يستضيف هذا الباب المكرّس للشعر قديمه وحديثه في حلته الجديدة شعراء أو أدباء أو متذوقي شعر. وينقسم إلى قسمين، في قسمه الأول يختار ضيف العدد أبياتاً من عيون الشعر مع شروح مختصرة عن أسباب اختياراته ووجه الجمال والفرادة فيها، أما الثاني فينتقي فيه الضيف مقطعاً طويلاً أو قصيدة كاملة من أجمل ما قرأ من الشعر.. وقد يخص الضيف الشاعر القافلة بقصيدة من آخر ما كتب.
ما من متذوق للشعر قرأ أعمال محمد الثبيتي، إلا وأفرد له مكاناً مميزاً على قائمة كبار الشعراء المعاصرين. وفيما يعمل نادي حائل الأدبي، حالياً، على جمع «ديوان محمد الثبيتي» الذي سيضم المجموعات الشعرية الأربع التي سبق أن نشرها، وبعض القصائد الجديدة، يتوجه أحمد إبراهيم البوق بهذه التحية إلى محمد الثبيتي، شفاه الله، ويعرض لنا قراءته لعيِّنة محدودة من النماذج المختارة من شعره.
لا يذكر الشعر الحديث في الجزيرة العربية إلا مقروناً بمحمد الثبيتي، لا لشيء سوى أنه قامة فارعة في سماء الشعر، وقمة يصعب الوصول إليها فضلاً عن تجاوزها. شاعر مسكون بالتوجس الشعري، يمزق ويحرق أكثر مما ينشر من شعره على قلّته.
يقول: «مزقت من أوراقي الكثير.. وأحرقت الكثير.. وخنقت في صدري ولادات فجّة ينقصها الانصهار الكامل في عمق الجرح».
شاعر أصيل قادم من عمق الصحراء ومجاهل الجبال. لغة ومفردات شعرية ورؤية.. لا يدل شكله البسيط على قمة الشعر التي يتربع عليها باقتدار، وعمق الرؤية وصدق التنبؤ المبثوث في معظم شعره حتى حد الدهشة.
ولد الشاعر محمد الثبيتي في مدينة الطائف في 1952م وهو حاصل على بكالوريوس في علم الاجتماع ومرّت تجربته الشعرية بثلاثة اعترافات مهمة:
•
جائزة أفضل ديوان شعري من نادي جدة الأدبي عن ديوانه «التضاريس» في أواخر التسعينيات الميلادية.
•
جائزة أفضل قصيدة في الدورة السابعة لمؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع والمنعقدة في الجزائر في 2000م عن قصيدته «موقف الرمال.. موقف الجناس».
•
جائزة شاعر سوق عكاظ في دورته الأولى في 2007م عن مجمل إنتاجه الشعري.
قبل ثلاثة عقود، كتب الشاعر محمد الثبيتي مقدمة لديوانه الأول «عاشقة الزمن الوردي» جاء فيها:
«منذ مدة طويلة، وأنا أورط نفسي في اقتحام مجاهل الشعر وذرع متاهاته المسحورة.. أحاول هزّ أفنانه اللدنة لتمطر لي الورد.. والفراشات والسوسن والأصداف.. وتمنحني الإكسير المتوهج الذي يهبُ الحبّ والحياة. وأدعو أشعته الملونة لتخضل في صدري.. وتورق بين أصابعي، وتلد لي السحر والرحيق «والقصيدة العصماء».
منذ ولادات الشعر بين يديه ومحمد الثبيتي يحاول اقتحام مجاهله. لغة سامقة عذبة، مفردات شعرية غارقة في المحلية، تكللها رؤية إنسانية عميقة. منذ قصيدته «فواصل من لحن بدوي قديم» من ديوانه الثاني «تهجّيت حلماً تهجّيت وهماً» وهو يقول:
«…رسم الشوق على أهدابه
لغة عليا
وعمراً مستحيلا
يتهادى شامخ الصوت
سماوي الهوى
تنهل الصحراء من عينيه
موّال الصّبا الليلي
واللحن الجميلا».
مفرداته ولغته
مفردات البداوة جلية في شعره. إنها نموذج للنقاء الإنساني الذي لم تلوثه المدنية، ورمز للحكمة التي أجلتها التجارب القاسية، والنبوءة فيها فطرة.
ففي قصيدته «صفحة من أوراق بدوي» يقول:
«هذا بعيري على الأبواب منتصبُُ
لم تعش عينيه أضواء المطارات
وتلك في هاجس الصحراء أغنيتي
تهدهد العشق في مرعى شويهاتي
……………
…………..
أنا حصانُ عصيُّ لا يطوّعه
بوح العناقيد أو عطر الهنيهات
أتيت أركض والصحراء تتبعني
وأحرف الرمل تجري بين خطواتي
……………
…………..
يا أنت لو تسكبين البدر في كبدي
أو تشعلين دماء البحر في ذاتي
فلن تزيلي بقايا الرمل عند كتفي
ولا عبير الخزامى من عباءاتي».
اللغة عند الثبيتي أداة للرؤية وهي أداة مقدسة لا تباح ولا تستباح. فالشعر فن رفيع يكسب حضوره عند جمهور المتلقين من كيمياء المزج بين العذوبة والعمق، بين ملامسة الوجدان الحاضر واستشراف المستقبل. ففي ديوانه الثالث «التضاريس» يقول الثبيتي:
«مرحبا سيد البيد
إنا نصبناك فوق الجراح العظيمة
حتى تكون سمانا وصحراءنا
وهوانا الذي يستبدُّ فلا تحتويه النعوت».
وفي ديوانه الرابع «موقف الرمال» يقول في قصيدته «موقف الرمال.. موقف الجناس»:
«بين أصابعي تتعانق الطرقات والأوقات».
ويقول في قصيدة «الأعراب»:
«ليتهم نظروني حتى أعود
فأرقيهم بالحروف التي لا تُرى
والحروف التي تتناسل تحت الثرى
والحروف التي لا تباح ولا تستباح».
شعر الثبيتي غناء شعري لا يُمل، لأنه ينهل من صفاء الإبداع. يقول في قصيدة «وضّاح»:
«صاحبي .. لا تملّ الغناء
فمادمت تنهل صفو الينابيع
شق بنعليك ماء البرك».
واللغة الشاهقة تطارد الشاعر ويطاردها وهي سمة في شعره.
يقول في ترتيلة البدء من ديوان «التضاريس»:
«من شفاهي تقطر الشمس
وصمتي لغة شاهقة تتلو أسارير البلاد».
النبؤة فطرة في الفنان المبدع إنها مقابلة للحدس الذي يستشف الآتي. يقول الثبيتي في (القرين) من ديوان «التضاريس»:
«أتدرك ما قالت البوصلة؟
زمني عاقر
قريتي أرملة
وكفي معلقة فوق باب المدينة
منذ اعتنقت وقار الطفولة
وانتابني قلق المرحلة».
أما في «البشير» فيقول:
«أنا آخر الموت ..
أول طفل تسوّر قامته
فرأى فلك التيه
والزمن المتحجر فيه».
أما في تغريبه القوافل والمطر فيقول:
«إنا سلكنا الغمام
وسالت بنا الأرض
وإن طرقنا النوى
ووقفنا بسابع أبوابها خاشعين
فرتل علينا هزيعاً من الليل
والوطن المنتظر».
ويقول:
«يا وارد الماء عِلّ المطايا
وصبّ لنا وطناً في عيون الصبايا
فما زال في الغيب منتجع للشقاء
وفي الريح من تعب الراحلين بقايا».
على امتداد الدواوين الأربعة التي أبدعها الشاعر محمد الثبيتي -شفاه الله- وحتى قصائده الأخيرة «الرقية المكية» و«بوابة الريح» ظل وفياً لقاموسه الشعري المتفرد، لغة شاهقة، مفردات شعرية مغرقة في الخصوصية الثقافية والجغرافية والاجتماعية، ورؤية إنسانية واسعة وعميقة.وكما هي عادة المبدعين دائماً، تمضى أشرعتهم بما لا تشتهي ريحهم وحيثما يكون القلق الإبداعي تكون القصيدة والوطن أينما تلقى المفاتيح.