بيئة وعلوم

ماذا سنأكل غداً؟
طعام المستقبل في مختبرات اليوم

  • 36 (Food_Hamburger)
  • 37 (05212008_harvardpyramid)
  • Growing Genetically Modified Plants
  • 39 (F1-2b-Stewart-Manure Equip-Fig 2b)
  • 40 (GettyImages_56778293)
  • 41 (ISSSpaceFoodsAssortment)
  • Plant Factories Propose A New Style Of Agriculture
  • 34a (Romaine)
  • 34b (Dua_Leo_Cucumber_F1_TN_123.86164353)
  • 34c (1pomodori)

تشهد الزراعة وصناعة الغذاء في عصرنا هذا سلسلة من التطورات تعادل في تأثيرها حجم كل ما طرأ عليها خلال الألف سنة الماضية. حتى أن بعض الدراسات والأبحاث بدأت تجرف عالم إنتاج الغذاء بعيداً جداً عن عالم الزراعة كما نعرفه.
رجب سعد السيد* يستشرف ما سيكون عليه طعامنا في المستقبل انطلاقاً من الأبحاث العلمية الجارية حالياً سعياً إلى توفير مصادر للغذاء قد تعجز الأراضي والمزارع التقليدية عن تلبية الطلب عليها، أو إلى إيجاد بدائل أقل تكلفة وسد النقص حيثما هو متوقع.

كان للتكنولوجيا الزراعية فضل في رفع إنتاجية الأرض الزراعية، للوفاء بحاجات البشر المتزايدة إلى الطعام. إذ كان باستطاعة الفلاح المصري القديم، منذ أكثر من 5000 عام، أن يطعم أسرته المكونة من 5 أفراد بزراعة قطعة أرض من وادي النيل لا تزيد مساحتها على فدان واحد.

ومنذ 4 آلاف سنة، كان الفلاح الإنجليزي يزرع 5 أفدنة ليوفر الطعام لثلاثة أفراد فقط، ولما تدخلت الآلة الزراعية، أصبح بإمكان الفلاح الأمريكي أن يحرث ويزرع ما يزيد على مائة فدان في الربع الأخير من القرن 19، لينتج من المحاصيل الزراعية الغذائية ما يكفي أسرته وستة أفراد آخرين. وباضطراد التقدم التكنولوجي، في الربع الأخير من القرن العشرين، تمكن هذا الفلاح نفسه من أن يزرع 400 فدان، ليغطي حاجة 50 فرداً من الطعام.

وفي بداية الثورة الصناعية كانت الاستثمارات تتجه إلى مصانع الآلات وخطوط الإنتاج؛ أما الآن، فإن فرصاً كبيرة تلوح للاستثمار والمستثمرين في مجال الوسائل الحديثة لإنتاج أنواع جديدة من الطعام. إنها وسائل مبتكرة، ومنها على سبيل المثال زراعة النباتات المنتجة في الهواء بدل التربة. إذ يجري الآن تطوير هذا النمط الجديد من الزراعة في مراكز أبحاث بولاية فلوريدا الأمريكية. وفي هذه الزراعة الهوائية، تعلق النباتات في أحزمة دوارة في الهواء، حيث تحصل جذورها على الغذاء اللازم للنمو عن طريق الرش برذاذ من محلول يحتوي على الأملاح المغذية، يتغير تركيبه حسب تغير حاجة النبات في أطوار نموه المختلفة. وقد تمكَّن اليابانيون من استخدام الزراعة في الهواء، والزراعة في الماء، من دون حاجة للتربة، في إنتاج 15 ألف ثمرة طماطم من بذرة واحدة. وكان ارتفاع النبات الذي أنتج هذا العدد الهائل من الثمار يقترب من خمسة أمتار، ولم تكن البذرة المستخدمة في زراعته معدَّلة وراثياً لتعطي هذا المحصول الخارج عن المألوف. وبالطريقة نفسها أنتج اليابانيون أيضاً 700 ثمرة خيار من بذرة واحدة؛ وأنتجوا نبات (الخس) في أربعة أيام فقط!

لحوم المختبر أو لحوم فرانكنشتاين
وللطعام في مختبرات مراكز البحوث حكايات وطرائف. ففي الأربعينيات من القرن الماضي، مثلاً، كان حلم كل من المستهلك ومربي الدواجن أن تتطور وسائل تربية وإنتاج الدواجن لتعطي كمية أكبر من لحم الدجاج البيض. وعبَّر الزعيم السياسي البريطاني ونستون تشرشل عن هذا الحلم قائلاً: «آن الأوان لأن نكف عن إصرارنا على تربية الدجاجة كاملة، فنحن لا نأكل إلا صدرها أو فخذها؛ فلماذا لا يقتصر اهتمامنا على إنتاج هذه الأجزاء من الدجاجة؟». وعلى أي حال، فقد سبق تشرشل إلى هذه الفكرة الدكتور ألكسي كاريل، الحائز لجائزة نوبل عندما أجرى في عام 1908م تجربة على قطعة من قلب دجاجة، قام بغمرها في محلول من أملاح مغذية، فوجد أنها لم تستمر محتفظة بحيويتها، فحسب، وإنما كان حجمها يتضاعف في كل يوم، ولم يطرأ على خصائصها أي تغيير، ولم تظهر عليها علامات التقدم في العمر، وظلت تتضخم وتتضخم حتى ملأت فراغ وعاء التجربة. هنا، اقتطع الدكتور كاريل شريحة من نسيج القلب الآخذ في النمو، وزرعها بالطريقة نفسها في وعاء آخر، فتحقق النجاح نفسه. واستمرت هذه العملية مرات ومرات، حتى توفي كاريل في عام 1944م، ولكن شرائح قلب الدجاجة لم تتوقف عن النمو في مختبره، واستمرت التجربة لمدة 36 سنة تحت إشراف تلاميذه. وأثارت هذه التجربة خيال بعض الكتاب، ولم يستطع كتاب آخرون تقبل هذا التصور المستقبلي، فأطلقوا على اللحوم التي تنتجها تلك الآلة التخيلية اسم «لحوم فرانكنشتاين»!.

ولا تزال فكرة صناعة لحم في المختبر تداعب خيال وطموحات العلماء، وعلى نحو خاص في قطاع أبحاث الفضاء، على أمل إيجاد طرق توفر لرواد الفضاء لحوماً طازجة يستغنون بها عن اللحوم المحفوظة المخلوطة بالحبوب والوجبات النباتية التي يعتمدون عليها حالياً، فلعلنا نسمع في المستقبل القريب عن نجاحات تحققت في هذا المجال.

اللحم المزيَّف أصبح حقيقة
وإلى أن يأتي اللحم من المختبر، سيكون على الناس أن يعتمدوا على نوع آخر، هو «اللحم المزيف»، المصنوع من مستخلصات فول الصويا وغيره من بذور النباتات. وهذه المستخلصات غنية بالبروتين النباتي، وتتضمن خطوات تصنيعها تحويلها إلى معلّقات غليظة القوام، تضغط في آلات خاصة ذات ثقوب دقيقة، شبيهة بآلات غزل خيوط الألياف الصناعية. ثم تخلط بالدهون، ويضاف إليها مكسبات لون ونكهة، مع بعض الفيتامينات، وتشكل على هيئة شرائح أو مكعبات، وتطرح بالأسواق. وثمة توقعات بأن هذا النوع المزيف من اللحم سيكون هو الخيار الوحيد أمام الكثيرين في المستقبل، وأن الحصول على شريحة من بروتين حيواني حقيقي سيكون حلماً بعيد المنال. والجدير بالذكر أن هذا النوع الغريب من اللحوم معروف في أيامنا هذه، بل إنه يستخدم منذ عدة سنوات في التجمعات البشرية الفقيرة، كما يستعين به النباتيون ومرضى القلب الذين يمنعهم أطباؤهم من تناول اللحوم الحقيقية.

دور التجارة في تحديد النوعية
وعلى أي حال، فإن حركة التجارة العالمية ستكون ذات تأثير يؤدي في المستقبل إلى تغيير قائمة أطعمتنا. فحالياً، يراقب أصحاب مزارع الحيوانات المنتجة للحوم أحوال التجارة العالمية والتغيرات في الأسعار، ويستجيبون لذلك بتغيير أنشطتهم حسب أحوال السوق؛ ففي نيوزيلنده -على سبيل المثال- تحول %10 من مربي الأبقار إلى تربية الغزلان من أجل لحومها التي ازداد الطلب عليها، وأصبحت تحقق أرباحاً أعلى. ومن الحيوانات المرشحة لأن يزداد الطلب العالمي على لحومها في المستقبل، النعام والتماسيح الأمريكية؛ فلحومها -كما يقول خبراء التغذية- طيبة المذاق. إذ يشبه لحم النعام في الطعم لحوم العجول الصغيرة، كما أن نسبة الكوليسترول فيه منخفضة. هذا، بالإضافة إلى ما تنتجه التماسيح وطيور النعام -ثانوياً- من جلود وريش، مما يرفع مردودها الاقتصادي. كما أن للنعام ميزة أخرى، وهي أن تربيته لا تحتاج إلى مساحة كبيرة من الأرض، وبأن أنثاه تعطي 50 – 70 بيضة في السنة؛ كما أن الرطل الواحد من ريش النعام يساوي 150 دولاراً. ويباع الزوج من الأحذية المصنوعة من جلد النعام، في بعض الأسواق الأمريكية، بنحو ألف دولار؛ ويمكن تصنيع 14 زوجاً من الأحذية، ومحفظة أوراق، من جلد نعامة واحدة. فانتظروا لحوم النعام على موائدكم في المستقبل. وثمة دلائل تعضد هذا التوقع، حيث إن إنتاج (مزارع النعام) آخذ في التزايد؛ وفي بلد كجنوب إفريقيا يصل إنتاج هذه المزارع إلى 73 ألف طائر في السنة، أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فهناك ألف مزرعة تشتغل بتربية طيور النعام.

البروتين من النفط
ولعل أغرب وأطرف محاولات إنتاج البروتين هي تلك التي اتجهت لاستخلاصه من النفط؛ وقد بدأت تلك المحاولات، كما في كثير من الاكتشافات العلمية، بملاحظة ظاهرة طبيعية؛ عندما تكررت شكاوى العاملين في حقل الطيران من أن خزانات الوقود في الطائرات تتعرض جدرانها الداخلية لهجوم مكثف من كائنات دقيقة تمثل خطراً حقيقياً على حياة المسافرين جواً؛ إذ إن هذه الكائنات تؤدي إلى انسداد مجاري الوقود في الطائرات، وتسبب الكثير من حوادث الطيران. وعلى الفور، بدأ علماء الأحياء الدقيقة في دراسة الظاهرة. فاكتشفوا أنواعاً من الخمائر والفطريات، لها القدرة على النمو في هذا الوسط النفطي. وهنا، اتخذت الأبحاث اتجاهاً آخر: دراسة إمكانات واحتمالات زراعة هذه الكائنات على مشتقات النفط.

توصلت التجارب إلى أن أهم مشتقات النفط التي يمكن استخدامها في إنتاج البروتين النفطي هما الغاز الطبيعي وزيت الغاز. واكتشف العلماء أكثر من ألف نوع من الكائنات المجهرية قابلة النمو على مشتقات النفط.

وقد ثبت بالتحليل أن هذه الكائنات الحية الدقيقة تحتوي على بروتين يساوي 60 – %70 من وزنها؛ ووجد أيضاً أن هذا البروتين لا يقل جودة عن الأنواع الأخرى، فلم تظهر أية أعراض ضـارة أو تسمم على الحيوانات التي تقتات عليه، ولا على الإنسان الذي يأكل لحوم هذه الحيوانات. كما توصلت التجارب في المعهد المركزي لبحوث الطعام والتغذية، في هولندا، على العجول والدواجن، إلى أن بروتين النفط مقبول لدى الحيوانات، بعد خلطه مع أنواع البروتين الأخرى في العلف وأن هذا البروتين الجديد مشابه في تركيبه الكيماوي للبروتين النباتي المنتج من فول الصويا، وقريب إلى تركيب البروتين السمكي.

ولكن إن كان العلم لم يتوصل، بعد، إلى تقديم طبق من اللحم البترولي للإنسان، فإنه يقدِّم القيمة نفسها بشكل غير مباشر. ولا نستبعد أن يصبح هذا البروتين ذات يوم صالحاً للاستخدام المباشر في مطابخنا.

التكنولوجيا الحيوية
أما تدخل التكنولوجيا الحيوية في مجالات إنتاج الأغذية البشرية، فيمثل قضية لا تزال تثير جدلاً واسعاً. فكثير من المنتجات الزراعية التي نأكلها الآن أنتجتها الهندسة الوراثية، وهي واحدة من آليات التكنولوجيا الحيوية. أي أنها جاءت نتيجة إجراء تغييرات في التركيب الوراثي الأصلي لها؛ وذلك من أجل إكسابها صفات أفضل، مثل وفرة الإنتاج، أو مقاومة الطفيليات والأمراض، وإطالة مدة بقائها صالحة للاستعمال، وكبر الحجم، وغيرها من الصفات المرغوبة. فهـل هذه المنتجات آمنة، أم يمكنها أن تحمل ضرراً لمن يأكلونها؟.

لقد كانت ثمار الطماطم أول ما طرح بالأسواق الأمريكية من محاصيل الغذاء المعدلة وراثياً، وكان ذلك في العام 1994م. ومنذ ذلك الحين، يقبل الأمريكيون على العديد من المنتجات الغذائية المعدلة وراثياً، تبلغ نسبتها بين سائر الأغذية المطروحة بالأسواق %65. ويرى الأمريكيون أنها أغذية مأمونة. فهل هم على حق؟. وهل الفترة التي تعاملوا خلالها مع هذه الأغذية المثيرة للجدل كافية للتأكد من أنها لا تسبب أضراراً على المدى الطويل؟.

يعمل في مجالات إنتاج الطعام باستخدام تكنولوجيات حيوية عدد كبير من الشركات المتخصصة، تنتشر في أماكن عديدة من العالم، والتطورات التي أدخلتها على طرق إنتاج الطعام تفوق الخيال. فعلى سبيل المثال، تعمل حالياً شركة (إسكاجين) للتكنولوجيا الحيوية، في مدينة سان كارلوس في أمريكا، على إنتاج ثمار البرتقال والكرز دون حاجة لأشجار هذين النوعين من الفاكهة، وإنما في وسط صناعي داخل أوعية بالمختبر. كذلك، ستتغير طريقة إنتاج البطاطس، أحد المحاصيل الزراعية المهمة التي يعتمد عليها البشر في جميع أنحاء العالم؛ وقد اعتاد الفلاحون زراعتها باستخدام قطع من درنات البطاطس بها براعم، وهي طريقة تكلِّف مالاً أكثر وتستغرق وقتاً طويلاً؛ وقد تمكن خبراء تلك الشركة من إنتاج (بذور) من نبات البطاطس يمكن استخدامها في الزراعة بدلاً من الدرنات.

وعلينا أن نعترف بأن التكنولوجيا الحيوية قد رفعت إنتاج الأرض الزراعية من المحاصيل، وخفضت تكاليف الإنتاج الزراعي، بالإضافة إلى جهدها الرئيس في اتجاه إيجاد وتطوير منتجات جديدة، ذات صفات محسَّــنة، استجابةً لحاجة المستهلكين، حالياً ومستقبلاً. ولعله من المهم أن نشير، في هذا المجال، إلى تقرير صدر مؤخراً عن الإدارة الأمريكية، يقول: لا ينبغي المبالغة في المخاطر التي تنتج من الكائنات الحية -نباتية وحيوانية- التي عولجت بهذه التكنولوجيات الحيوية، فهي لا تمثل -بحد ذاتها- مخاطر على الصحة البشرية، أو صحة البيئة.

الجدير بالذكر أن التكنولوجيا الحيوية ليست علماً بحتاً، وليست صناعة خالصة؛ ولكنها منظومة فنية، تتسع لتستوعب أسس العديد من العلوم، مثل: الهندسة الكيميائية؛ والوراثة؛ والكيمياء الحيوية؛ والمناعة؛ وهندسة العمليات؛ والحاسوب، ومعالجة البيانات؛ والبيولوجيا الجزيئية.. وتصنع من هذه العلوم المختلفة ضفيرة تخدم الصناعات التي تعتمد على نشاط بعض الوسائط الحيوية، مثل الكائنات الدقيقة، والخلايا والأنسجة النباتية والحيوانية، والإنزيمات، والهورمونات؛ ساعيةً إلى توفير السلع والخدمات، في عالم يتزايد سكانه، وتتدنى أحوال موارده الطبيعية، عاماً بعد عام. ونستنتج، ضمناً، أن هذه المنظومة الفنية، ما دامت متصلة بتوفير متطلبات استهلاكية وخدمية للبشر، فهي شديدة الارتباط بحركة التجارة والاقتصــاد؛ وهو ما يعبر عنه الأمريكيون بالرمز: R (Research) & D (Development)؛ أي تلازم البحث العلمي والتنمية، حيث تقوم مراكز ووحدات الإنتاج بتمويل نشاط البحث العلمي، في مقابل أن تأتي لها المختبرات البحثية بالحلول للمشكلات التي تعترض عمليات التصنيع، وتطور الوسائل التي تقفز بمعدلات الإنتــاج.

وتلزمنا الموضوعية، أيضاً، بأن نستمع إلى رأي ملايين من البشر في عالمنا لا يزالون متخوفين من ذلك «المجهول»، الذي تسرب بالفعل إلى خلايانا ودمائنا: التكنولوجيا الحيوية!. إنها، بلا شك، واحدة من القضايا بالغة الأهمية، التي تشغل بال صانعي السياسات في كثير من المواقع بالعالم.

من جهة أخرى، يرى جانب من خبراء الزراعة والبيئة والتغذية أن المحاصيل الغذائية المعدلة وراثياً قد خيبت الآمال والتوقعات في أسواق الدول المتقدِّمة، لدرجة أن مستقبلها أصبح غير واضح الآن، إذ تواجه بمعارضة أوروبية صلدة، وحتى في الولايات المتحدة الأمريكية، أكبر أنصار التكنولوجيا الحيوية، تأثر المواطن الأمريكي بالجدل الدائر حول الآثار الصحية والبيئية للأغذية المعدَّلة وراثياً، وأصابه التشوش، وصار يهتم بمراجعة مكونات غذائه المنتجة بهذه التكنولوجيا، كما تزايد اتجاه المستهلكين في الغرب نحو الأغذية العضوية، وهي الأغذية التي تجيء من محاصيل زراعية لم تستخدم فيها أية معالجة من معالجات التكنولوجيا الحيوية (تعديل شفرة وراثية – حفز نمو باستخدام الهورمونات .. إلخ).

النانو زراعة!
في عام 1990م، بدأ عصر تكنولوجي جديد عرف باسم النانوتكنولوجي، أو تكنولوجيا المنمنمات. وقد حدد العلماء تلك السنة بدايةً للعصر التكنولوجي الجديد لأنها شهدت تمكن الباحثين في إحدى شركات الإلكترونيات العالمية من صنع أصغر إعلان في العالم، حيث استخدموا 35 ذرَّة من عنصر الزينون في كتابة اسم الشركة، ذي الحروف الثلاثة، على واجهة مقر فرعها بالعاصمة السويسرية !.

فهل سيكون للنانو تكنولوجي دور في رسم صورة طعام المستقبل؟. هل سيأكل البشر في المستقبل (نانو طعام)؟. يرى بعض المهتمين أن ظهور بعض منتجات النانوتكنولوجي، مثل مستحضرات التجميل المضادة للتجاعيد، والرذاذ المزيل للأوساخ، ما هو إلا مقدمة تبشر بقرب مجيئ الطعام النانو. إذ سيطرح في الأسواق قريباً (2009 أو 2010م) نوع من ورق التغليف تم إنتاجه بالنانوتكنولوجي، وسيكون له مردوده الواضح في تطوير صناعة المأكولات المعبَّأة، التي سيتزايد الإقبال عليها مستقبلاً. وفي مجال التعبئة والتغليف أيضاً، أنتجت خطوط النانوتكنولوجي في شركة «هوني ديل» مادة بلاستيكية لتعبئة الطعام تحتفظ به طازجاً لمدة أطول، وذلك لأنها لا تسمح لجزيئات الأكسجين بأن تخترقها فتفسد المعبأ بها من طعام. أما شركة «أسبن أيروجيلز»، فقد أنتجت مادة جديدة باستخدام هذه التكنولوجيا العصرية، لها قدرة على العزل الحراري تساوي ثمانية أضعاف قدرة أفضل مواد العزل المستخدمة حالياً في حماية المأكولات من تأثير الحرارة عليها، فتصل إلى المستهلك وهي في أفضل حالاتها. وأما خبراء النانو تكنولوجي في شركة «أويل فريش»، فقد طوروا مادة سيراميكية لها خاصية قوية مضادة للأكسدة، وصنعوا منها أداة صغيرة يمكن وضعها في وعاء قلـي الطعام، فتعطي الفوائد التالية: تقلل زمن القلي، وبالتالي توفر من كمية الوقود المستخدم في إعداد الطعام، وتحتفظ بزيت القلي صالحاً للاستخدام لمدة أطول، وتتيح استخدام نفس الكمية من الزيت في قلي أنواع مختلفة من الطعام (لحوم وأسماك، مثلاً) دون أن يتأثر مذاق أي منهما بالآخر. وسوف تزود السلع مستقبلاً ببطاقات تعريف صغيرة، مسجل عليها -باستخدام ترددات موجات الراديو- معلومات مختصرة عن المسار الذي اتخذته السلعة منذ إنتاجها حتى وصولها إلى يد المستهلك؛ وبواسطة جهاز تحسس دقيق مصنوع بوسائل نانوتكنولوجية، تتاح هذه المعلومات للمستهلك قبل أن يضيف السلعة إلى سلة المشتريات، فيعرف من أية مزرعة جاءت شريحة اللحم التي اشتراها، بل من أي قطيع من المواشي، وهل أعطيت البقرة التي أخذت منها الشريحة مضادات حيوية أو هورمونات أثناء تربيتها، أم لا؛ ومعلومات أخرى عن كيفية الذبح، والزمن الذي استغرقته الشريحة لتصل إلى أرفف السوق، وأساليب نقلها وحفظها .. إلخ. والجدير بالذكر أن هذه البطاقات تستخدم الآن، فعلاً، في اليابان؛ والمتوقع أن تعمل النانو تكنولوجي على تصغير حجم البطاقة وتحسين خواص استخدامها وتخفيض ثمنها، كما سيكون بمقدورها الكشف عن سلامة السلعة الغذائية وخلوها من الميكروبات، كالأميبا والسالمونيللا.

وسيكون للنانوتكنولوجي شأن في إنتاج الطعام نفسه، وليس مواد التغليف والتعبئة فقط، بل إن التوقعات تقول إن صناعات المأكولات التي لن تعتمد على النانوتكنولوجي لن يكتب لها النجاح، ولن يقبل الناس على منتجاتها. وبحلول عام 2015م، ستغير النانوتكنولوجي أنظمة إنتاج الطعام التقليدية على النحو الذي يجعل المنتجات رخيصة الثمن وآمنة، ويطيل زمن صلاحيتها للاستهلاك، ويقلل من كلفة الإنتاج بنسب تتراوح بين 40 و 60 بالمائة. والمعروف أن النانوتكنولوجي تتدخل، حالياً، في إنتاج بعض المواد المضافة إلى الأطعمة، مثل الفيتامينات والمعادن ومكسبات النكهة، إضافةً إلى 180 من التطبيقات المستحدثة يجرى العمل على الخطوات النهائية لها، قبل أن تدخل مجال إنتاج الأغذية. ويقدر إجمالي الأموال المستثمرة في قطاع إنتاج النانوطعام، بالوقت الراهن، بحوالي 7 مليارات دولار؛ وينتظر لهذا الرقم أن يقفز إلى أكثر من 20 مليار دولار في العام المقبل، حيث سيدخل إلى هذا المجال عدد كبير من الشركات، يتركز معظمها في الولايات المتحدة الأمريكية واليابان والصين.

خدمة التوصيل إلى الخلايا
وليس إلى المنازل
إننا نعرف الآن نظام توصيل الطلبات إلى المنازل. غير أن الطلبات من أنواع الغذاء المختلفة سوف توصل في المستقبل إلى الخلايا .. خلايا أنسجة الجسم البشري، مباشرة. إن خلاصات الأطعمة الاعتيادية التي نتناولها تصل إلى الخلايا، بعد أن تمضغ في الفم، وتهضم في المعدة، وتمتص في الأمعاء، ليحملها الدم إلى الخلايا. أما أنواع «الطعام النانو» فستكون عبارة عن جزيئات، وستتولى إيصالها إلى الخلايا مرْكبِات توصيل، عبارة عن جزيئات مختلفة من مُـركَّبــات ذات خواص طبيعية وكيماوية تمكنها من حمل الطلبات من غذاء أو دواء، وتتحرك بها متوجهة إلى خلايا محددة في نسيج الجسم البشري، حيث تحرر أحمالها لتستفيد بها تلك الخلايا، دون غيرها، ليتحقق الغرض الغذائي أو العلاجي.

وتجد النانو تكنولوجي مناصرين كثـر يعتقدون أن توسعات في تطبيقات النانو تكنولوجي في مجال الطعام قادمة ولا ريب، وأن المسالة مسألة وقت، ولن يستطيع أحد أن يوقف تقدمها. وقد يكون تقدمها حالياً بطيئاً نسبياً، لأن الناس لا يزالون مرتبطين بشدة بما اعتادوا عليه من طعام وثقافات غذائية ترسخت على مدى أجيال عديدة. ويمكن أن نضيف سببا آخر، وهو أن الكثيرين لا يفهمون معنى النانو تكنولوجي، لأن أسسها العلمية تستعصي على غير المتخصصين، لذلك فهم يتعاملون معها بحذر. وتتشارك الحكومات وشركات الأغذية ومجموعات الباحثين في بذل جهود ضخمة لنشر الوعي بفوائد النانوتكنولوجي في كل المجالات، وفي مجال الطعام على نحو خاص.

ماذا سـتكون ردود أفعال المستهلكين تجاه النانو طعام؟. هل سيثار حولها الجدلُ وتطلق عليها سهام التشكك، كما حدث مع منتجات التكنولوجيا الحيوية النباتية والحيوانية؟.

يقول الخبراء إن علينا أن نستفيد من درس المنتجات المعدلة وراثياً، ونخاطب الرأي العام، فيما يخص النانوطعام، بأسلوب مختلف؛ فلا يزال الرأي العام -على مستوى العالم- يتعامل مع التكنولوجيات المستحدثة بحذر، وربما يبدأ متشككا بها، إلى أن يتأكد من أنها آمنة، فتزول تحفظاته. ويقترح هؤلاء الخبراء أن تقوم مؤسسات المجتمع المدني بالدور الأساسي في تقديم منتجات النانوطعام للناس، وألاَّ يتدخل العلماء بأحاديثهم التي يصعب على المواطن العادي استيعابها، فلا يتعاطف معها؛ خاصة وأن الشروحات العلمية لفكرة النانو طعام ليست (سهلة الهضم)، وقد تستعصي على من لا يملكون خلفية معلوماتية من علوم الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا.

ليس معنى هذا أن المشككين مخطئون على طول الخط. فلا تزال تكنولوجيا إنتاج النانوطعام في أطوارها الأولى؛ وقد تكون ثمة تأثيرات جانبية لمنتجاتها من الأغذية المستحدثة، بل إنها قد تحمل في طياتها، أو قد يترتب على استهلاكها، مواد ضـارة تعجز وسائل الكشف والتحليل المعروفة حالياً عن رصدها، فهي مصممة للتعامل مع المواد في مركباتها الأكبر حجماً من الـ (نانو). من هنـا، ننتظر من العلماء أن يسعوا إلى التوصل إلى أجهزة مخبرية حديثة، مناسبة لإجراء اختبارات التأكد من أمان منتجات النانوطعام وصلاحيتها للاستهلاك الآدمي. وإلى أن تظهر تلك الأجهزة، ستظل تلك المنتجات تخضع لفحوصات مدققة وتجارب عديدة تستغرق وقتاً طويلاً، قبل الاطمئنان إليها من قبل الإدارات الصحية ومنحها شهادات الصلاحية، لنجدها على الأرفف في أسواقنا.

تكنولوجيا الفضاء
وسوف يكون لتكنولوجيا الفضاء تأثيرها على صورة ما سيأكله البشر في المستقبل، بل إن هذا التأثير قد بدأ فعلاً في التحقق منذ عدة سنوات، والمنتظر أن يتزايد في السنوات القادمة. وبصفة عامة، فقد كان لأبحاث الفضاء مردوداتها التي أدت إلى تطوير الكثير من شئون الحياة على الأرض، كوسائل الاتصال، والملبس، والطعام. ويرى بعض المراقبين أن البشر العاديين سيعرفون في المستقبل صندوق غـداءً شبيهاً في محتوياته بأنواع الطعام التي يتناولونها رواد الفضاء في رحلاتهم الطويلة بالفضاء الخارجي، كما قدَّمها لنا المخرج الأمريكي ستانلي كوبريك في فلمه (أوديسا الفضاء – 2001)، حيث رأينا رواد الفضاء يتناولون عشاءً تم إعداده في مطبخ سفينة الفضاء دسكفري، عبارة عن حساء غليظ القوام، يصعب تناوله بالملاعق. والحقيقة هي أن محاولات التوصل إلى أفضل صورة لطعام رواد الفضاء قد بدأت منذ زمن بعيد، ومن أغرب هذه المحاولات تجربة لتخليق وجبة غذائية متكاملة من المكونات الأساسية، في صورتها الكيميائية النقية. وقد تم تجريب هذه الوجبة الكيماوية، فعلاً، في منتصف الستينيات من القرن الماضي، حيث تطوع 24 رجلاً ليعيشوا 19 أسبوعاً من دون أن يتناولوا غير وجبات منتظمة مكونة من محاليل تحتوي على 49 من الأملاح والمركبات الكيماوية. وقد تمكن عشرون من هؤلاء الرجال من إنهاء التجربة بنجاح، وأثبت الفحص الطبي أنهم كانوا في كامل صحتهم، بعد أن عاشوا ما يقرب من خمسة أشهر على هذا الغذاء الصناعي، الذي لم يتم إعداده في المطبخ، وإنما في المختبر الكيميائي.

مطبخ المستقبل
ويهمنا، ونحن بصدد الحديث عن الطعام في المستقبل، وهو أمر يهم -في جانب كبير منه- ربات البيوت، أن نبشرهن بأن أعمال المطبخ لن ترهقهن مستقبلاً، بل ربما تختفي المطابخ من البيوت!. هل تتذكرون المشاهد الهزلية في بعض الأفلام المصرية، حيث تظهر الموظفة جالسة إلى مكتبها وهي تقوم بتجهيز كمية من الخضراوات.. سيحدث ذلك في المستقبل، مع الفارق الذي تحدده الإمكانات التكنولوجية. إذ سيكون من الأمور المعتادة أن تتابع سيدة المنزل ما تعده من وجبات وهي موجودة في مقر عملها.. فهي قد غادرت منزلها وقد تركت وجبة اللازانيا الشهية في فرن المطبخ المتصل إلكترونياً بتلفونها المحمول بحيث يتاح لها أن تراقب الوقت اللازم لنضج اللازانيا، فلا تلبث أن تطفئ الفرن باستخدام التلفون، كأنها تجري مكالمة عادية مع جارة لها، وتكمل يوم عملها وهي مطمئنة إلى أن أفراد أسرتها سيجدون الوجبة جاهزة عندما يتحلقون حول مائدة الغداء أو العشاء.

وبمرور الزمن، لن تحتاج الأسرة إلى المطبخ كثيراً؛ ولن تقضي ربة البيت في المطبخ أوقاتاً طويلة، وسوف تنتهي شكاويهن من الوقت الذي يقضينه في إعداد الوجبات للأسرة. إذ سيشيع نظام «سخن وكل». وثمة فكرة جديدة يجري تطويرها الآن، حيث تزود علبة الطعام بقسم معزول عن محتوياتها، مملوء بالجير المطفـأ. ولن يكون على مستخدم هذه العلبة إلا أن يفتح هذا القسم، ويضيف قليلاً من الماء إلى الجير، فيحدث تفاعل كيميائي من النوع المعروف بمولد الحرارة، تكفي كمية الحرارة الناتجة عنه لتسخين الطعام داخل العلبة. ولن يتحقق النجاح إلا للأسواق التي تتوافر بها الوجبات سابقة التجهيز، والتي تسهِّل الأمر على زبائنها فتوصل لهم هذه الوجبات إلى منازلهم في عبوات محكمة تحمي الطعام من الفساد. وسوف تختفي من أحاديث المائدة كلمة «بيتي» التي يستخدمها أهل البيت لتشجيع الضيوف على تجريب نوع بعينه من الطعام تم إعداده في مطبخ البيت ولم يأت من الخارج. والمتوقع أيضاً أن يختصر الوقت المخصص لتناول الطعام، إذ سيصبح تناول الطعام بتمهل عادة من عادات الماضي الغريبة على العصر، وستساعد طبيعة الأطعمة المستقبلية على أن يسود نظام «الأكل على عجل». وسوف يقل الاعتماد على الأغذية المحفوظة بالتجميد، ويزيد على الأنواع التي يمكن التقاطها من فوق أرفف الأسواق وفتحها بسهولة وتسخينها بسرعة، لتؤكل على عجل. لذلك، فإن أفران الميكروويف ستكون في كل بيت، بل إنها ستحتل مكاناً في سيارات الركوب، وقد بدأ ذلك يتحقق فعلاً في بعض إنتاج شركة فورد. ففي عام 2001م كان ربع عدد السيارات الأمريكية الخاصة يحتوي على فرن ميكروويف.

إنها مجرد محاولة لاستشراف المستقبل، قد لا يصح لاحقاً بعض جوانبها. ولكن قد يحمل المستقبل من التحولات ما يتجاوز كل تقدم. ألم يفعل المستقبل ذلك أكثر من مرة في الماضي؟

أضف تعليق

التعليقات