قول آخر

سُلْطَة العادات

بينما تمارس العادات والتقاليد دوراً سلطوياً بالغاً في تشكيل الواقع الاجتماعي، بل تصل في بعض المجتمعات إلى أن تكون نوعاً من القوانين غير المكتوبة التي تسيّر أنماط التفكير في حياة هذه المجتمعات، نجد أن في الكتابة السردية لا يستطيع الكاتب فكاكاً من هذه التقاليد إلا بمقدار ما ترتكز عليه نزعاته نحو الاستقلال، والاستيعاب العميق لكيفية التخلص من طغيان العادات والتقاليد المستقرة.

وإحساس الكاتب بفرديته في مثل هذه المجتمعات التي تحدد فيها العادات والتقاليد أنماط الحياة، يقوده – حتى دونما وعي أحياناً – إلى إعادة مساءلة هذه العادات سعياً إلى محاولة فرزها ما بين (المضيء) و(المعتم) فيتجلى الحس الفردي في أعلى درجات تمرده على الوعي الجماعي، وعلى الثقافة وتاريخ الجماعة بصورته النمطية. وهذا المحور أو الإلغاء أو التخلي عن ثقافة المجموع لا يأتي لمجرد الاختلاف فحسب بل يأتي تأكيداً لتناقض الرؤية الجديدة مع السائد ونفورها منه، كما يمنح الذات مساحة من الحرية تحقق فيه، بعيداً عن تأثيرات الآخر، شهوة التمايز النوعي، وسط سلطة ثقافية طاغية تفرض وجودها عبر منافذ مختلفة.

وإذا كان الناس يعرفون أنفسهم من خلال النسب والدين واللغة والتاريخ والقيم والعادات والمؤسسات الاجتماعية، فالكاتب يطمح إلى أن يعرف نفسه عبر اختلافه عن التفكير السائد والمهيمن بحيث لا يبقى رهناً أو خاضعاً لما تشكله هذه الأيقونات من سلطة تبقي المجتمع دائماً في المربع الأول من رحلة الصعود والنهوض نحو ما هو مشرق وشفيف.

وإذا كانت العادات والتقاليد تشكل بصورة محددة الهوية الثقافية لأيما مجتمع، يبقى المجتمع ذاته مضطرب الهوية ما لم يأخذ موقفاً نقدياً صارماً إزاء هذه العادات، ومعرفة مدى مطابقتها لحركة التاريخ ومعطيات الواقع.

وهذا دور أولي ينهض به بالضرورة المبدعون والكتّاب. فرؤيتنا للعالم يجب أن تنطلق دائماً من أسئلة: من نحن؟ وإلى أين نسير؟ وكيف نسير؟.

يقول كارل مانهايم في كتابه الأمة واليوتوبيا : يكون المجتمع ممكناً لأن أبناءه يحملون في رؤوسهم صورة مشتركة عن هذا المجتمع تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً، صورة تصنع وعياً عاماً.. إننا ننتمي إلى جماعة ما ليس فقط لأننا ولدنا فيها، ولا لأننا نعترف بالانتماء إليها، ولا لأننا نمنحها ولاءنا وإخلاصنا؛ بل لأننا أساساً نرى العالم وأشياء بعينها في العالم بطريقة واحدة هي طريقة هذه الجماعة.. . ولعل وقوف الكاتب / المبدع بشوق وحب على تحليل أسباب التوتر الاجتماعي، يحيله فوراً إلى (العادات والتقاليد) وبالتالي محاولة صوغه في أي قالب سردي، على أن يكون ذلك مصحوباً بموقف نقدي، إذ لا يمكن أن يكون الكاتب محايداً تجاه ما يراه أو يظن أنه معتم في دروب تحول مجتمعه نحو الأفضل والأكثر إشراقاً. ربما رغبة في الوصول إلى مجتمع الصناعة، مجتمع الحرية الفردية والإرادة الفردية والمشاركة الفردية في بناء المجتمع. مجتمع الحداثة والتحديث. المجتمع المتصف أبداً بالحراك على عكس المجتمعات الساكنة المطمئنة إلى عاداتها وتقاليدها، بل قد يهدر بعضها وقتاً طويلاً مملاً في توهم الدفاع عن هذه العادات وحمايتها، وفي الواقع هي تسعى لحماية وجودها؛ لأنها 
لا تملك شيئاً آخر يمنحها وجوداً سوى هذه العادات والتقاليد!!.

وفي تقديري أنه يمكن تقسيم العادات والتقاليد إلى: أفكار تفرز سلوكيات وممارسات ومواقف، وماديات تتمثل في الفلكلور، وربما كنت معنياً ككاتب في مناطق جمالية معينة، بنقد تقاليد وعادات الأفكار، ومحاولة التآخي بوعي مع الفلكلور وتقديم البعد الإنساني فيه والعمق الجمالي له، بحيث 
لا يبقى مجرد إرث يقوم بمعزل عن بهجة الحياة وأسئلة الكون الوجودية.

أضف تعليق

التعليقات