الدكان والملحمة والفرن من ملامح أحياء المدينة، كذلك أصحابها، الذي كانت تنشأ بينهم وبين أهالي الحي علاقات بحلوها ومرها، ولكنها بكليتها كانت تغني حياة الأحياء بالقصص والتعليقات والذكريات.
وبقدر ما كانت إلى جانب وظائفها الأصلية تمثل سلوى للكبار ومواضيع حديث وحوار، كانت للصغار أيضاً مواقع يقتاتون منها الكثير من الأفكار والانطباعات والدروس، وتبقى ذكراها معهم على مر السنين. وترى انعكاس هذا في كثير من رواياتنا الأدبية، فيتذكر أحد شخصيات الرواية من أين كان يشتري الحلوى أو الكعك، أو انطباعه أول مرة زار الملحمة، أو علاقته بصبي الفرن، وغير ذلك الكثير.
لا شك أن ثلاثية الحي هذه جزء لا يتجزأ من ثقافة الطفل واندماجه الاجتماعي، وهي تعطيه بعض ما لا يعطيه إياه أهله، بما في ذلك الاطلاع على ما لا يجوز أن يطلع عليه وهو في تلك السن. ثم إنها، إضافة إلى كل هذا، تشكل حلقة رئيسة في الإطار الذي كان يتشكل منه الحي والذي كان بأكمله المدرسة خارج المدرسة .
وكما هو معروف فقد تعرض هذا الحي إلى ما يشبه الإفناء على مراحل، فالسيارات والشوارع العريضة واختفاء الأراضي البور من أحياء المدن كانت كفيلة بالقضاء على الحي بنسب مختلفة.
ثم ظهر السوبرماركت وتبعه المول ليجعل محلات الأحياء أشبه بمخلفات زمن مضى وكأن وجودها لم يعد له ما يبرره. وشيئاً فشيئاً تكاد تقضي هذه الكيانات الكبيرة ليس فقط على دكاكين الأحياء بل على جميع المحلات حتى في شوارع المدينة العامة لتحصرها جميعها داخل تلك الأسوار المقفلة للسوق الجبار. حتى محلات الملابس أو المفروشات أو الخدمات العريقة أصبحت مهددة بالزوال، وأصبح الفارق بين الحالتين هو أن تكون في المول أو لا تكون. وبقدر ما افتقد الناس طابع العلاقة الشخصية بصاحب دكان الحي أو صبيه افتقدوا أيضاً العلاقة بصاحب محل الملابس أو الأدوات المنزلية أو المفروشات، والذي كانوا يشعرون أنهم اختاروه واختاروا نوع بضاعته ومعاملته بل ومشورته أحياناً.
وبطبيعة الحال فإن كثيراً من هذه المحلات اندثر لصالح الماركات العالمية الجاهزة. وأصبح الإنسان يشعر أن دوره في أي اختيار غدا في حدوده الدنيا. فحين يحتاج غرضاً ما يتوجه إلى المول ويدخل محلاً من المحلات التي تحوي ما يظنه أقرب إلى مذاقه أو حاجته، فيدخل حيث يستقبله فريق لا يعرفه من البائعين، فإما يشتري أو لا يشتري ويخرج.
وغدت عملية الشراء ذاتها أشبه بطعم الوجبات السريعة التي سواء أكنت تحبها أم لا تحبها، فإن عليك أن تعتادها.. وتنسى الوجبة التي تعد لك في المنزل.. وتنسى دكان الحي.. وتنسى ولد الفرّان…