشَ ما بين 100 و 170 للميلاد، الذي اعتقد بأنّ الأرض مركز الكون، وأنّ كلّ كوكب يدور على نفسه، وصولاً إلى المقراب الفضائي العملاق الذي اخترعه العالم الفلكي الأميركي هابل في العام 1990م. ومِن نظر العين المجرّدة وأوهامها، إلى المسابير الفضائية والأقمار الصناعية والمركبات الفضائية، يظهر أنّ ثمّة إعجازاً كونياً فلكياً مبكراً وأسراراً في الوجود، يجهد العقل البشري على امتداد الأزمنة وتراكم المعرفة والاختراعات ورحلات الاستكشاف في الفضاء، لحلّها.
أما الناظر من الفضاء إلى الأرض فقد لا يرى البشر في حياتهم اليوميّة .. على أنّه لا بُدّ أن يلاحظ المدن الكبيرة في الليل بأضواء منازلها وشوارعها. الرياض تتلألأ بأضوائها في الليل، نيويورك تتلألأ… القاهرة كذلك، باريس… جميع عواصم العالم النابضة بالحياة… فلو أَطَلَّ علينا زائر من الفضاءِ، لا شكَّ في أنه سيجد في هذه الأضواء في الليل، دليلاً قاطعاً على أنّ على الأرض حضارةً متطوّرة.
الليل في الشعر والغناء
(1) صور الليل في الشعر الكلاسيكي
إنّ ما يغري الشعراء والمُغنّين بالليل، عتمته وغموضه، والسحر المنبثق من أعطافه، فضلاً عن البعد عن ضوضاء النهار والصمت المغري بالتأمّل والاستغراق، ما يجعل النفوس تطلق هواجسها على مداها الواسع.
وليل الشعراء والمغنين ليس واحداً، فهو بين طويل وقصير. تغنّي أم كلثوم من شعر أحمد رامي ويقَصَّروكْ يا ليلْ/ ويطوّلوكْ يا ليل ، وهو بين مساحة للحزن والانتظار، أو مساحة للفرح واللقاء، وربما كان فسحة للتأمّل أو للعشق أو للذّة أو للاستغراق الميتافيزيقي، وربما كان مدى للآلام النفسيّة أو الجسديّة. إنّ ليل الوجع ليل طويل، أما ليل المتعة فليل قصير.
هناك إذن الليل الطبيعي، الليل الكرونولوجي، ليل الساعة وهو ليل محايد. وهناك الليل النفسي الذي تلوّنه النفس البشريّة بما تُضْفي عليه من أفكار وأحاسيس ووجدان تبعاً لكل نفس وما تنطوي عليه.
في الليالي العربيّة، تنطلق أصوات المغنين بـ ياليل طويلة .. وتتبعها يا عين ، حيث العين للسهر لا لليقظة، وكما قال عمر الخيّام (بترجمةٍ من أحمد رامي وغناء أم كلثوم، في الرباعيات):
فما أطال النوم عمراً ولا
قَصَّر في الأعمار طول السَهَر
فالليل، كما يقول الأخوان رحباني وتغني فيروز ليس للنوم . الليل للسهر، ثم إنّ الليل، أيضاً هو العائد الذي يعود في كل ليلة، ويخيّم على الناس، ويوزّع عليهم أقدارهم الحلوة وأقدارهم المُرّة:
ليليّه بترجعْ يا ليلْ
وبتسأل عنّاسْ
وبتسقيهن يا هلّيلْ
كل واحد من كاس
يقول أحمد شوقي ويغني محمد عبد الوهّاب:
سجا الليل حتّى هاج لي الشعَر والهوى
وما البيد إلاّ الليل والشِعر والحبُّ ..
فألَّفَ بين البيداء والليل والشعر والحبّ.
إن امتداد صوت المغنّي العربي بـ يا ليل يسعفه التركيب الصوتي لكلمة ليل ، فما بين اللامين هناك ياء يمكن أن يمدها المغنّي إلى ما لا نهاية. إنه التكرار والتماثل والامتداد بلا آخر هو الذي يجعل من كلمة يا ليل في الغناء العربي، جزءً لا يتجزأ من خصوصيات فنون العربيّة جميعها، من عمارة وموسيقى وغناء وشعر، وهو فنّ الأرابيسك -Arabesque- حيث التكرار والتماثل يؤديان إلى ما يشبه الدوران وبالتالي النشوة. وهو ما لا نجده في سائر لغات العالم، لا سيّما الغربيّة منها. فليس من عادة المغنّي الفرنسي على سبيل المثال، ولا في استطاعته أن يُعيد ويمدّ ثم يعيد كلمة nuit (ليل بالفرنسية) مثلما يعيدها ويمدّ فيها المغنّي بالعربية، بسبب أنّ هذه الكلمة بالفرنسية، لا يسمح تركيبها الصوتي بذلك. فاللغة تدلّ على روح الشعب، وعلى فكرِهِ في وقت واحد. ومثلها كلمة Night (ليل بالإنجليزية)، فهي لا تسمح بدورها بامتدادات الصوت والترجيع كما تسمح به يا ليل بالعربيّة.!
ولو تتبعنا الليل، كمفردة وكمعنى أو مناخ، في الشعر العربي، لوجدناه ملازماً له من بداياته المعروفة ومرافقاً له في جميع مراحله حتى اليوم. فالليل في الصحراء العربيّة كان من لزوميّات الشعر الجاهلي. لكنّ الليل بالنسبة للشاعر الجاهلي لم يكن واحداً ومتماثلاً، فلكل شاعر ليله، مثلما أنّ كلاًّ يغنّي على ليلاه … يقول أمرؤ القيس:
وليلٍ كموج البحرِ أرخى سدوله
عَليَّ بأصناف الهمومِ ليبتلي
فقلتُ له لمّا تمطَّى بصلبِهِ
وأردَفَ أعجازاً، وناءَ بكلكلِ
ألا أيُّها الليل الطويل ألا انجلِ
بصبحٍ وما الإصباحُ منكَ بأمثلِ
فليل أمرئ القيس ليل حسّي… يُشَبِّهُهُ الشاعرُ تشبيهين حِسيّين يظهرانِ على طَرَفَيْ نقيض: هو من جهة، كموج البحر تشبيهاً، وهو بعد ذلك كالجمل استعارةً … فينتقل امرؤ القيس في بيتين من الشعر، من البحر إلى الصحراء، في وصفه لليل. لكنّ ليل امرئ القيس هو ليل ابتلاء وهموم. فهو مدى وزمان للحزن، وليس مدى للتأمّل أو الفرح. ليل امرئ القيس ليل هَمّ، لا ليل رومانسية أو ليل شراب أو ليل حبّ.
أما الليل الذي يصفه النابغة الذبياني، فهو مدى وجودي كالقَدَر. يقول مخاطباً النعمان ابن المنذر، واصفاً هروبه منه، وأين؟ إنه كالقَدَر الذي لا فكاك منه.
فإنك كالليلِ الذي هو مُدْرِكي
وإنْ خِلْتُ أنّ المُنتأى عنكَ واسِعُ
والليل الصحراوي، على الغالب، ليلُ قِرى، وإيقاد للنارِِ في الصحراء القاسية ليستهدي بها الضالون والجياع، من الناس، وحتّى من الوحوش، فيغدو الذئب صديقاً للإنسان، وتجمع قسوة العيش بين الأضداد المتناهشة، فتتعاطف وتتحابّ.
ومن أجمل ما قيل في الليل، كمدى للعاشِقَيْن، وفُسحة سترٍ لهما يتمنيان ألاَّ يكشفها النهار، قول الشاعر الجاهلي عامر بن الحارث النميري:
.. وَوَدَّ الليل زيدَ عليهِ ليلٌ
ولم يُخْلقْ له أبداً نهارُ
والليل كشرط رومانسي للشاعر العاشق الحزين أو للأسير، يظهر في أجمل مظاهره، في قصيدة أبي فراس الحمداني التي قالها هو في سجن خرشنة من بلاد الروم، ومنها:
.. إذا الليلُ أضواني بسطت يد الهوى
وأذللتُ دمعاً من خلائِقِهِ الكِبْرُ
فليل أبي فراس هنا، ما هو؟
إنه ليلُ السِتر، حيث يطلق فيه الشاعر أسباب الهوى، ويبسط يده فيه .. فلا يراه أحد أو يشمت به شامت. وهو ليل يمكن أن يطلق فيه الشاعر دمعه (يُذلُّهُ) فلا يراه أحد أيضاً، ولا ينال من خلائق الكبرياء فيه. والكبرياء تمنع الشاعر من البكاء لكنّ الليلَ سِتْر.
وليلُ الفرزدق كما يهجوهُ به الأخطل، هو ليل ستر لغواياته:
لقد ولدت أم الفرزدقِ فاجراً
فجاءت بوزّارٍ قصير القوائمِ
يُوصِّلُ حبليه إذا جُنّ ليلُه
ليرقى إلى جاراتِهِ بالسلالمِ
ويقول بشار بن برد، وفيه يظهر الليل مضاعفاً بالنسبة لشاعر أعمى كبشّار:
وطالَ عليَّ الليلُ حتّى كأنّه
بليلين موصولٌ فما يتزحزحُ
كأنّ الدجى زادت وما زادت الدُجى
ولكنْ أطالَ الليلَ هَمُّ مُبرِّحُ
ويصف المتنبي الليل في أماكن متعددة من شعره، فهو يشبّه مجموعة من النجوم تُسمّى بنات نعش في الدجى بنساءٍ حييات ينظرن بخفر. ووجه الشبه أن ضوء بنات نعش خافت خفيف كنظرات النساء الحييات. يقول:
كأنّ بناتِ نَعْشٍ في دُجاها
خرائدُ سافراتٌ في حداد
ويشبّه المتنبي، في بيت من أبياته، الليل الأسود بعين الظبي. وهو القائل في الفخر بيته الشهير:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاسُ والقَلَمُ
وله بيته الشهير أيضاً في الغزل:
أزورُهُمْ وسوادُ الليل يشفع لي
وأنثَني وبياضُ الصبحِ يُغرِ بي
ويقول في قصيدة يصف فيها الحُمّى:
.. وزائرتي كأنّ بها حياءً
فليس تزور إلا في الظلامِ
أما ليل أبي العلاء المعرّي، فهو ليلٌ مضاعَفٌ وكثيف، ليلٌ فيه زيادة هي زيادة الإحساس الخاص به، إحساس الأعمى بالليل. وهو أيضاً ليلٌ يظهر فيه توفّز أحاسيس الشاعر الذي بفقدانه حاسّة البصر، زيدَ له على سائر الحواسّ حسّ إضافي. يقول:
يا ساهر البرقِ أيقظ راقد السَمَرِ
لعلّ بالجَزْعِ أعواناً على السَهَرِ
يودُّ أنّ ظلام الليل دامَ لهُ
وزيد فيه سوادُ القلبِ والبَصَرِ
والنجم تستصغر الأبصارُ صورتَهُ
والذَنْبُ للطرفِ لا للنجمِ في الصِغَرِ
(2) صُورَ الليل في الشعر الحديث
بنقلةٍ طويلةٍ في الزمان، نجد نازك الملائكة، الشاعرة العراقيّة التي أسَّسَتْ مع بدر شاكر السيّاب وعبد الوهّاب البياتي للحداثة في الشعر العربي، تصدر ديواناً مبكراً لها في ستينيات القرن الماضي بعنوان عاشقة الليل فالليل لدى نازك الملائكة هو مطرح رومانسي للعشق. لكنّ الشاعر الفلسطيني محمود درويش يجعل من الليل رمزاً للمحنة أو الضيق، من خلال ديوانه آخر الليل نهار .
يطوّر شعراء الحداثة العربيّة بعد ذلك، التعامل الإبداعي مع الليل، وينقلونه خاصةً على أيدي كل من أدونيس (علي أحمد سعيد) وعبدالوهّاب البياتي وصلاح عبدالصبور، من الإطار الانطباعي، أو الرومانسي الغنائي، إلى مستويات أكثر دلالةً وعمقاً. واختيار نماذج من هؤلاء الشعراء الحداثيين، هو اختيار دلالة وتمثيل أكثر مما هو سعي للإحاطة الشاملة بكل ما ورد في الليل وحوله من شعر قديم وحديث، فالليل في الشعر طويل وليس له آخر، سواء أكان ذلك في الشعر القديم أو الشعر الحديث.
–
الليل الأدونيسي
(من خلال كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل)
رصد الليل ومشتقاته، واستعمالاتها في شعر أدونيس، خاصة في ديوانه كتاب التحوّلات والهجرة في أقاليم النهار والليل يضعنا أمام ليلٍ خاص من الشعر، هو ليس بالتأكيد ليلاً انطباعياً، بل هو في الغالب ليل تعبيري تجنح به رمزيته نحو اتجاه حلولي حيث العناصر تندمج في ذاتها بجميع نقائضها، وتذوب الحدود الفاصلة بين الليل والنهار، ثم تندمج بعدئذ في ذات الشاعر، في ما يُسمّى فلسفياً بوحدة الوجود. في قصيدة شجرة النهار والليل يقول:
ويضيءُ الليلُ الصديقُ
وتنسى نفسها في فراشِيَ الأيامُ
وهو، في دمجه ما بين الأشياء والعوالم والأشخاص، وفي دمجه ما بين المتناقضات، وما بين الداخل والخارج، والذات والعالم، يلخص رؤيته للعالم (ولليل والنهار) في قصيدة بعنوان شجرة .
وكانَ والسوادُ في طريقِهِ يضيء
يُغيّر الأسماء
يعشق من ماتَ ومَنْ يجيء
ويهجر الأحياء
…
كل شيْءٍ يعود
يكتمل التحوّل
يصير ندياكِ الليل والنهار
أعرفُ الآن أين يكون الليل
حين يجيء النهار
وأين يكون النهار
حين يجيءُ الليل …
– لدى عبد الوهّاب البياتي
الليل لدى عبد الوهّاب البياتي كثير، وغزير الاستعمال، فهو تارةً انطباعي، وتارةً رمزي وأخيراً هو إناء للطوطم والأسطورة. ليل العالم السُفلي. يقول (وليل الشاعر هنا انطباعي): ما أوحشَ الليلَ إذا ما انطفأ المصباح (من ديوان سفر الفقر والثورة). ويقول: مدنٌ بلا فجرٍ تنام . ويقول في قصيدة قمر المعرّة :
الليل في معرّة النعمانْ
زنجيّة على رخام جيدها
قلائد الجُمانْ
وهو يأخذ المعنى من المعري الذي يقول:
ليلتي هذه عروس من الزنجِ
عليها قلائدٌ من جمانِ
لكنّ الليل في مواضع أخرى متقدّمة من شعر البياتي، يبدأ بالتدريج بالدخول في منطقة الرمز ومنطقة الما بين ، ثم يغدو ليلاً سُفْلياً أو مكاناً وزماناً للعالم السفليّ الذي غاص إليه البياتي، وقبض في أعماقه على الطوطم والسحر والأقنعة في شعره. يقول في الذي يأتي ولا يأتي :
مَنْ كان يبكي تحت هذا السور؟
كلاب رؤيا سامرٍ مسحور
تنبح في الديجور
تبرز هذه الرؤية الطوطمية لليل، في قصيدة الليل في كل مكان .
عديدة أسلاب هذا الليل في المغارة
جماجم الموتى
كتاب أصفر
قيثارة
نقش على الحائط
طير ميّت
عبارة
مكتوبة بالدم فوق هذه الحجارة
إنها النقلة الجوهرية في شعر البياتي: من الخارج إلى الداخل (مع الليل)، من الانطباعية إلى الرمز إلى العوالم الغامضة والسفلية.
– في شعر صلاح عبد الصبور
الليل الأكثر جوّانية وخصوبة في الشعر العربي الحديث هو ليل صلاح عبد الصبور. إنه ليلُ الحال. الليل الحزين، الليل المُرّ الطيّب المرارة. الشَغَف الشفّاف والامّحاء فيه كأنه الموت الناعم. الموت مع الغيبوبة في أعماق المحيط.
في قصيدة أغنية لليل من ديوان أحلام الفارس القديم الصادر باكراً عن دار الآداب العام 1964م، يقول:
الله لا يحرمني الليلَ ولا مرارته
وإنْ أتاني الموت فلأمُتْ محدّثاً أو سامِعاً
في ركني الليلي في المقهى الذي تضيئه مصابح حزينة
حزينة كحزن عينيها اللتين تخشيانِ النور
في النهار
يطوّر صلاح عبد الصبور رؤيته لليل، في ديوانه شجر الليل الذي صَدَر له في العام 1972م، أي بعد ثماني سنوات من صدور أحلام الفارس القديم . في قصائد هذا الديوان تختلط أنفاس الشاعر بالليل. يندرج في صمته اللانهائي وسكونه العميق الحزين. بل هو يجر في الوحدة والتأمّل واستراق السمع للخفاء. الليل هنا عَصَب وحلول. يقول في قصيدة تأملات ليليّة :
أبحرتُ في عيون الناس والأفكار
وتِهْتُ وحدي في صحارى الوجد والظنونْ
غَفَوْتُ وحدي
مشرّد القبضةِ مشدود البَدَنْ
على أرائِكِ السَعَف
طارق نصف الليل في فنادق المشرّدين
أو في حوانيت الجنونْ
سريت وَحْدي في شوارعٍ لغاثها سِماتُها عَماءْ
أسمع أصداء خطاي
ترنّ في النوافذِ العمياء
أحسّ أني خائف
وأنّ شيئاً في ضلوعي يرتجف
وأنني سقطت في كمين
وتفصيلات الليل، أحواله، وخرائطه، يعرضها صلاح عبد الصبور في قصيدته أربعة أصوات ليليّة للمدينة المتألّمة ، ومما جاء فيها:
آهٍ .. ليس هو الليل بل الرحم القبر الغابه
ليس هو الليل بل الخوف الداجي أنهار الوحشة والرعب الممتدّ
والأحزان الباطنة الصخّابه
آه ليس هو الليل بل القدر الرؤيا الهَوْليّة
وسقوط الحاضر في المستقبل
آهٍ .. ليس هو الليل بل الجرح اليومي ينزّ دماً أسود في الصبح المقبل …
الليل في اللوحة التشكيليّة
ملاحظات أوّليّة على بعض اللوحات
لعل الرسّام الهولندي رمبرنت (1606 – 1669) هو أشهر من تعامل مع الظلام والضوء. فلوحاته التعبيريّة تغطيها ألوانٌ قاتمةٌ، وفي أشكاله تجسيد لانبثاق الضوء من الظلمة فهو أعظم من أظهر لعبة التضادّ بين الضوء والظلمة في لوحاته بعد أن كان هذا المذهب الجمالي قد ظهر في القرن السابق على أيدي الإيطالي كارافاجيو والفرنسي جورج دي لاتور، خاصة وأن لوحات هذا الأخير هي كلها مشاهد ليلية. أما مع غويا، فبوسعنا أن نلاحظ في لوحته إعدام في الليل خلفية مظلمة ترمز للظلم والوحشيّة، تنبثق منها إشارات ضوئية كالصرخات.
ولا شكَّ في أن غويا تأثّر بدراميّة الرسام الهولندي التعبيري بروغل. فكلاهما أسقط إحساسه الحادّ بالظلم البشري على اللوحة، وصَوَّر صراع الإنسان مع القوى المعادية له.
وحين تنظر إلى لوحات كلٍّ من بروغل وغويا تحسّ بدراميّة كل منهما، وكأنه يرسم صورة ذاتية لنفسه أو لداخله الدرامي من خلال اللوحة وحِدّة الصراع فيها. وهو صراع وحشي حتى الموت بلا مصالحة وكأن كل واحد من الفنانين يصوّر في لوحته حلبة لصراع الثيران حيث لا بدّ من موت أحد المتصارعين: إمّا الثور أو الماتادور.
لدى الانطباعيين، تشعر بالليل وكأنه يلامس السطح، وهو ليل غيرُ معمَّق، وغير مكثّف، فالرسامون الانطباعيون لا يستعملون الألوان ولعبة الضوء والظل، ولا يرسمون عناصر الطبيعة إلا من باب المحاكاة. والألوان الليليّة تتأرجح بين الأزرق بروس Prusse والأزرق الكوبالت (الكوبيا) والأزرق الفاتح الفيروزي المشبع بالأبيض. القمر عنصر بارز في اللوحة الليلية، حيث يحوط فَرَحٌ بهالات القمر المرسومة. نجد ذلك على سبيل المثال عند ديلاكروا. وروسّو الذي صَوّر الغابة وفوقها قمر جميل – كما صوّر لوحة البدوي النائم في الصحراء وقربه أسد يتأمله، وإلى جانبه ربابة.
بالانتقال إلى الرسام الفرنسي بول غوغان (1902 – 1848) نجد له لوحة بعنوان مقهى ليلي في آرل مؤرخة في العام 1888م، حيث تظهر طاولة بلياردو خضراء تجلس أمامها امرأة ضخمة الجثة. وراء طاولة البلياردو أناس جالسون بخلفيّة حمراء … وهم محاطون بألوان زرقاء نيليَّة وسوداء. هنا تبرز أشكال وألوان وحشيّة تذكّر بمشاهد الغروب في الغابات الإفريقية أو في جزر تاهيتي حيث أقام غوغان لمدة، ورسم مشاهد تعبيريّة ووحشيّة تغلب عليها الألوان السوداء والحمراء.
ومن أشهر اللوحات التي تصوّر الليل، لوحة لماكس أرنست بعنوان الليل . وهي مناخات من اللون الكوبالت والمافوق بنفسجي مع قمر شديد الجمال. ثمة مساحتان في اللوحة: مساحة بلون شديد الحمرة بقليل من البرتقالي على مساحة من الكوبالت، مع قمر كبير يطلّ من وراء المساحتين. إن رسالة ماكس أرنست تمّت تأديتها أو التعبير عنها من خلال هذه الألوان الثلاثة. وهو سريالي من طراز فريد تعامل مع الليل كدراما داخلية. ولكننا أيضاً نشعر في هذه اللوحة بفرح خاص يوصله إلينا ماكس أرنست من خلال الكآبة.
لقد تعامل السرياليون وخاصة سلفادور دالي ورينه ماغريت مع الليل. وكان قد مهّد لهم كل من غويا وغوغان وفان غوغ بتعبيريتهم القويّة الغامضة والمفارقة. يكفي النظر للوحة فان غوغ المقهى الليلي حيث المآسي تتردد في صراعات اللون والإنارات القليلة والنجوم الحلزونية الحزينة في اللوحة.
لدى دالي أكثر من لوحة عمل فيها على الليل. وهو، كجميع السرياليين يعتمد على لون البروس وهو عبارة عن أقتم لون أزرق مقترن مع لون الكوبالت.
إن ليل سلفادور دالي وسائر السرياليين هو ليل يُقدِّم نفسَهُ كمستند حلمي لا كعنصر مرئي. إنه عنصر متخيّل شَجَي، وليس نهائياً بل هو جزء من كلّ الليل ليس كلاّ بحاله، وليس قائماً بذاته، بل هو جزء من ديناميكية المخيّلة في اللوحة. ولكاندينسكي (1944 – 1866) لوحتان من مرحلته المتأخرة الهندسية. الأولى بعنوان خطوط سوداء حيث تظهر في اللوحة مجموعة بقع لونية زرقاء وحمراء وصفراء وبنفسجية تخترقها خطوط سوداء. والثانية بعنوان خطوط بيضاء تُظهر صور آلات وخطوط متقاطعة زرقاء وصفراء وبيضاء في عُمْقٍ أسود فاحم (ليلي). وفي لوحته المسماة بعض دوائر تظهر دوائر صفراء وخضراء وزرقاء وبنفسجيّة متداخلة وكأنّها دوائر فلكيّة تدور في ظلمة فاحمة (ليلية). وهناك لوحة أخرى شبيهة بها بعنوان حول الدائرة حيث عمق اللوحة أسود.
أما السريالي خوان ميرو (1893 – 1983) فقد رَسَم الليلَ في لوحةٍ هي مدى أزرق متموّج تخترقه أشرطة بيضاء وصفراء في جانبها الأيسر الأعلى وفي الصورة قمر أصفر معقوف على شكل موزة. وفي لوحته كلب ينبح القمر ثمّة خلفيّة سوداء موشحة بقليل خافت من الأحمر. في جانبها الأيمن السفلي كتلة كلب صغير عجائبي جسمه أبيض ورأسه أزرق وأصفر وأحمر ينظر إلى قمرٍ نصفي أبيض في النصف الأيمن من الصورة، وثَمّةَ سلّم صاعد من أسفل الصورة إلى أعلاها يؤمّن التوازن في الكتل مع غرابة المشهد.
يبقى أخيراً أن نشير في هذه الملاحظات حول الليل وأشكال حضورِهِ في الفن التشكيلي الغربي من خلال أبرز مدارسه ورموزه، إلى لوحة ماغريت (1898-1967م) عن الليل، وهي عبارة عن ليلٍ أزرق واسعٍ عُلْويٍّ تحته شريطُ مدينةٍ سوداءَ تضيء منازلها نوافذُ صغيرةٌ حمراءُ، ودائرة قمرٍ أبيض في أعلى الصورة، تحيط به أوراق أشجارٍ رماديّة، كما برع هذا السريالي الفذ في رسم ثنائية الليل والنهار في لوحة واحدة مثل المنزل المضاء ليلاً في حديقة مظلمة تحت سماء نهارية زرقاء.
وتصبحون على خير..
الحياة ليلاً
لأن عين الإنسان تحتاج إلى مستوى معين من الضوء للرؤية الضرورية لأي نشاط يقوم به، تطورت ساعته البيولوجية برمتها وتكيّفت مع إيقاع الليل والنهار.
فمعظم النشاط الإنساني يتم نهاراً. ومع حلول الليل يبدأ هذا النشاط بالتباطؤ تدريجاً. ويبلغ هذا التباطؤ ذروته ما بين منتصف الليل والفجر، حين يخلد معظم الناس إلى النوم.
الليل للنوم.. وللسهر أيضاً.
فالبحث عن الراحة بعد عمل النهار لا يقتصر عند الكثيرين على النوم، بل يتضمن مجموعة لا تعد من النشاطات: تبادل الزيارات، الخروج إلى المطاعم ودور الترفيه، التنزه في الأماكن العامة، التسوق في ساعات الليل الأولى، وحتى مشاهدة التلفزيون في البيت.
يتناول الإنسان وجبتي طعام نهاراً، أما في الليل فواحدة. وفي الأمر مؤشر إلى اختلاف إيقاع الحياة الذي يتباطأ ليلاً، ولكنه لا يتوقف تماماً.
نمو المدن الحديثة واختراع الإنارة الكهربائية وتحسن المواصلات ووسائل النقل من جملة الأمور التي أمدت حياة الليل في عصرنا بطاقة لم يعرفها الإنسان القديم ولا حتى الجيل السابق.
فإن كانت الأحياء السكنية في المدينة الحديثة تدخل في سبات ملحوظ في ساعات الليل الأولى، ففي كل مدينة هناك شوارع ومناطق أو حتى نقاط صغيرة لا تعرف السبات، بل تبقى تعج بالحياة والنشاط.
لقد أوجد الليل الحديث حاجات جديدة، وبالتالي فرص عمل جديدة. ولا يقتصر الأمر في هذا المجال على حياة اللهو والترفيه، بل شمل أيضاً قطاعات كاملة مثل الحراسة الأمنية التي توفرها الشرطة ودورياتها السيّارة، والمستشفيات وأقسام الطوارئ فيها التي لا يغمض لها جفن، وعمال التنظيفات الذين يؤدون مهامهم ليلاً لضعف حركة السير التي تعرقلهم نهاراً (أو يعرقلونها)، والمطارات المرتبطة بحركة عالمية لا تميّز بين الليل والنهار.
هل هو حقاً مخيف؟
للشعراء ليلهم الجميل.. ولغيرهم ليل آخر.
فلأن الظلام يضعف الرؤية وقد يحجبها تماماً، كان الليل تاريخياً ولا يزال المسرح الأول للجريمة، يتحرك خلاله اللصوص والمجرمون بحرية أكبر، ليس بالضرورة بعيداً عن الأعين، بل حتى بقربها وهي لا تراهم.
معظم جرائم السرقة، وأينما كان في العالم تحصل ليلاً.. وجرائم القتل أيضاً. وحتى قوانين المرور تفقد بعضاً من مهابتها ليلاً.
لقد نقلت إلينا آداب العالم روايات تتحدث عن ليل مختلف تماماً عن ليل الشعراء. إنه ليل جاك باقر البطون و الدكتور جيكل في لندن، و ريا وسكينة في مصر. وما من أدب أوفى الليل حقه في هذا المجال كالأدب البوليسي الذي كان الليل بطله الخالد. ولعل ذروة ما توصل إليه الخيال الأدبي في التعامل مع الليل المخيف هو في نسج أساطير لا يكون الليل فيها مسرحاً للجريمة، بل هو نفسه العامل المثير للرعب. ومن أشهر ما يعرفه الجميع في هذا الميدان روايات مصاص الدماء دراكولا الذي يقوم من تابوته ليلاً ليفترس ضحاياه، و الرجل المستذئب الذي يعاني من لعنة تحوله الدائم ليلاً من رجل إلى ذئب وبالعكس.
والواقع أن هذا النوع من الأدب، ومهما كانت قيمته أو قيل فيه، يبقى مؤشراً صادقاً إلى وجود نوع من الوحشة بين الإنسان والليل.
فالإنسان يخشى ما يجهلة وما لا يستطيع أن يراه. ولذا هناك دائماً نوع من الوحشة في البيت المظلم، وفي الشارع المظلم وفي الغابة المظلمة.. قد يقتصر التعبير عنها عند البالغين على توخي الحذر ولو بشكل غير ملحوظ. أما الأطفال فيعبرون عن خوفهم من الليل بعفوية وصدق أكبر، حتى البكاء.
الليالي أحداثٌ كبيرة
في مسرح شكسبير
تنطلق مسرحية (هاملت) كبرى مسرحيات شكسبير من نصف الليل بالكشف عن جريمة لتنتهي بانتقام وانتحار في منتصف الليل. والليل هو مسرح اللحظات الفاصلة والوقائع الكبيرة في مسرحياته، في كنفه الاعترافات التي لا تجرؤ الشخصيات البوح بها للنهار. إنه ليل الفعل الجل والبوح الكبير:
تعال أيها الليل الكثيف
وتسربل بأحلك ما في جهنم من دخان
لكي لا ترى مديتي الماضية الجرح من طعنتها،
ولا تنفذ السماء بعينها غطاء الظلام،
فتصرخ كفى كفى
(ليدي مكبث مخاطبة الأرواح الهائمة في جنح الليل)
هذا من الليل هزيع السحر
ساعة تفغر المقابر أفواهها، وينفث الجحيم
في هذه الدنيا الوباء. لعمري بوسعي الآن
أن اشرب الدماء حارة، وآتي من رهيب الفعل
ما يرتعد النهار لرؤيته!.. على رسلك- إلى أمي
الآن على رسلك- إلى آمي الآن
(هاملت ..متوعداً الانتقام)
وفي ليلة عاصفة يكاشف ايرل أوف كنت مليكه (لير) منطلقاً من وصف الليلة :
لهفي عليك يا سيدي.. أأنت هنا ؟
حتى عشاق الليل
لا يحبون ليالي كهذه
إن الأجواء المغضبة
لترهب حتى ساريات الظلام
وتجعلها تقعي في جحورها منذ شبابي
لا أذكر أني قط سمعت أو رايت
سجفاً من نارٍ كهذه قصف رعدٍ رهيبٍ كهذا
ولولات كهذه من أمطار وريح هادرة
طبيعة الإنسان لا تقوى على
هذا الرعب والبلاء .
(الملك لير- الفصل الثالث )
– ما هزيع الليل يابني؟
– لقد غاب القمر لم أسمع الساعة
– وهو يغيب في الثانية عشرة
– أتصور أن الساعة بعد ذلك سيدي
– هاك خذ سيفي – السماء تتباخل
فشموعها كلها مطفأة – وخذ هذا أيضاً
بي نعاس ثقيل كالرصاص.
ومع هذا لم أستطع النوم
..ياقوى الرحمة
اكبحي في الخواطر اللعينة التي تستسلم
لها الطبيعة ساعة الهجوع
أعطني سيفي
حوار بين يانكوو قائد الجيش وإبنه فليانس بانتظار مكبث
وفي مشهد ليلي يسأل مكبث شريكه في مقتل (دانكن) يانكوو إن كان سيذهب بعيداً..
فيجيبه يانكوو:
على بعد ما يملأ الزمن يا مولاي
بين هذه الساعة والعشاء
وإذا لم يحسن حصاني الركض
فلا بد لي من أن أستعير من الليل
ساعة ظلام أو اثنتين
الروامس
الروامس، أو الحيوانات الليلية هي الحيوانات التي تنام نهاراً وتنشط ليلاً. ومعظم الثديّات الصغيرة والعديد من الحشرات واللافقاريات هي من الروامس. إلا أن طيور الليل قليلة جداً، وكذلك هي السناجب والقرود.
تتمتع الحيوانات الليلية بشكل عام بحاسة شم وحاسة سمع جيدتين. أما حاسة البصر لديها فضعيفة. ذلك لأن العيون لا تبصر إلا في الضوء، وللبومة عينان كبيرتان جداً تكتفيان بضوء الليل الضئيل.
تحدد بعض الروامس، كالخفافيش، وجهتها وتكشف فرائسها، بإصدار أصوات قصيرة حادة ترتد على الحشرات والحواجز، فعندما يعود صدى هذه الأصوات إلى الخفاش، فإنه يتوجه نحو الصوت أو بعكسه.
أما الأسباب التي تجعل بعض الحيوانات تنشط ليلاً فهي كثيرة. ومنها أنها تختبئ بسهولة من أعدائها الناشطين في النهار، كما أنها متكيفة وبشكل طبيعي لتجد فرائسها برغم الظلمة.
وتستفيد البيئة كثيراً من نشاط الروامس هذا فلو لم تكن الحال بهذا الشكل لكانت الحيوانات كلها تنشط في النهار فقط، مما يسبب عدم توازن بيئي. لهذا تتناوب مجموعات حيوانية عديدة على النشاط عند الفجر والغروب بالطريقة ذاتها التي يتناوب فيها عمال المصانع. فللفراشة والبشارة من ناحية، وللسنونو والخفاش آكل الحشرات من ناحية أخرى الوظيفة ذاتها. إلا أن هذه الحيوانات تقوم بوظيفتها في أوقات مختلفة من اليوم.
ويلجأ بعض الروامس كالفئران والهررة إلى حاسة اللمس ليسرح ليلاً، بفضل الشوارب ذات الشعرات الطويلة التي تستخدمها في التحسس.