حياتنا اليوم

عبدالعزيز المانع
تحت أضواء جائزة الملك فيصل

بعد أكثر من ربع قرن من عمله على تحقيق التراث ونشره، جاءته جائزة الملك فيصل العالمية في اللغة العربية وآدابها، لتدق بابه وخلفها الأضواء الإعلامية التي يستحقها الرجل. إنه البروفيسور عبدالعزيز المانع.
أحمد الحسين يرسم لنا الصورة الشخصية لهذا العالِم الذي كان أول محقق سعودي يفوز بهذه الجائزة المرموقة عالمياً، ويعرض بعض إنجازاته ونشاطاته في دنيا الأدب والتعليم ومؤسساتهما.
ظل الدكتور عبدالعزيز المانع يتفادى الأضواء، ويحرص على العمل بهدوء في المجال الذي نذر نفسه له، ألا وهو مجال اللغة والتراث، ولكن الأضواء سعت إليه سعياً، واقتحمت عالمه الهادئ عندما حصل على جائزة الملك فيصل العالمية في اللغة العربية وآدابها، وتسلمها في الاحتفال الرسمي الذي أقيم في الثامن والعشرين من شهر مارس للعام الجاري.

نشأته.. من شقراء
إلى جامعة الملك سعود
ولد البروفيسور عبدالعزيز بن ناصر المانع في العام 1943م بمدينة شقراء، في بيت عريق في معرفته للعلم والعلماء. إذ أنجب قديماً وحديثاً عدداً من العلماء الذين تفخر بهم شقراء والمملكة ككل. ومن هؤلاء الشيخ القاضي أحمد بن مانع ابن إبراهيم ابن مانع وهو أحد تلاميذ الإمام محمد ابن عبدالوهاب، يرحمه الله، والشيخ محمد ابن عبدالله بن محمد ابن إبراهيم بن مانع الذي عمل قاضياً بعنيزة، وكان صاحب حلقة كبيرة لتدريس العلوم الشرعية والأدبية، وكذلك كان ابنه الشيخ عبدالرحمن بن محمد بن عبدالله ابن مانع عالِماً معروفاً بفضله، وتبحره في مجال الأدب، كما أن الشيخ عبدالله ابن ناصر المانع شقيق الدكتور عبدالعزيز كان مربياً حافظاً لكتاب الله، والمجال لا يسع لذكر أعلام هذا البيت، الذي تعلم فيه عبدالعزيز المانع مقتضيات الانتماء إلى العلم، وعلى رأسها الإخلاص لتعاليم الله تعالى، والمثابرة، وامتلاك الرؤية، وتحديد الهدف وتلمس الوسائل.

وبعدما حصل المانع على البكالوريوس من كلية اللغة العربية في الرياض في العام 1966م، سافر إلى المملكة المتحدة ليتخصص في تحقيق المخطوطات، ويحصل على الدكتوراة في هذا المجال من جامعة أكستر عام 1976م، ليعود لاحقاً إلى وطنه، ويعمل مدرساً في قسم اللغة العربية بجامعة أم القرى.

بعد ذلك بعام، انتقل إلى قسم اللغة العربية في كلية الآداب في جامعة الملك سعود للعمل أستاذاً غير متفرغ للأدب العربي القديم.

إنتاجه العلمي
وبموازاة التدريس، عمل الدكتور المانع على تحقيق أكثر من خمسة عشر كتاباً، ونشر عدداً كبيراً من البحوث والدراسات. وقد أشار بنفسه إلى هذه الكتب في الكلمة التي ألقاها في احتفال تسلم الجائزة، قائلاً إن رحلته مع تحقيق التراث ونشره قد بدأت منذ ما يزيد على ربع قرن، وأن «أولى البدايات في هذا الجانب كانت نشر المنتخب من كتاب الشعراء» وهو كتاب يناقش فيه مؤلفه الفقيه الزاهد أبو نعيم الأصفهاني موضوع الإسلام والشعر».

ومن هذا الكتاب انتقل الدكتور المانع إلى تحقيق مجموعة كتب حول الشعر العربي ونقده، وصولاً إلى شعر أبي الطيب المتنبي، الذي نشر فيه عدد من الكتب، ولا يزال حتى اليوم «في ضيافة أبي الطيب» على حد تعبيره.

ولم ينس الدكتور المانع حق المرأة في جهوده العلمية، إذ نشر كتاب ابن مرزبان «من توفي عنها زوجها فأظهرت الغموم وباحت بالمكتوم»، ويقول الدكتور المانع حول هذا الكتاب إن مؤلفه دوَّن فيه وفاء المرأة لزوجها الذي اختطفته المنية منها، فرثته بشعر بكائي حزين في منتهى الجمال.

ومن الكتب التي حققها الدكتور المانع قبل أن يغوص في عالم المتنبي، كتاب «الزهر الباسم في مديح الأجل أبي القاسم»، الذي احتفى به المستشرقون الإيطاليون، وتُرجم مؤخراً إلى الإيطالية.

همة لا تفتر
إن ما حققه الدكتور المانع من كتب، وعشرات الدراسات البحثية في جوانب مختلفة من التراث الأدبي وفي اللغة، قد يعطي انطباعاً نمطياً عنه بأنه ذلك العالِم الذي لا يغادر مكتبه ومكتبته. ولكن لهذا العالِم سيرة تقول عكس ذلك، وتعكس همته ونشاطه الكبير، خارج مكتبه الخاص.

فهو إلى جانب عمله الأكاديمي ناشط في عدد من المراكز العلمية والأدبية. إذ إنه عضو اللجنة العلمية في مركز حمد الجاسر الثقافي، وعضو مجلس إدارة النادي الأدبي بالرياض، وعضو الجمعية العربية السعودية للغة العربية. كما أنه عضو هيئات تحرير واستشارات في عدد من المجلات مثل مجلة «العرب» التي تصدر في الرياض، و«عالم الكتب»، و«عالم المخطوطات والنوادر»، ومجلة «الدرعية»، و«المجلة الأردنية في اللغة العربية وآدابها» التي تصدر عن جامعة مؤتة في الأردن.. ناهيك عن مشاركته في العديد من المؤتمرات والندوات في المملكة وأستراليا وبريطانيا والهند وإيطاليا وتونس ومصر والأردن.. ومنذ ثلاثين عاماً، لا يزال يشارك في الندوات الأسبوعية التي يقيمها قسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود.

ويفصح المانع عن سبب حرصه على هذه الهمة العالية في البحث العلمي، بالإشارة إلى نصيحة أستاذه في لندن الذي أرشده إلى الذهاب الى المكتبة فور وصوله للرياض، وكتابة بحث ونشره، لأن التأخير في النشر تبرد الهمة، وتذهب الحماسة، محذراً إياه من أن العكوف على القراءة والكتابة من دون النشر سيؤدي إلى الإدمان والتكاسل عن النشر.

وعملاً بهذه النصيحة ذكّر في كلمته عند تسلمه الجائزة من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز بأن «نشر هذ التراث محققاً تحقيقاً علمياً، وطبعه، وتهيئته للدارسين والباحثين يُعد الوسيلة الوحيدة للتواصل معه، ومن دون ذلك تنقطع صلتنا بعلومنا المعرفية على اختلافها من فقه، وأدب، ولغة، وتاريخ، وعلوم طبيعية».

وهو مع اعترافه بأن «الكتابة والتحقيق والبحث عن المخطوطات ليس بالأمر اليسير السهل فهو متعب ولكنه ممتع».

تواضع الكبار
لا يفصح المانع عن لقبه العلمي، ولا يدونه بأي شكل في تعاملاته، في تواضع حقيقي لا ادعاء فيه. وكأنه يقول بذلك إن الإنسان يكشف عن معدنه من دون حاجة إلى وجاهات اجتماعية، وأن اللقب الذي يحمله الإنسان يبقى من دون قيمة إذا لم يتنزل على أرض الواقع في العمل والسلوك.. إنه التواضع المعبر عن الثقة القصوى في النفس.

فعندما أقيمت الاحتفالات بحصوله على جائزة الملك فيصل، ودبجت كلمات المديح والتقدير بحقه، كان يؤكد في كل مرة أن ما قيل عنه يفوق الحقيقة بكثير. وكان تعليقه هذا يجيء تلقائياً وخالياً من أي تصنع أو مجاملة.

ولم يجرف النجاح الدكتور المانع بعيداً عن جذوره. فمن يمتلك في نفسه مثل هذا التمسك بالتراث والأصالة، لا بد وأن يعيش قناعته هذه ويطبقها على حياته الشخصية. ولذا رأيناه غداة نيله جائزة الملك فيصل، يهدي هذه الجائزة إلى مدينة شقراء وأهلها، اعترافاً بفضلها عليه.

واعترافاً بفضله على الجامعة التي انتمى إليها طالباً وأستاذاً لائقاً بمقامها كواحدة من منارات التعليم الجامعي في الوطن العربي، وما قدَّمه لطلابه فيها، فقد قررت جامعة الملك سعود في احتفالها بالدكتور عبدالعزيز، تخصيص كرسي بحث باسمه في مجال اللغة العربية وآدابها، يكون مشرفاً عليه، كما منحته إضافة إلى المكافأة المالية، الميدالية الذهبية للجامعة.

أضف تعليق

التعليقات