قول في مقال

لماذا لا نقرأ مــاذا؟

لماذا لا نقرأ؟ كان عنوان القضية التي أثارتها القافلة في عددها السابق، وحاول من خلالها مثقفون وكتّاب وصحافيون من الرباط إلى الخبر، مروراً بالقاهرة وبيروت ودمشق، استطلاع حال الكتاب العربي وقرّائه. الزميل عبود عطية يراجع هنا، من وجهة نظره، بعض ما ورد في هذه القضية..
يقول الباعة في معظم مكتبات بيروت إن كل مكتبة باعت ما بين 150 و 250 نسخة من رواية الأمريكي دان براون شيفرة دافنشي قبل صدور القرار بمنعها. وبعد صدور القرار تركز البيع في نقاط محددة في الظل، غير أن الأرقام ارتفعت إلى الآلاف. وفي المملكة العربية السعودية حيث لم يمنع الكتاب، تؤكد مكتبة جرير أنها وحدها باعت حتى الآن 1500 نسخة وطلبت ألفاً إضافية من الناشر. لم ولن نعرف كم طُبع وبيع من هذه الرواية. والأرقام التي ذكرناها ليست فلكية ولكن المؤكد أنها مثيرة لغيظ زعماء الرواية العربية الحديثة ، وللشعراء الذين يحمّلوننا مسؤولية اقتصار طبع ديوان الواحد منهم على خمسمائة أو ألف نسخة.

إذن نحن نقرأ.. وكان حرياً بعنوان القضية أن يكون: ما الذي نقرأه وما الذي لا نقرأه؟

من هناك تبدأ الأزمة
الفاجع في حال الكتاب العربي تجلّى بشكل واضح في الملف كما نشرته القافلة، إذ فات كل المساهمين فيه أن يتوقفوا عند الحلقة الأولى من السلسلة التي تصنع عالم الكتاب، أي الكاتب. وكأن هؤلاء يسلمون جدلاً بأن كل من أمسك قلماً ورزمة أوراق هو مفكر أو أديب، وتقتصر الأزمة على عدم اهتمام القرّاء به. أما الواقع فهو غير ذلك تماماً. لأن أزمة الكتاب (وبالتالي القراءة) تبدأ أولاً وبأخطر الأشكال في عالم الكاتب العربي سواء أكان مفكراً سياسياً أو شاعراً أو غير ذلك. ولا مجال هنا للغوص في مظاهر أزمة الثقافة العربية وأسبابها؛ لأنها تحتاج إلى مجلدات. ولكن القارئ يرى أن الكتّاب العرب، باستثناء حفنة لا تزيد على عدد أصابع اليد – بعد أن يقطع منها أصبع أو اثنان – فقدوا صدقيتهم بالمعنى الواسع للتعبير. فإذا كان من حق أي شخص أن يدعي بأنه شاعر أو روائي، فليس من حقه ولا من حق أي كان أن يفرض الاعتراف بذلك على القرّاء. وإلى الذين تصدمهم هذه الملاحظة نتوجه بالسؤال: كيف تفسرون لنا رواج رواية شيفرة دافنشي أكثر من أية رواية عربية حديثة؟

إن سقوط الانتلجنسيا العربية بات عنوان كتاب. وهذا السقوط هو ما يدفع بالحيارى والمتفجعين على حال الكتاب العربي إلى البحث عن خد للطمه. وهنا تبرز الرقابة كشيطان يجب رجمه. فصارت الرقابة محط لعنات يحاول البعض من خلال لومها التستر على إفلاسه وفشله. والواقع أن الرقابة صارت بإصدار قرار بمنع كتاب لا تقوم سوى بالترويج له بشهادة بعض ما ورد في ملف القافلة. ونسأل الذين يصدمهم هذا الدفاع عن الرقابة : أي عمل فكري أو أدبي عظيم في التاريخ استطاعت الرقابة أن تقمعه؟ وكم كاتب عربي غادر بلاده إلى أوروبا أو إلى بلد عربي آخر هرباً من القمع ، وقدّم من هناك ذلك الإنتاج المتميز الذي لم يكن بمقدوره أن يقدمه في وطنه الأم؟

دور النشر
الثغرة الثانية التي تضمَّنها ملف القافلة ، هي غياب البحث الميداني والموضوعي في الدور الذي تلعبه دور النشر. والأسوأ من هذا الغياب، كانت استعانة بعض الزملاء بالناشرين كحكّام أو مستشارين في أزمة الكتاب العربي!!

في مارس 1975م أي قبل شهرين من اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، كان عدد دور النشر العاملة في بيروت أقل من أربعين داراً بشهادة كرّاس معرض الكتاب العربي . وخلال سبعة عشر عاماً كانت البلاد فيها مرتعاً للفوضى والقتل والتدمير، ارتفع عدد دور النشر إلى أكثر من 140 داراً بشهادة كرّاس المعرض نفسه للعام 1992م. فما الذي حصل خلال هذه السنوات؟ أقامت نهضة فكرية وثقافية تبرر هذا الورم في عدد دور النشر؟

الواقع أن دكاكين كثيرة قامت للتعاطي مع الكتاب – السياسي أولاً – كمورد رزق، يسمح لها بالحصول على التمويل من هذه الجهة أو تلك. وتدهورت نتيجة هذا التركيز على التمويل كل أصول العلاقات التقليدية والمهنية ما بين الناشر والمؤلف.

فبعدما كان الناشر يدفع حقوق المؤلف كاملة عند استلام المخطوطة (قبيل سنوات الحرب)، صار يشترط الدفع بعد الطبع أو بعد سنة من الإصدار.. وقويت شوكة الناشر بتدفق طفيليي الثقافة عليه، ونعني بهم أولئك الذين يقبلون بأي شرط مقابل صدور كتاب مطبوع يحمل اسمهم لينتموا به إلى عالم المثقفين .. وهكذا وصل الأمر ببعض الدور اليوم إلى اشتراط دفع مبلغ ألف دولار من قبل كل شاعر أو أديب يرغب في النشر عندها!

حكايات دور النشر والناشرين مؤسفة، محزنة، معيبة، ومضحكة.. تبدأ باعتراف الجميع ضمناً أن الكثير منها يطبع أكثر مما يعلن للكاتب إذا كان هذا الكاتب معروفاً.. ولا تنتهي بحكاية ذلك المفكر المعروف الذي اتصل بشكل غير مباشر بدار نشر لمطالبتها بحقوقه، فأنكر صاحب الدار معرفته باسم المفكر وبعنوان الكتاب!!

أو ليس معيباً على عالم الكتاب العربي أن تصبح المكافأة الصحافية التي يتقاضاها الكاتب على مقال يكتبه في ساعة أو ساعتين أكبر بكثير من عائد كتاب قد يستغرق تأليفه سنة أو أكثر؟ هذا إذا كان هناك من عائد لهذا الكتاب!

أو ليس معيباً على عالم الكتاب العربي ألاَّ يعرف أي ضوابط قانونية تسمح بضبط حقوق الملكية الفكرية ولا أي شكل عملي من أشكال تطبيقاتها، فتطبع اليوم في بعض زوايا الوطن العربي كتب تحمل على صفحتها الأولى الطبعة الأولى 1990م .

حقوق الملكية الفكرية .. لم نسمع بها إلا بعد الضغط الذي مارسته مشكورة شركة مايكروسوفت الأمريكية. وهنا أيضاً اقتصرت التطبيقات الميدانية والمداهمات على مصانع تزوير الاسطوانات المضغوطة وبرامج الكومبيوتر. أما المطابع ودور النشر فما زالت وكأنها غير معنية. وربما كانت بالفعل كذلك.

المكتبة والوظيفة المفقودة
إلى ذلك، تضمن الملف الذي نشرته القافلة مسألة تسويق الكتاب ومبيعاته باعتبارها مؤشراً لمقروئيته. ولكن الواقع أيضاً يختلف عن ذلك، إذ لا شيء يؤكد أن الكتاب المبيع هو مقروء حكماً.

فمن الممكن أن تحظى مشروعات مثل كتاب في جريدة أو مكتبة الأسرة بنجاحات في جوانب معينة. فقد ترفع مبيعات الصحف، وقد توصل الكتاب إلى بيوت ما كانت لتصلها عن طريق آخر. ولكن هاتوا لنا نقاشاً واحداً أثاره واحد من هذه الكتب. من ملايين النسخ التي طبعت، قد لا يتجاوز عدد ما قُرئ منها العشرات أو المئات. والسبب بسيط: أن الدافع إلى القراءة مرتبط باهتمامات واحتياجات محددة، وإلى حدٍ ما بمزاج معين في وقت معين.. ومن الصعب أن يقوم إنسان بتخصيص ساعات وأيام لقراءة كتاب لمجرد أن هناك من أعطاه إياه مجاناً في وقت شاءه هو وليس القارئ.

وحال هذه الكتب المجانية لا يختلف كثيراً عن حال الكتب المشتراة بأسعار مرتفعة التي لا شيء أيضاً يؤكد أنها قُرئت.

فمن اهتمامات المثقف العربي بناء مكتبة خاصة في منزله، يجب أن تحتوي على عدد من الكتب يتحدى به محيطه الأمي. هذه المكتبة كانت سلاحاً فعالاً حتى السبعينيات من القرن الماضي، عندما كان المجتمع الزراعي هو الذي يفرز مثقفين يجدون في المكتبة المنزلية الخاصة وسيلة إعلان بصوت عالٍ عن انتمائهم إلى طبقة أعلى من الطبقة التي يتحدرون منها. (هناك قصة حقيقية تُروى عن زوجة أحد الأثرياء التي دخلت أكبر مكتبة في بيروت وأبلغت صاحبها أنها بصدد تأثيث بيت جديد لابنها، وتريد كتباً وموسوعات تملأ ثلاثة أمتار ونصف المتر فقط من المكتبة، لأن الباقي مخصص للفضيات والتحف الفنية).

المهم أنه بعد انتشار التعليم في العقود الأخيرة من القرن العشرين، وتكاثر حملة الشهادات الجامعية، لم يعد محيط المثقف أمياً.. ففقدت المكتبة المنزلية قدرتها على توكيد انتماء صاحبها إلى طبقة أعلى؛ لأن المثقف الذي يقرأ كتباً لم يعد فعلاً أعلى شأناً من عمدة القرية أو وجيهها. وصارت مزهرية من الكريستال تعلن عن انتماء طبقي بشكل أوضح من المكتبة. وبذا يكون الكتاب العربي الذي شكل ركناً من أركان المشروع النهضوي العربي المولود في القرن التاسع عشر قد مشى مشيته المتأرجحة بين التفاؤل والترنح على مدى قرن من الزمن.. حتى سقط.

أضف تعليق

التعليقات