الثقافة والأدب

تقاطع
رجال مهزومون ومصائر متقاطعة

بعد روايته الأولى «ثرثرة فوق الليل»، ها هو صلاح القرشي يعود إلى القراء في روايته الثانية «تقاطع» التي تؤكد، ليس موهبة الكاتب فحسب، بل أيضاً أصالة الرواية السعودية المعاصرة لجهة انخراطها في نسيج الحياة والمجتمع.
يحيى البطاط يقرأ لنا هذه الرواية، ويعرض لشخصيات أبطالها، ويختار لنا فقرات معبرة عن بعض مفاصلها.
تواصل الرواية السعودية، منذ مطلع هذا القرن، تأكيد حضورها بقوة في دنيا السرد المدهشة، عبر سلسلة من الأعمال التي تصدى لها عدد من الروائيين الشباب..
حضور لم يفرزه كم الروايات الصادرة خلال العقد الأخير فحسب، إنما أكدته قدرة هذه الأعمال الأدبية على ملاحقة التغيرات الدراماتيكية التي لامست جوانب مهمة في حياة المجتمع السعودي والمجتمعات العربية المجاورة، إضافة إلى امتلاك تلك الأعمال لمسوغات فنية وثقافية أكدت تفوقها وقدرتها على الاستمرار بزخم لا يمكن تجاهله. وقد جاءت أعمال الكاتب السعودي صلاح القرشي على قلتها، لتؤكد هذا الحضور، سواء على مستوى المعالجة الفنية أو على مستوى الموضوع.

وتُعد «تقاطع» الصادرة في الرياض هذا العام 2009م عن دار وجوه للنشر والتوزيع، والتي سنسلط الضوء عليها في هذه القراءة، الرواية الثانية لهذا الكاتب المبدع، بعد روايته الأولى «بنت الجبل» الصادرة عن نفس الدار عام 2007م، ومجموعته القصصية «ثرثرة فوق الليل» الصادرة عن دار الشروق القاهرية عام 2004م.

وعلى الرغم من قصر رواية «تقاطع» التي لا يتجاوز عدد صفحاتها 120 صفحة من القطع المتوسط، فإن المؤلف استطاع عبر معماره الروائي المبتكر ولغته التي تميزت ببساطتها، وعفويتها وكثافتها، أن يختزل مصائر أبطاله، ويقدمهم للقارئ بحرارة وجرأة وصدق.

ثلاث شخصيات تتقاسم البطولة.. تلتف وتتقاطع خطوط مصائرها عبر ثلاث حكايات متوازية، لتنتهي في بؤرة واحدة اختتم بها المؤلف عمله، أشّرت عمق الأزمة الوجودية التي يعيشها أبطاله. أزمة الثقة بالمستقبل، وأزمة العلاقات الإنسانية وجدواها.

أول تلك الشخصيات، الراوي العليم، وسارد الحكايات الثلاث، الشاب المثقف الذي تتناسل أسئلته وشكوكه حول الكثير من القيم والأفكار السياسية والثقافية والاجتماعية السائدة في هذه المرحلة، وهو يستدرج في حواراته ومنولوجاته حزمة من المفاهيم المهيمنة، ويسعى لتفكيك الخطاب الاجتماعي والسياسي المرافق لها.

والثاني فرحان العص الشاب الهامشي، المنبوذ، ومتعاطي المخدرات، الذي يفشل في الدراسة والحب والحياة، ويتوج حياته بهزيمة ساحقة أمام أحلامه البسيطة.

أما الثالث فهو الكميت بن زيد الشاعر المتمرد على بني أمية الذي تمتد ظلاله عبر أكثر من ثلاثة عشر قرناً لتحيط بالرواية وأبطالها، وتشكل في الوقت نفسه، مرجعية ثقافية ونفسية لتبرير وربما تفسير،ما يدور في محيط الراوي من تقلبات سياسية واجتماعية عنيفة.

غير أن الحكايات ومصائر أبطالها الثلاثة، رغم تقاطعها عبر السرد فإنها تبقى محتفظة بحيواتها المستقلة وبقدرة هؤلاء الأبطال على بناء عوالمهم وتشكيل مصائرهم. وهذا ما تكشفه عن كثب صفحات الرواية.

البحث عن بطل
يعلن الراوي (الناطق الرسمي باسم المؤلف) في الجملة الأولى من عمله أنه كان ينوي كتابة رواية تاريخية عن حياة الشاعر الأموي الكميت بن زيد، المعروف عنه بأنه شاعر مجدد وثائر، ولد عام 60 للهجرة. غير أن حادثة غريبة غيرت اتجاه المشروع الروائي وزمانه، وجعلت المؤلف ينتقل من أحداث جرت في الكوفة في القرنين الأول والثاني الهجريين، إلى أحداث جرت في مكة في مطلع القرن الحادي والعشرين الميلادي.

بطل تلك الحادثة المفصلية هو فرحان العص، ابن الحي الذي يتشاركان السكنى فيه. فقد قلب العص احتفال زفاف إلى معركة دامية انتهت بنقل العريس (منصور الدبا) إلى المشفى، بعد أن انهال عليه ضرباً بعصاه وهما يرقصان معاً.

إن إحساس العص بالقهر والظلم والحرمان وقناعته بأن هذا العريس خطف منه بغير حق حبيبته (حنان الماجدي) التي هام بحبها منذ أيام الطفولة، جعلته يقدم على فعلته على مرأى ومسمع سكان الحي.

من هذه الحادثة أو النقطة، يباشر المؤلف بغزل مصائر أبطاله الثلاثة جنباً إلى جنب. فالكميت بن زيد، وعلى رغم تحول الراوي عنه، كبطل أوحد يبقى حاضراً بوصفه بطلاً مشتهى. يقول الراوي: «توقفت في منتصف العمل.. شعرت ببؤس الكتابة وبؤس الموضوع.. وزئبقية حكاية الظالم والمظلوم» ويبرر في الوقت نفسه تحوله إلى كتابة رواية عن العص بقوله: «أصبح فرحان العص محور اهتمامي وتفكيري، فما فعله أسعدني مهما حاولت أن أقنع نفسي بأنه عمل شرير وانتقامي». ص7

ولكن من هو فرحان العص هذا؟
«سموه فرحان لكن الأم لم تعرف الفرح كثيراً بعد ولادته.. كسرها موت الأب وهي لا تزال حاملاً». ص25

وفي فقرة لاحقة نقرأ: «في المدرسة سموه العص لنحافته الشديدة.. واستمر هذا الاسم معه حتى كبر.. بل صار بديلاً لاسمه فيكفي أن تقول العص ليعرف الجميع أنك تتحدث عن فرحان..

لكن العص اليتيم والنحيف جداً لم يكن بالطفل الضعيف أو الجبان.. فكل من دخل معه في شجار من أطفال الحارة أو المدرسة عرف أنه ليس سهل الجانب.. وخصوصاً عندما يشعر بالظلم». ص26

وفي جملة أخرى جاءت في سياق مونولوج على لسان العص نفسه: «… أما أنت يا فرحان فلست سوى … فاشل وعاطل، يحذر الجميع أولادهم من الحديث معك ومماشاتك، هذا غير إشاعات وحكايات لا تتوقف مملحة دائماً بالأكاذيب والزوائد». ص15

أوهام الحب
تكتمل عناصر شخصية العص من خلال نموها الدرامي في إطار علاقته المتوترة، بثلاث شخصيات: أمه التي فقدت زوجها وهي لم تزل حاملاً به، فرأت في الطفل الوليد ملاذاً لحلمها الأخير.. أن ينجح ويشق طريقه إلى الجامعة ويعوض عليها خيبتها بأشقائه الفاشلين، ثم شقيقه الأكبر، جابر، جندي المرور الذي يلعب مؤقتاً دور الأب، ثم سرعان ما يتحول هذا الدور الأبوي إلى تجاهل، يعززه شعور متبادل بالامتعاض والريبة بين الشقيقين، بسبب نزق فرحان وانفلاته، ورغبته في تحقيق ذاته بأي ثمن.

وأخيراً حنان الماجدي، ابنة الحي، الحبيبة المفترضة التي يتوهم العص معها قصة حب… حب من طرف واحد، مبتور، وسلبي، بناه العص على استيهامات ورغبات مكبوتة، تستلهم حرارتها من ذكريات طفولية هشة، وأحلام يقظة لا تنتمي إلى الواقع.

غير أن العص المحبط، والمحطم عاطفياً، يجد نفسه مستدرجاً إلى شلة يقودها أبو هند تتعاطى وتتاجر بالمخدرات، وفي خضم علاقته المريبة بهذه الشلة يكتشف العص ذاته، ويقع في الوقت نفسه بغرام (سحر) الفتاة الهاربة من مصيرها وماضيها، بعد أن تملك لب الفتى وتستحوذ على اهتمامه: «حديثها جميل وصوتها هادئ لا يكاد يسمع، بيضاء شعرها طويل.. ولولا كسر في إحدى أسنانها لكانت ابتسامتها مجنونة» هكذا وصفها العص، وبسببها صار لا ينقطع عن أبي هند الذي قال له:
– «مونها وخذها». ص77

لكن هذا العرض المخادع من أبي هند يجر العص، إلى إخفاق جديد، عندما ترفض الفتاة، رغم إعجابها، الارتباط به كحبيبة، أو كزوجة، وعلى عتبة هذا الرفض لا يتحطم قلبه فحسب، بل تتحطم حياته بأسرها ويقع في قبضة الشرطة التي كانت تراقب نشاطه المشبوه، وهو متلبس بحيازة كمية كبيرة من المخدرات في غرفته.

الراوي العليم
إن قلق شخصية الراوي، وبحثه الدؤوب عن الحرية بمعناها الإنساني العميق أحالني إلى شخصية اللامنتمي التي روَّج لها الكاتب الإنكليزي كولن ولسون في كتابه الشهير الذي ترجم إلى العربية في سبعينيات القرن الماضي، فتماهيه مع شخصية العص من جانب، أنهما عاشقان صامتان لنفس الفتاة (حنان الماجدي) وإعجابه بشخصية الشاعر الأموي الثائر الكميت بن زيد من جانب آخر، وارتباك علاقته بزوجته وأبنائه، ورغبته في فهم ما يجري حوله من أحداث وأفكار، من دون الركون إلى الحلول والمقولات الجاهزة تجعل منه شخصية مثالية للوصف الولسني.

تسأله زوجته:
«- ما صلحت نفسك وبيتك وتبغي تصلح الكون.
لا أريد إصلاح شي أبداً يا زوجتي العزيزة.. أريد أن أتأمل الكون فقط.. أتأمله دون إزعاج ولا قلق، دون قيود لدي طاقات لا تستوعبها الأشياء…».

وفي لعبة فنية بارعة يتحرر الراوي من المتن الروائي، ويستحوذ على مساحة حرة تشبه حالة العازف المنفرد على آلة واحدة بين جوقة العازفين، مساحة يبث من خلالها مقولاته، وشكواه، وينسج إلى جانب المتن نصاً موازياً، يتراوح بين الأخلاقي والأيديولوجي والفلسفي والفكري، يشرح ويبرر ويفسر، وينتقل عبر الزمن والأحداث بحرية مطلقة، مسترشداً بنصوص مستلة من التاريخ، أو مجتهداً في تقديم تحليلات وآراء عن الحب والزواج والانتقام والتعصب والديمقراطية والتخلف، واليمين واليسار، وصدام حسين ومقتدى الصدر.

غير أن لعبة كسر الإيهام التي انتهجها الراوي، تبلغ ذروتها في واحدة من أكثر فقرات الرواية إمتاعاً، فقد أسهب في تحليل فني وموضوعي لاختيار النهاية المناسبة للبطل فرحان العص:

«نهاية عادية ودرامية تماماً، البطل الذي يبيع المخدرات تقبض عليه الشرطة، كنت واعياً لهذا الأمر، بل وفكرت في تغيير النهاية، ماذا لو سمع العص أصواتهم وهم يصعدون الدرج فنهض سريعاً لينزل كقرد على ماسورة المجاري التي لا تبعد كثيراً عن نافذة غرفته، ثم ليختفي فلا يبقى له أثر.

ماذا لو أن مكافحة المخدرات لم تأت أصلاً ولم تعلم بشأن العص وبضاعته الممنوعة، هناك الكثير حتماً ممن يبيعون المخدرات ولا يدري بهم أحد، لتمضي حياة الرجل كما كانت، يقضي أغلب النهار نائماً في غرفته ويمضي أغلب الليل في استراحة أبي هند حيث يتشكل حبه الجديد لسحر..».

كما يفلسف الراوي نهاية العص ويشببها بنهاية الكميت بن زيد فكلاهما لم يختر نهايته الممتلئة بالمفارقة، فنهاية العص كانت عادية وبسيطة -كما يقول- لسبب بسيط جداً هو أننا لم نخترها. مذكراً بشطر من بيت شعري للكميت طالما ردده الراوي:
«اليوم عدت إلى أمية والأمور لها مصائر».

المفارقة أن الراوي يكتشف أنه تحدث عن نفسه أكثر مما كان يتمنى. فيقول معترفاً:
«عندما أعدت قراءة ما كتبت، وجدت أن ما كتبته عن نفسي يفوق المكتوب عن العص. قلت (لا يهم فنحن نتقاطع كثيراً)». ص 108

نعم، تتقاطع حيوات هؤلاء الأبطال كثيراً أو قليلاً، غير أن التقاطع الأوضح هو في أنهم ثلاثتهم أبطال مهزومون، الكميت بن زيد هزمته أفكاره الثورية وشجاعته وأودت بحياته، والعص عاشق سلبي ومتهور وفاشل في الحب، ولا يستطيع مواجهة أسئلة الحياة.

أما الراوي فقد هزمه خوفه في مواجهة اشتراطات الحرية التي يحلم بها، فعاد إلى زوجته التي سبق وأعلن ضجره منها. بل إنه ترك شريكيه وصاحبيه في لعبة التقاطع يواجهان مصيرهما المحتوم، مقتل الكميت، ونهاية العص في السجن، بينما كان هو يمضي استراحة استجمام في شاليه في أبحر!!

تقاطع..
مقتطفات من الرواية
من الفصل الرابع..

فرحان وجه الشؤم
ليلة سابع فرحان كانت ليلة لا تنسى، أما اسمه فله حكاية، فقد اختاره له أخوه الأكبر وكأنه يقول لجميع من في البيت كفى حزناً..

لفرحان أربعة أخوة..ابنان وبنتان.. أكبرهم جابر جندي في المرور وهو الذي أصبح بمثابة الأب البديل لفرحان.

سمّوه فرحان لكن الأم لم تعرف الفرح كثيراً بعد ولادته..كسرها موت الأب، وهي لا تزال حاملاً، وأقلقها مستقبل الأبناء فالمرحوم (سائق اللوري) توقف دخله وراتب جابر عسكري المرور المبتدئ لا يكاد يكفي بيته.

بقية الأخوة حامد ومريم وسلمى كانوا وقتها في المدارس. عندما اقترح جابر إقامة حفل السابع ودعوة الأقارب وأهل الحارة غضبت الأم، وقالت:
– لن أدفع ريالاً واحداً من قيمة اللوري..
لكنها في النهاية رضخت ومنحته بعض المال..

(كانت ليلة لا تنسى، جاء البعض من السليمانية، ومن الشِعب ومن الملاوي من أجل المزمار وكلما تذكرها جابر قال «ربك ستر وانتهت الليلة على خير» فمزمار يجمع كل هؤلاء لا ينتهي إلا بهوشة كبيرة).

في المدرسة سموه العُص لنحافته الشديدة.. واستمر هذا الاسم معه حتى كبر.. بل صار بديلاً لاسمه فيكفي أن تقول العُص ليعرف الجميع أنك تتحدث عن فرحان..

لكن العص اليتيم والنحيف جداً لم يكن بالطفل الضعيف أو الجبان.. فكل من دخل معه في شجار من أطفال الحارة أو المدرسة عرف أنه ليس سهل الجانب.. وخصوصاً عندما يشعر بالظلم. كان يبكي ثم يندفع إلى العراك كمجنون مما يجعل إيقافه صعباً حتى على الكبار الذين يريدون إطفاء حريق المعركة..

تجاوز فرحان الدراسة الابتدائية دون أن يسقط في أي سنة لكنه في المرحلة المتوسطة جرَّب أول الإخفاقات المدرسية وقتها شعر بالخجل من أمه وبالخوف من أخيه جابر، وحدهما كانا يهمانه.
– جابر لا يرحم ولده فما بالك بأخيه!

استمر سنوات يناديه أبي.. لكنه ما أن فهم قليلاً حتى أصبح يناديه بجابر.. أما عندما كبر فلم يعد يناديه بشيء، صار يتحاشاه، يبذل مجهوداً كبيراً كي لا يصادفه في مكان، ورغم أنهم جميعاً يعيشون في المنزل نفسه.. حيث يسكن جابر وزوجته وابنه الوحيد مع ثلاث بنات في الدور الأرضي وفي الدور الثاني تسكن الأم وحامد وفرحان وسلمى ومريم.. لكن سرعان ما بدأ العدد يتناقص كما تخبر الأم جارتها..

حامد ذهب إلى الرياض ليعمل في العسكرية ومريم وسلمى تزوجتا في الشهر نفسه.

ومن حسن حظ فرحان كما يردد دائماً أن لشقتهم مدخلاً مختلفاً، فهذا الأمر يساعده كثيراً في تحاشي الالتقاء بأخيه والصعود سريعاً إلى الدور الثاني أو إلى السطح مباشرة.. كان يعرف أن جابر سيتكاسل في الصعود بحثاً عنه وخصوصاً عندما يكون مرهقاً من العمل.. وكثيراً ما سمع تهديده ووعيده:
– «خليني أرتاح شوي وأوريك شغلك».

لكن جابر ما أن يهدأ ويرتاح حتى يخف غضبه على الولد ويتناساه..

طبعاً هذا الأمر لم يكن ليشكِّل قاعدة ثابتة. فهناك ما لا يستطيع جابر تأجيله أو تناسيه. وهكذا لا يمر أسبوع أو أسبوعان حتى يجد فرحان أخاه أمامه وشرر الغضب يتطاير من عينيه.

عادة لا تزيد أسباب الغضب عن شكوى الأم من تأخر العص ليلاً.. أو نميمة أحد الجيران بخصوص الولد الذي لا يُرى في المسجد، والذي يسرق سيارات أهل الحارة ويتجول بها ثم يعيدها، والذي شوهد وهو يماشي شلة من «الفاسدين» المعروفين في الحارة.. أما المدرسة والمذاكرة والنجاح فلم يكن جابر نفسه ممن يركز عليها. فهو حتى لا يعرف المرحلة الدراسية الخاصة بأخيه فرحان أو حتى تلك الخاصة بولده الوحيد عبدالرحمن.

الأم وحدها كانت تحمل هم المدرسة.. تمني نفسها أن يفلح ابنها الأصغر ويحقق ما لم يستطع جابر ولا حامد تحقيقه.. فجابر لم يحصل على الابتدائية إلا بطلوع الروح أما حامد فقد (تربس) سنتين في الكفاءة ثم حصل عليها (بالدف) كما يسخر منه جابر.
– نفسي ومنايا أشوف فرحان بالجامعة..

هذه الأمنية لن تتحقق أبداً.. فالعص كان لا يكره شيئاً أكثر من الدراسة.. وكثيراً ما ردد أمام أصحابه..
– «والله ما مصبرني على هم المدرسة إلا أمي».

لكن هذا الصبر لم يدم طويلاً رغم نجاحه من المدرسة المتوسطة وانتقاله إلى الثانوي.. فقد انقطع عن الدراسة دون أن يخبر أحداً في البيت.. كان يذهب كل صباح.. يقطع شارع الأبطح منتظراً أحد أصحابه الذي يأتي بسيارته الداتسون.. يصعد العص معه في «فركة» مدرسية متكررة، يفطران معاً ثم يختاران مكاناً يقضيان به بقية اليوم الدراسي.

وما كان لأحد أن يكتشف الأمر لولا ورقة التعريف التي ذهب جابر لإحضارها من أجل الضمان الاجتماعي الخاص بالأم. فبعد أن يئس من إحضار فرحان لهذه الورقة التعيسة وملَّ من أعذاره الواهية التي تبدأ بالنسيان وتنتهي بوعد أكيد بأن ورقة التعريف ستكون في الغد حاضرة..

عندما علم جابر بانقطاع أخيه عن المدرسة وقف ينتظره أمام المنزل، كان العص يصعد الطلعة بتثاقل وهو يحمل سجادة بالية بداخلها بعض الكتب المهترئة..

عرف وقتها أن أمر انقطاعه عن الدراسة قد انفضح فليس من عادة جابر أن ينتظره هكذا..
– كيف المدرسة معك؟
– تمام.
لم يقل العص تمام إلا وصفعة حادة تنهال على خده الأيمن من يد جابر اليسرى.
– تمام يا… تمام يامفصول يا…
ولعلها المرة الأولى التي يحاول فيها فرحان مقاومة أخيه.. صرخ وهو يتلقى الصفعات:
– مالك ضرب علي.. أنا حر.. أدرس أو ما أدرس.
لكن ضربات جابر لم تتوقف لولا تدخل بعض الجيران ثم نزول الأم من الدور الثاني مما جعل جابر يأخذها وهو يتمتم:
– خلاص أدخلي ما في شي.

فرحان ما أن انفك من قبضة أخيه حتى انطلق نحو أسفل الحارة تاركاً الكتب والسجادة على الأرض..

صعدت الأم وهي تندب حظها ووحدتها، فمنذ زواج البنتين قبل سنتين أو أكثر وهي تقاتل الصمت في بيتها، ففرحان لا يحضر سوى للنوم.. وجابر لا يصعد إلا إذا حدثت مشكلة.. وحامد في الرياض.. لا تغادرها هذه الوحدة إلا بزيارة البنتين أو إحداهما.. تقول لها إحدى جاراتها:
– أحمدي ربك فالبنتين في مكة.. ولا ينقطعان عن زيارتك.. وأبناء جابر دائماً عندك..

تحمد الله فعلاً، فهي أفضل حالاً من غيرها، ولكن قلقها على فرحان هو ما ينغِّص عليها حياتها..

تقول لابنتها سلمى:
– «فرحان معكوس ومنحوس حتى في ولادته»!
أتى دون أن ينتظره أحد بعد سنوات سبع من ولادة سلمى.
عند ولادة فرحان كانت سلمى في الصف الثاني ومريم في الرابع أما حامد ففي الصف السادس.

بين جابر وحامد مرت الأم بسنوات لا تنساها. وتحدثت النساء عن عقم أصابها بعد إسقاطها جنيناً، شعرت وقتها أنها أصيبت بعين لم تصلّ على النبي، وعندما حملت بحامد كادت تطير فرحاً، فبه أسكتت الألسنة واستعادت ثقة كادت تفتقدها.

أما حملها بفرحان فقد فاجأها هو الآخر من حيث لم تكن تنتظره. جاء هذا الحمل بعد أن لاح عمر اليأس.. وتباعدت مسافات اللقاء بينها وبين سائق اللوري المريض الذي لا يتوقف عن الشكوى من آلام شديدة في الصدر.

عندما شعرت بالحمل غير المتوقع.. راودها شعور بالفرح وابتسم الرجل عندما أخبرته وكأنما بثت فيه شيئاً من إحساس بالفحولة صار يتوارى مع مرضه الذي اشتدت أعراضه في الأشهر الأخيرة..

أخبره الأطباء بأن ما يعانيه هو التهاب في الرئة.. طالبوه بالتوقف عن التدخين فاستجاب.. لكن الآلام لم تتوقف، ووصفوا له كثيراً من الأدوية لكنها لم تحدث أثراً.. ومع هذا قال لنفسه وهي تخبره بحكاية الحمل:
– الرزق على الله.
سلمى ومريم كانتا الأكثر فرحاً بالضيف الذي سيحل عليهم بعد أشهر.. لكن سوء حالة الأب لم تترك للأفراح مكاناً.. وكان خبر الوفاة الذي سبق الولادة بثلاثة أشهر ونصف الشهر تقريباً.. هو ما جعل الكثير من الأقارب والجيران ينظرون إلى المولود الجديد باعتباره وجه الشؤم.

من الفصل الحادي عشر..

في وفاة الأم..
عندما قدمنا إلى الحي كنت في الخامسة عشرة، تكبرني أختي بعامين. أقمنا ثلاثتنا في هذه الشقة التي يملكها والدي، كان يبعث لنا كل شهر مبلغاً ويسأل أمي (هل ينقصكم شي) فترد:
– أبداً لا ينقصنا شيء.
بعد سنوات ثلاث من قدومنا تزوجت شقيقتي لأبقى مع أمي وحيدين في شقة تتكون من خمس غرف.

أزور أبي بين فترة وأخرى، أذهب إليه في معرض السيارات الذي يملكه، وألتقي أحياناً هناك بعض أخوتي، وفي المناسبات كان يطلب مني الحضور بإصرار، وأمي تشجعني على الذهاب.

وكلما تفوقت في الدراسة تسارع أمي في إخباره وهي منتشية من الفرح.

أتذكر أول مقال نُشر لي في إحدى المجلات، كنت حينئذ في بداية دراستي الجامعية.

أخبرتها وأنا أحمل المجلة مزهواً.. نظرت إلى المجلة رغم أنها لا تجيد القراءة.. وكان تعليقها الأول:
– لابد أن تريها لأبيك.
لكنني لم أفعل ولم أخبرها بذلك، أتذكر جيداً ذلك المقال كان بعنوان (مباراة كرة قدم بمرمى واحد). ورغم سذاجة ذلك المقال إلا أنني أحبه، كما لم أحب قصصي ومقالاتي الأخرى التي نشرت بعد ذلك وبعضها مصحوباً بصورة شخصية، صورة تقول أمي إنها جميلة فيما ترى زوجتي أن المصوِّر بالغ كثيراً في تبييض وجهي وكأنني قادم من الشام.

علاقتي بأخوتي غير الأشقاء علاقة عادية جداً، أو لنقل علاقة باردة وبلا طعم، مجاملات في المناسبات والأعياد، كلمات جوفاء في حالة المرض، لا أشعر تجاههم بذلك الرابط الذي يشعرك بأن الآخر منك.

يختلف الأمر مع شقيقتي فأنا أشعر بالهم عندما تتعرض لمشكلة أو تمرض «أصبحت في الفترة الأخيرة هي من تحمل همي»!

لا تتوقف عن الحديث معي حول مشكلاتي الزوجية، علاقتها بزوجتي جيدة بسبب أن أمي -يرحمها الله- كانت هي الأخرى تحب زوجتي.

هي من اختارتها لي، وكان لا بد لها من أن تدافع عن اختيارها ولاشك أن الضيفة الجديدة حينئذ كانت هادئة ومطيعة ورقيقة مع أمي.

كنا ثلاثتنا حولها وهي تنازع الموت، أخرجتها من المستشفى قبل ذلك بيومين، لاحظت في الصباح أنها أفضل حالاً.. قلت لها:
– سأذهب اليوم للعمل.
– روح لا تخاف علي، أنا اليوم طيبة.
ثم أكملت:
– وأم رعد عندي.. وأختك ستحضر في الضحى..

وفي التاسعة كانت أختي تحدثني باكية…
– يبدو أنها تحتضر..
انطلقت مسرعاً.. أخذت معي طبيباً وعندما دخلت معه إلى الشقة لمحت زوجتي تبكي وهي تترك المكان للطبيب..

غطى وجهها وهو يحوقل، وتعالى صراخ المرأتين، فيما وقفت كالأبله لا أدري ماذا أفعل.. أبدو تماماً كما لو أنني طفل أضاع أمه في زحام شديد، كثيراً ما شاهدت أطفالاً يتلفتون مفجوعين وقد أضاعوا أمهاتهم خصوصاً في زحام الحج.

كنت مثل أحدهم.. وكان علي أن أتماسك لأبدو مختلفاً عن أختي وزوجتي اللتين لا تتوقفان عن البكاء. حضر الجيران، وحضر والدي وبعض أخواني الموجودين في مكة، ذلك الوقت.

لاتزال غرفتها مغلقة منذ وفاتها… لم أقدر ولا مرة واحدة أن أدخلها. مكثت لفترة كلما صحوت من النوم خطر في بالي أن يكون فقدها مجرد حلم مزعج.

كم هو جميل ذلك الفرح الذي ينتابنا عندما نصحو من النوم لنكتشف أن المأساة أو المصيبة التي عشناها ليست سوى حلم.

قبل أشهر وجدت نفسي فيما يشبه غرفة التحقيق محاصراً برجال ملامحهم قاسية أقول لهم:
– ما هي تهمتي ؟
فيضحكون.. ويقترب مني شخص بلباس عسكري وهو يهمس لي محاولاً ألاَّ يسمعه الآخرون.
– لا تتكلم إلا في حضور محام.
ثم يقبض الآخر على رقبتي ويضغط قائلاً:
– محامي.. ليه فاكر نفسك في فرنسا.
أردد بصوت خافت:
– ما هي تهمتي؟

فيما تستمر أصابع الرجل تضغط على رقبتي وهو يطلب مني الاعتراف بالحقيقة، أصحو فجأة من النوم، تنتابني مشاعر السعادة لأن المسألة مجرد حلم تافه وسخيف، حلم فقط.
أتمتم بفرح: الحمد لله.
أتذكر أنني قرأت مرة أن الرجل يبقى طفلاً حتى تموت أمه فإذا ماتت شاخ فجأة.

لكنها بالنسبة لي كانت أماً وأباً ولهذا أبدو بدونها وكأني أحمل عمر الكهل وتعبه ومرضه وهشاشة الطفل ومخاوفه وضعفه.

أضف تعليق

التعليقات