الثقافة والأدب

السيرة الذاتية رواية

  • 85a
  • 81a

العلاقة بين السيرة الذاتية والرواية، هي علاقة ملتبسة وخلاقة بين جنسين سرديين، كثيراً 
ما تفضي التفاعلات بينهما إلى نصوص إبداعية متميزة، تثير اهتمام القرَّاء والنقاد داخل سياقات التداول المحلي والعالمي.
الناقد الدكتور معجب الزهراني، يستوقف بعضاً من الأعمال الروائية العربية التي حامت حولها بعض الالتباسات النقدية، محاولاً تحليل الظاهرة لدى بعض الروائيين العرب.
منطق المعرفة يفيدنا بأن تجربة الكتابة الإبداعية هي جزء أساسي وحميمي من تجربة الحياة بأبعادها الفردية والاجتماعية والإنسانية. وإذا كان هناك مبدعون يميلون إلى الكتابة عن الآخر والخارج كما هو حال نجيب محفوظ وعبدالرحمن منيف وإلياس خوري والطيب صالح وجمال الغيطاني.. فمن الطبيعي والمنطقي تماماً أن نجد كُتَّاباً آخرين يتوجهون بمجمل إبداعاتهم السردية أو الشعرية إلى عالم الذات والداخل.

حينما أفرد ميخائيل باخنين جزءاً مهماً من بحوثه في مجال السرديات وجماليات الخطاب الروائي لـ رواية السيرة الذاتية فإنه كان يعني، في المقام الأول، الكشف عن الخصائص الدقيقة المائزة لفن سردي يتأسس على مركزية الأنا الكاتبة في النص، بحيث لا نرى أو نسمع أو نفكر في شيء من مروياتها إلاَّ من منظور هذه الذات الفردية الخلاقة. هكذا لا نجد عنده، أو عند هيجل من قبله، مماحكات نظرية عقيمة تنتج عن أسئلة مغلوطة من قبيل: هل هذه رواية فنية أو سيرة ذاتية عادية؟ لماذا 
لا يحترم الكاتب الحدود بين المتخيل والواقعي؟ من له حق تسمية العمل المنجز أهو الكاتب المنتج أم الناقد الخبير؟ ألا ينبغي محاسبة الكاتب على أقواله وأفعاله حينما يتجرأ فيقحم تجربته المعيشية الخاصة على النص الروائي..إلخ.

رواية سيرية..!
الإبداع اللغوي مادته اللغة ومجاله الخطاب، أما جمالياته فالمؤكد أنها تتحدد وتتجدد بفضل قدرة الكاتب المبدع على إنجاز نص لا ينضاف إلى الموجود السابق بقدر ما يضيف إليه ما لم يكن موجوداً من قبل، مثله مثل المبدع في مجالات الفكر والعلم. وحينما نقرأ النماذج النصوصية في ضوء الملاحظات النظريات والمنهاجية لا يعود من المهم الخوض قليلاً أو كثيراً في قضايا الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه النص ويمثله إذ يكفي أن نسميه رواية سيرية اختصاراً للتسمية الشائعة رواية السيرة الذاتية التي اكتسبت مشروعيتها من شيوعها بين الباحثين في هذا المجال. الأمر المهم حقاً بالنسبة للناقد يتعلق بالتوجهات والأنماط الفرعية التي ينبئ بها النص ويبرزها في مستوى الخطاب السردي الذي ما إن نعاينه من هذا المنظور حتى نكتشف مدى غنى وتنوع المنجزات الإبداعية وإن اندرجت ضمن تسمية نظرية واحدة. فما يعرف بالأمس واليوم بـ الرواية الواقعية أو رواية الأطروحة أو رواية التعلم أو رواية المغامرات.. هي أيضاً أشكال فرعية تنمي سيرورة تطور الجنس الروائي المنتمي بدوره إلى نوع الخطاب الأدبي، لأن كل منجز فردي خلاق يفترض أن يغني المنجزات السابقة ويدخل المزيد من المرونة والثراء إلى المقولات النظرية السائدة.

مواجهة الخطاب المهيمن
علاقات التوتر والعنف من الظواهر البارزة في كل المجتمعات العربية وإن كانت بدرجات متفاوتة في الحدة، ومن المنطقي تماماً أن نجدها ثيمة مشتركة فيما بين أعمال روائية من مختلف الأشكال والفترات. و تلك الرائحة لصنع الله إبراهيم من أوائل النصوص الروائية التي تجرأت على كشف مظاهر التسلط على الفرد. والكاتب عاش تجربة نضال من أجل قيم وأفكار وقوانين يعتقد بأنها تحقق المزيد من معاني الحرية والكرامة والتقدم للفرد والمجتمع. هذه التجربة هي التي أفضت به إلى المعاناة هو وغيره. وهو ما مثّل صدمة عميقة لوعيه وغيّر مجرى حياته التالية كلها. وبدأ يبحث عن مخرج من المحنة، وقد وجده في الكتابة الروائية التي يمكن أن تعينه على تحقيق الذات المبدعة فيه والاستمرار في المقاومة.

حينما نشر النص على نطاق ضيق أدرك الوسط الأدبي أنه يمثل تحولاً نوعياً في الكتابة الروائية المصرية والعربية، ولذا احتفى به يوسف إدريس في تقديمه له وهو الكاتب المبدع المجدد في مجال القصة القصيرة كما نعلم. فاللغة السردية موجزة حد التقشف، وتعبيراتها شفافة وخالية تقريباً من المحسنات البلاغية التقليدية، والأحداث التي ينقلها الراوي / الكاتب سرداً ووصفاً وتعليقاً هي تفاصيل صغيرة منتقاة بعناية من مجال الحياة اليومية للراوي/ الكاتب لتدل بأساليب الكنايات والتوريات على أجواء القلق والخوف الخاص والعام.

نص محمد شكري السيري (الروائي) لا يختلف في مستوى العموميات عن نص صنع الله إبراهيم، إذ إن تجربة الحياة المخترقة بأنواع الشقاء والعنف هي حافز الكتابة وموضوعها المركزي. الاختلاف الأهم بين النصين أن الكاتب الثاني يعيّن سلطة الأب كمصدر أساسي لما عاناه الأبناء وأمهم من صنوف القلق والخوف والقمع والحرمان. بالطبع لا يخفى على الكاتب أو على القارئ أن السلطات الاجتماعية الأخرى تتحمل الجزء الأساسي من مسؤوليات الفقر والجهل الذي تعانيه هذه الأسرة الريفية المعدمة وأمثالها من الأسر التي تنتمي إلى الفئات والطبقات المسحوقة.

لكن تركيز الكاتب على نزعة التسلط المرَضي في شخصية الأب مبرر منطقياً وفنياً إذ ليس كل الآباء الفقراء يمكن أن يعاملوا زوجاتهم وفلذات أكبادهم بمثل هذه الوحشية التي تصدم القارئ منذ الصفحات الأولى حيث يقترف الأب جريمة قتل ابنه المريض أمام الأسرة..!

وضعيات الخوف والعنف والإدمان داخل المنزل التي أوشكت أن تدمر حياة الكاتب نتيجة مباشرة لسلوكيات ذلك الأب الذهنية والعملية. هكذا ما إن تعلم الابن القراءة والكتابة بالصدفة، وفي سن متأخرة، حتى قرر أن يكتب تجربته لا لينتقم من أبيه كشخص وإنما ليخلخل ويهدم بنية تسلطية عميقة الجذور في مجتمع تقليدي ذكوري يعلي من مكانة الأب حتى ليكاد يقدسها. فالكاتب لم يكن ينتمي لجماعة إيديولوجية محددة، ولم يكن يريد الإعلان عن ذات الفنان المبدع فيه بقدر ما كان يحاول التحرر من الذكريات المؤلمة وآثار الخبرات الصادمة التي عاشها في طفولته وشبابه مثله مثل كثيرين من أبناء الأوساط الاجتماعية الفقيرة المهمشة.

بعد هذا لم يكن من المستغرب أن يمنع النص ويقمع إلى أن تُرجم ونُشر في لغات أجنبية ولاقى اهتماماً واسعاً لدى الأدباء والنقاد الذين وجدوا فيه خطاباً جديداً وغريباً عن ثقافته الأصلية التي لم تتعود رؤية الذات الإنسانية في عريها الفطري، وبالأخص إذ تكون في ذروة معاناتها الجسدية أو النفسية. ولا شك في أن هذه الكتابة دشنت سيرورة أدبية ثقافية جديدة في سياقها الخاص مثلها مثل كتابة صنع الله إبراهيم وكتابات أخرى تحقق مقولة الانتهاك والهدم للخطاب السائد بأمل أن تعاد صياغته ليكون أكثر قرباً من المعاني البسيطة والحميمية لإنسانية الإنسان إذ يتخفف أو يستغني عن كل النعوت والهويات المسبقة.

تعميق الفهم ونشر الوعي
تعتبر ثلاثية الأزقة المهجورة لتركي الحمد منجزاً روائياً فاجأ الوسط الأدبي والثقافي، الذي كان يعرف جيداً الكاتب أستاذاً جامعياً له العديد من المقالات والبحوث الجادة في مجال الفكر السياسي الحديث، ولذا لم يكن يتوقع منه أعمالاً أدبية كهذه. من هذا المنطلق نزعم أن التوجه إلى الكتابة الروائية جاء متأخراً نسبياً ليحقق وظيفتين مختلفتين ومتكاملتين في الآن نفسه. فالشكل الروائي يستعمل هنا قناعاً يسمح للذات الكاتبة بالتعبير الحر عن آرائها وأفكارها ومواقفها من جهة، وبتحقيق تلك الشخصية الإبداعية التي تنطوي عليها الذات دون أن تختبر طاقاتها من قبل في هذا المجال من جهة أخرى. إنه لمن اللافت للنظر أن هذه الثلاثية تتجه في كل أجزائها إلى استعادة تجارب الماضي وخبراته من منظور نقدي تأملي يخضع الكاتب من خلاله حياته في مراحل الطفولة والمراهقة وبدايات الشباب والنضج لمقولات الفكر الحديث الذي تمثله جيداً في سياق رحلة التعلم إلى أمريكا وعاد ليعلمه ويكتب في ضوئه أستاذاً في الجامعة. فهذا الفكر الجديد هو الذي نمّى وعيه وغيّر نظرته لذاته ولمجتمعه وللعالم من حوله، وهو الذي لعب دور الحافز العميق لكل كتاباته المعرفية، لكنه لا يحضر في الكتابة الروائية إلا بطريقة غير مباشرة تتناسب مع منطق كتابة روائية سيرية كهذه. إنه يحضر كأثر تتلمسه القراءة في انتخاب الأحداث ونمذجة الشخصيات وإبراز المواقف من خلال عمليات المقابلة والتضاد لتتكشف أبعادها الدلالية المختلفة من دون تدخل مباشر من قبل الكاتب.

استعمال صيغة السرد بضمير الغائب يجعل الراوي الحاضر في كل زمن ومكان ممثلاً للذات الكاتبة في الحاضر، بينما الشخصية المركزية في كل الأجزاء (هشام العـابر) تمثل الذات في المـاضي. في الجـزء الأول بعنـوان العدامة (1997) تدور الأحداث حول هذه الشخصية وهي في مرحلة الطفولة المتأخرة تتعلق بالأب والأم لكنها تبدأ في اكتشاف الرغبات وميول الذهن إلى قيم وأفكار جديدة، وهذا ما يفضي إلى وعي مبكر باستقلالية الذات لدى فتى ذكي مرهف المشاعر. وفي الجزء الثاني (الشميسي ـ 1997) تتعزز سيرورة الوعي بالذات حيث يبتعد الفتى عن سلطان العائلة المحافظة، ويلح عليه سن المراهقة لتحقيق الرغبات رمزياً وعملياً، وتلعب الدراسة الجامعية دوراً مهماً في بلورة الرأي والموقف لينخرط هشام العابر في تنظيم حزبي تقدمي متفتح لكنه في الوقت نفسه غاية في التراثية والسلطوية لأنه غير مشروع أصلاً. أما الجزء الثالث بعنوان الكراديب ( 1998) فتدور حكاياته وأحداثه حول معاناة الاعتقال والسجن. إننا هنا أمام كتابة تحاول استعادة تجارب الماضي القريب بقصد تفهم القضايا وتحليل العلاقات ونقد مواقف الذات والآخرين في حقبة معينة من تاريخ المجتمع الذي كان هو أيضاً يعاني وطأة التحول من وضعية تقليدية عتيقة إلى وضعية جديدة تفرضها عليه بنية الحياة الحديثة وتقنيات النقل والتواصل الحديثة ومعطيات الفكر والعلم الحديثة هي أيضاً. من هذا المنظور لأبد أن استعمال تقنيات الكتابة الروائية وأساليبها وحِـيـَلها المعتادة مثّل حاجة ملحة لكاتب مثقف يبحث عن أقنعة فنية كهذه لتؤمّن له مسافة كافية عن أحداث الماضي وحكاياته (شرط الموضوعية) بقدر ما تحرره من المسؤولية المباشرة عن مروياته أمام سلطات المجتمع بما أن السرد المتخيل مرفوع عنه القلم بمعنى ما (شرط الحرية الفنية).

كل هذه القضايا تستحق المزيد من التأمل والبحث عوضاً عن قضايا مزيفة وأسئلة مغلوطة طرحها بعض النقاد عندما صدرت هذه الثلاثية تباعاً ليتخذها الكاتب منطلقاً إلى مشروع روائي لا يزال متصل الإنجاز. إنه لمن الغريب حقاً أن نقاداً بارزين أسهموا بقسط وافر في تغذية جدل عقيم حول ما إذا كانت هذه رواية أو سيرة ذاتية، بل حول ما إذا كان الكاتب روائياً أصلاً، وكأنهم لم يسمعوا بشيء عن رواية السيرة الذاتية أو عن التنوعات الغنية لما يعرف عموماً بالرواية الواقعية. إن القيمة الفنية الفكرية الأساسية لهذه الثلاثية تحديداً تتمثل في الكشف عن تجربة حياة فردية واجتماعية حيوية وحميمية لا نكاد نجد لها أثراً في الخطاب الثقافي السائد محلياً. ولعل مما يعزز القيمة المزدوجة لكتابة كهذه أنها طُبعت أكثر من مرة وتُرجمت إلى غير لغة وأصبحت شخصية الروائي في الكاتب تنافس شخصية الباحث المفكر بقدر ما تغنى خطابها وتبث آراءها وأفكارها في مجالات التداول الخاصة والعامة بأكثر من أسلوب وفي أكثر من شكل.

احتفال ذاتي جمالي
في نص الحزام تتجه العلاقات بين السيرة الذاتية والرواية إلى التفاعل الحر، إذ يحاول الكاتب الاحتفال بعالم الطفولة والقرية الريفية من منظور شعري أصيل فيه. وأحمد أبو دهمان ولد ونشأ في قرية ريفية منعزلة بأقاصي جنوب غرب الجزيرة العربية، وحينما، انتقل في سياق الرحلة التعليمية، إلى أبها فالرياض ثم إلى باريس؛ ظلّ يحمل قريته في داخله جمرة متقدة كما يقول في مستهل نصه الذاتي الحميمي هذا. علاقات الانفصال والاتصال هي ذاتها التي أفضت به إلى تملك عالم القرية رمزياً ومن ثم إعادة صياغته كسلسلة غنية من الأحداث والحكايات المعبر عنها بلغة سردية يخترقها الشعري في كل مستوياتها. وصفة الواقعية الشعرية هي إذاً الصفة الأنسب للنص كما بيناه تفصيلاً في مقاربات سابقة للنسخة الفرنسية وللترجمة العربية التي أنجزها الكاتب نفسه ولذا اعتبرناها نسخة ثانية لا ترجمة بالمعنى المعهود.

والقراءة الخطية للنص تكشف عن أن المحتوى العام للنص يتشكل من مواد سيرية، أي من ذكريات الكاتب وتجارب حياته الشخصية في وسط عائلي ريفي تلعب فيه علاقات القرابة الدور الأهم في الحياة. وشخصيات الابن والأب والأم هي الأبرز في الحكاية من هذا المنظور، ولعل أهم قاسم مشترك فيما بينها هو التعلق الفطري الأصيل بكل ما هو فني ممتع يروِّح عن الروح ويغذيها بالمزيد من الطاقة للعمل والإنجاز. فالأب كان مولعاً بالاحتفالات الشعبية، والأم كانت شاعرة وعاشقة للشعر حتى إنها تؤمن إيماناً عميقاً بأن كل شيء في القرية أغنية أو قصيدة في الأصل. وهذا الابن ـ الكاتب ورث عنهما الحساسية المرهفة والطاقة الخلاَّقة، وبخاصة طاقة الإبداع الشعري التي تحوّل الكلمات إلى كائنات تحلق وتضيء. والقراءة المتأنية للنص ذاته تكشف أن المواد المتخيلة تخترق كل مقاطعه ولكنها تتمحور حول علاقات الراوي ـ الكاتب بشخصية رمزية مختلقة هي شخصية حزام الذي سُمّي النص باسمه مع بعض التحوير.

ومنذ المشهد الافتتاحي للنص نجد هذا الشخص المتقدم في السن نموذجاً للحكمة، لكنه يتصرف أحياناً كالأحمق أو المجنون، وهو الحارس الأمين للأعراف والتقاليد، لكنه أكثر من ينتهكها من دون أن يثير أحداً؛ لأنه موضع ثقة الجميع حتى في شـذوذه، وهو يحب الراوي ويتوسم فيه أن يكون خليفته بعد مماته، وفي الوقت نفسه يعنفه ويشككه في ذاته ورجولته. هكذا لا تتصل العلاقات بين هاتين الشخصيتين المركزيتين حتى تتكاثر وتتنوع التوترات والتوازنات فيما بينهما وكأن كل واحدة منهما قرين الذات الأخرى وقناعها. إنها لعبة التخيل والتخييل الإبداعي إذ يراد لها أن تشكل الرافعة الأساسية للبنية السردية العميقة التي يعبر عنها في مستوى البنية الخطابية الظاهرة بتلك اللغة الشعرية المتناسبة كل التناسب مع الرؤية السحرية الأسطورية في عالم ريفي تقليدي منعزل من جهة ومع الرؤية الشعرية الاحتفالية للكاتب من جهة أخرى. الكتابة كلها هنا لا تتحدد مقاصدها بنقد الواقع الماضي أو بإبراز تحولات الذات الفردية وتطور أشكال وعيها، بقدر ما تتحدد بالاحتفاء بفضاءات تبدلت وبشر ماتوا وتجارب حميمية افتقدت، أي بذلك العالم الريفي البسيط الجميل الذي ما إن تعرض لإبدالات التقنية وصدمات الحداثة حتى انهارت مقوماته الأساسية خلال عقود قليلة لفرط عزلته وهشاشته.

نحو مزيدٍ من الحوار
هذه النماذج ومثيلاتها تدل دلالة قاطعة على أن الرواية السيرية شكل فرعي من أشكال الإبداع الروائي لا يقل تنوعاً وتجدداً عن الرواية الواقعية أو رواية المغامرة أو رواية الأطروحة الفكرية. فالتسمية النظرية الجامعة للجنس السردي أو للنمط الفرعي تكون أكثر وجاهة معرفياً وأكثر فعالية إجرائياً حينما تتفتح على جديد الإبداع الذي لا يكون إبداعاً جمالياً إلا بقدر ما يغامر ويبحث ويكتشف ويتجاوز الخطاب النقدي الذي يحول تسميات كهذه إلى حدود جامعة مانعة أو إلى مقولات معيارية تدل على انغلاق الذات الناقدة على محفوظاتها المعرفية من جهة وعلى جمود ذائقتها الفنية عند نماذج محدودة ومحددة سلفاً من جهة أخرى.

عدد قليل من النصوص المتميزة بمعنى من المعاني كشف لنا أن التفاعلات الخلاقة بين الرواية والسيرة الذاتية 
لا تخضع للمحفزات ذاتها ولا تتجه إلى الغاية ذاتها. فهناك من يدون ماضيه القريب بلغة فنية ليدينه ويقاوم آثاره المدمرة في الحاضر والمستقبل؛ إما لأن الذات الكاتبة مقتنعة بضرورة النضال أو لأنها تريد تحرير ذاتها من ألم الذكريات والتجارب المرة التي قد تدمر أسمى ما فيها من معاني الإنسان والحياة. وهناك من يعود إلى تجاربه وخبراته الماضية ليحولها إلى موضوعات للتأمل والفهم نشداناً للمزيد من أشكال الوعي بالذات والمجتمع والعالم. هناك توجه ثالث يمثله بعض الكتاب ممن يطيب لهم العود الرمزي إلى فضاءات الطفولة البعيدة وعلاقاتها الحميمية المفتقدة للاحتفال بها، لما تنطوي عليه من قيم البراءة والحب والمرح وهي قيم لا يفتقر إليها إلا شقي. هل هذه التوجهات التي أبرزتها القراءة الحوارية لتلك النماذج هي توجهات سائدة بحيث يمكن أن تندرج ضمنها أغلبية النصوص من هذا القبيل؟.

نزعم ذلك، لكننا في أمس الحاجة إلى استقراء المزيد من المغامرات والمنجزات كيما نثبّت الاستنتاج أو نعدله ونطوره. البحث في هذا المجال يلبي حاجة معرفية في المقام الأول؛ لأنه يغني تصوراتنا عن الكتابة الإبداعية الخلاقة التي عادة ما تفاجئ الوسط الأدبي والنقدي وتخلخل قناعاته وتربك توقعاته مثلها مثل المنجزات الخلاقة في مجالات الفكر والعلوم الدقيقة. مفهوم الأفق الجمالي المتغير من فترة لأخرى بحسب ياوس وآيزر 
لا يختلف كثيراً عن مفاهيم الابستمي عند باشلار وميشيل فوكو أو الجذر المعرفي ـ البرادايم ـ عند توماس كون، إذ أن هذه المفاهيم تسمى التغيرات والتحولات التدريجية أو الفجائية في مجالات الفكر والعلم. فكما أن هناك من يعتبر العصر الحديث،وبحق، عصر الثورات العلمية والتقنية المتسارعة فإنه أيضاً وفي الوقت نفسه يمكن أن يعتبر عصر الثورات الجمالية المتوازية والمتتالية لأن سيرورات التطور الحضاري العام واحدة في العمق.

قوس قزح ..
مقطع من رواية الحزام لأحمد أبو دهمان
ذات يوم اعترفت لأمي بأني أحب امرأة سواها.

«تعرفين يا أمي كم أحب الشعر، وتعرفين أني أحبك أكثر من الشعر، لكن في هذه الفتاة شيئاً ليس فيك ولا في الشعر. أنا على يقين من أنها هي «قوس قزح».

كان حزام قد باح لي ببعض أسرار القرية:

هنا في قريتنا ولدت أول قصيدة، نبتة ذات ألوان كثيرة 
لا تحصى، وكل لون له عطور وروائح لا تعدّ، وكل عطر له من الأرواح ما يملأ الكون.

أجدادنا كانوا أرضاً خصبة وعذراء، والكلمات تخرج من أفواههم على هيئة أرواح عطرة. كان من عاداتهم البقاء شبه عراة كالأشجار، خاصة عندما يصعد المطر. وفي زمن لا يذكره أحد، بدأت المياه في الصعود فجأة. حاصرهم المطر طويلاً في بيوتهم.

في تلك الفترة حمل الكثير من نساء القرية، وهو حدث لم نجد له تفسيراً بعد. وما أدهش القرية هو أن هذا الحمل وحّد هؤلاء النسوة جميعهن، فحين أنجبن لم تذهب أي منهن إلى الحقول، مما أغضب الرجال بالتأكيد، لكن إجابتهن كانت حاسمة: «لكل نباته».

ولأول مرة، اكتشف الرجال حالة الضعف هذه لدى النساء، فأخذوا يحملون لهنّ الماء، ولكن بكثير من المنّة والاحتقار والشعور بالفوقية.

كان في إمكان النساء أن ينسين هذا الامتهان لولا أن نتائجه كانت مرعبة. فلقد شكّلت تلك اللحظة بالنسبة لهن نهاية الحياة. وأخذن يصرخن: «لا ماء في الماء».

لأن الماء الذي حمله الرجال لم يعد يروي عطشهن، ولا عطش النباتات الشعرية التي أخذت تغادر القرية في اتجاه السماء، حيث تتحول إلى سُحب وبروق وأعاصير، كانت بداية معركة لم يشهد أجدادنا مثلها من قبل، وهي المرة الأولى التي يسقط فيها عليهم المطر من حجارة ومن صخور. مطر قاتل. وأمام الموت أخذ أجدادنا في الغناء بما تبقى لهم من الحياة.

ولمواجهة هذه الكارثة، تدخلت الشمس لإنقاذ القرية. احتضنتها في يدها اليسرى، وفي اليمنى احتضنت كل النباتات لتحيلها إلى صورة أجمل امرأة في القرية، تلك التي ما زلنا نسمّيها إلى اليوم «قوس قزح».

منذ تلك اللحظة فقد الماء خاصيته الأولى التي تتمثل في إعطاء الأشياء ألوانها الحقيقية، وأصبحت الأشياء هي التي تمنح الماء لونها. إلى أن فقد الماء لونه أيضاً.

قررت النساء الذهاب للبحث عن الماء أملاً في إنقاذ كينونته، ولإنجاز هذه المهمة الشاقة انقسمن إلى فرقتين، فرقة تجلب الماء والأخرى تُرضّع الأطفال إلا أن جهودهن لم تنجح في إنقاذ الماء. لكنهن منحن الحليب طاقة لم يكنّ يعرفنها من قبل وهي أن أطفال القرية أصبحوا أخوات وإخوة. هكذا تحوّلت القرية إلى أسرة واحدة وتحوّل الماء القديم، ماء أجدادنا إلى ضوء. ومن هنا حافظ على خاصيته الأساسية المتمثلة في إعطاء الأشياء ألوانها.

في قريتنا فقط. ما زال في إمكاننا أن نرى الماء ينساب في حنجرة أي قوس قزح.

ولكن حزام روى الحكاية بطريقة أخرى. قال إن أول قصة حب بين رجل وامرأة وقعت في القرية ذاتها، وقد استعذب الناس الحب وعشقوه إلى أن تسامى بعضهم واختفى إلى الأبد. وكادوا يقتلون الحب ويقضون عليه، أما الذين بقوا على قيد الحياة فهم أولئك الذين لم يعرفوا الحب. ولإنقاذه وإنقاذ الإنسانية تدخلت الشمس وأحالت الحب إلى قوس قزح.

أضف تعليق

التعليقات