هو أحد أهم الابتكارات العلمية المذهلة التي عرفها التاريخ البشري والطبي، وأحد أبرز المنتجات التجارية التي عرفت نجاحاً دام على مر العصور. هو محصلة اكتشافات عَرضَية، وعبقرية علمية، وطموح شخصي، وتنافس بين شركات كبرى. إنه الأسبيرين، العقار الذي تتعدَّد استعمالاته على نحو مدهش. فبرغم مرور أكثر من مائة عام على اكتشافه، لا يزال العلم إلى اليوم يمطرنا بسيل من الدراسات حول فاعليته في علاج أمراض خطرة، ويبحث في أفضل طرق استخدامه وكيفية جني فوائده وتجنب آثاره الجانبية. إنه الأسبيرين الذي تروي لنا أريج المحفوظ* قصته، ومكانته المميزة بين الأدوية.
في شهر يوليو من العام 1899م، أطلقت شركة «باير» في بيان رسمي عقار الأسبيرين، بعد أن عممت على كبار مديريها مذكرة طرحت فيها المسألة الشائكة المتعلِّقة بالاسم الذي سيتم إطلاقه على المنتج الجديد؛ ليُعتمد في النهاية اسم «أسبيرين».
ولكن هذا البيان، على أهميته، لا يُمثل الصفحة الأولى في تاريخ هذا العقار المدهش، فبدايات هذا التاريخ تعود إلى أوائل الخمسينيات من ذلك القرن عندما استطاع شارل جيرهاردت إنتاج أحد الأشكال المعروفة من حمض الساليسيليك الأسيتيلي كيميائياً عام 1853م.
وحمض الساليسيليك الأسيتيلي هو المركَّب الكيميائي للأسبيرين، ونتج عن تحوير منتج طبيعي هو السليسين، الموجود في مجموعة من النباتات أهمها الصفصاف، وهو نبات له تاريخه الطبي المعروف. فقد كان نموذج التداوي المعتاد هو استخدام النباتات، ولكن انطلاق الثورة الصناعية وما صاحبها من تغيرات هائلة أدى إلى توجه الفكر السائد للبحث والمعرفة. فقد سمح العلم التجريبي لعلماء الكيمياء بتحقيق خطوات عملاقة لجهة فهم مفعول العقاقير الطبيعية وتفكيكها، وكان لحاء الصفصاف واحداً منها، حيث راح علماء الكيمياء يتسابقون على عزل المكون الرئيس فيه لما له من تأثيرات علاجية مهمة عرفها الإنسان منذ القدم.
وأول إنجاز ثوري فعلي تحقق عام 1828م على يد جوزيف بوشنر، أستاذ علم الصيدلة في جامعة ميونيخ. حين أنتجت له عملية تكرير لحاء الصفصاف مقداراً ضئيلاً من البلورات التي سمَّاها «السليسين» (المشتقة من «سليكس» Salix الاسم اللاتيني للصفصاف). وفي العام التالي، تمكَّن عالم الكيمياء الفرنسي هنري ليرو من صقل عملية استخراج السليسين. وفي العام 1838م نجح رافائيل بيريا في استخراج حمض أكثر فاعلية من تلك البلورات سمَّاه حمـــــض الســـــاليســيليــك. لكن التأثيرات الجانبية المزعجة لحمض الساليسيليك والتي تمثلت بمذاقه الكريه وتسببه بالتهاب الفم والحلق والمعدة، جعلت قلة من الأطباء تصفه لمرضاهم، والكثيرون يعزفون عن استخدامه.
وفي العام 1853م كاد العالم أن يحصل على الأسبيرين قبل تطويره فعلياً بـ 46 عاماً، لولا أن الأمور اتخذت آنذاك منحىً مختلفاً. فقد عمد العالِم الفرنسي شارل جيرهاردت إلى إحداث تفاعل كيميائي في مسار مُعقَّد بُغية اكتشاف طريقة للتخفيف من التأثيرات الجانبية المزعجة لحمض الساليسيليك، بتحويره إلى أحد مشتقاته وهو حمض الساليسيليك الأسيتيلي. ولأن تقنيات مختبرات القرن التاسع عشر لم تكن متطورة؛ شعر جيرهاردت حينئذ بأن إجراءات تجربته ستستغرق الكثير من الوقت وستثير الضجر، فقرر وضعها جانباً، بعد أن أنتج عيِّنة خام غير نقية من حمض الساليسيليك الأسيتيلي؛ ليكون أول من استطاع إنتاج أحد الأشكال المعروفة منه كيميائياً.
من الصباغ إلى الدواء
قد تنشأ الاكتشافات العلمية عن أفراد يعملون بمعزل عن غيرهم وهم غافلون عن واقع أن مشروعهم الخاص قد ينطوي يوماً ما على مضامين أساسية بالنسبة لمشروع شخص آخر. وهذا ماحدث في حالة الأسبيرين. ففي عام 1834م، حقق العالِمْ الألماني فرايدليب رونج اكتشافين كان لهما أثر في تطوير الأسبيرين، وهما: اكتشافه مادة الأنيلين، واستخراجه الصبغ الأنيلي الأسود منها. وبعد بضع سنوات، توصل العالِمْ الإنجليزي ويليام بيركن لاكتشاف اللون الأرجواني بالصدفة أثناء إجرائه لتجاربه على مادة الأنيلين. ولأن اللون الأرجواني كان أحد الألوان النادرة والبالغة التقدير وإنتاجه كان مشوباً بمصاعب كثيرة في ذلك الوقت؛ حصل بيركن على براءة الاختراع، ثم أسس مصنعاً لإنتاجه.
كان هذا الاكتشاف مفتاحاً في ظهور صناعة جديدة مربحة وهي الأصباغ الصناعية، وكان الأمر، في ألمانيا بالتحديد، يمثل ثورة حقيقية. فنظراً لتوافر مادة الأنيلين والموارد العلمية الضرورية لتطوير كيمياء الأنيلين، عرف رجال الأعمال الألمان في مثال بيركن السبيل لتلبية الطلب على الأصباغ الصناعية، بعد استيائهم من السيطرة البريطانية على إنتاج الأصباغ الطبيعية، والتكاليف الباهظة المفروضة عليهم. بدأت شركات الأصباغ تغزو سائر أنحاء ألمانيا، وأصبحت هذه الشركات اللاعب الأول في هذا القطاع بعد اكتشاف طائفة جديدة من الألوان الصناعية.
كانت شركة باير إحدى أهم الشركات العاملة في هذا القطاع. وبجانب الأرباح الهائلة التي استطاعت أن تجنيها من الأصباغ، اكتشفت باير «منجم ذهب» آخر ربما يكون أكثر ربحية من نشاطها الأصلي. فالكثير من المواد الكيميائية التي تنتج كنواتج جانبية أثناء عملية تصنيع الأصباغ، يمكن أن تكون مواد دوائية. تتبعت الشركة هذا الخيط، وكانت النتيجة نجاحاً هائلاً. فمن مادة كيميائية تندرج ضمن قائمة النفايات الناتجة عن صناعة الأصباغ، استُخلصت مادة الأسيتوفينيتيدين والتي سوقتها الشركة كعقار مخفض للحمى تحت اسم «الفيناسيتين». وحقق الفيناسيتين أرباحاً طائلة لباير على مر السنوات التالية. ثم مضت الشركة قدماً في غزو قطاع إنتاج الأدوية والعقاقير بعد أن حقق عقارها الثاني ثم الثالث النجاح المرجو.
ونظراً لهذا التوجه الجديد، وضعت شركة باير نظاماً يقتضي أن يقوم كل عالم ينضم لمختبرها الخاص بأبحاث الأدوية، بالعمل على اكتشاف صيغ جديدة للمواد العلاجية المعروفة. وحين قرر آرثر آيشنغرون كبير العلماء في مختبر باير تطوير نسخة عن حمض الساليسيليك تخلو من التأثيرات الجانبية المزعجة؛ أوكل المهمة إلى الكيميائي فيليكس هوفمان. اطلع هوفمان على محاولات شارل جيرهاردت وعلماء آخرين في هذا الصدد، ثم شرع باستنساخ تلك التجارب مضيفاً بعض التعديلات عليها. وفي العاشر من أغسطس 1897م، حقق هوفمان ما توصل إليه جيرهاردت إنما بمزيد من الفاعلية.
ظهرت مدى فاعلية حمض الساليسيليك الأسيتيلي لدى اختبار خصائصه، إلا أنه لم يُمنح الموافقة ليكمل مشوار إخضاعه لمزيد من التجارب. كانت هذه الموافقة الأولية تمنح في باير من قبل أحد علمائها وهو هاينريخ دريزر الذي اعتقد بطريق الخطأ أن الأسبيرين يضعف القلب. ولذلك، رفض استكمال التجارب عليه لاختبار مدى فاعليته وأمنه. اندلع الصدام بين آيشنغرون المتحمس للأسبيرين ودريزر المقتنع بخطورته، وتمسك كل منهما برأيه. لم يجد آيشنغرون حلاً أمامه سوى العمل في الخفاء، وقام بإجراء سلسلة من التجارب السريرية تختبر صلاحية الأسبيرين كدواء فعَّال وآمن في الوقت نفسه. وحين جاءت الردود بفاعليته كمسكن عام وخلوه من التأثيرات الجانبية المزعجة المرتبطة بحمض الساليسيليك؛ نشر آيشنغرون تقريراً بذلك بين العاملين في المختبر. ونتيجة لهذا، أُخضع العقار لمجموعة جديدة من التجارب. وقد جاءت الردود إيجابية كما في المرة السابقة؛ فاضطر دريزر أن يقبل بالواقع، وتقرر إنتاج العقار. وفي يوليو 1899م كان الموعد المنتظر لإطلاقه.
عصـر الأسبيرين
عرف مصنِّعو الأسبيرين أواخر العقد الثاني من القرن العشرين فورة نشاط محموم لا سابقة لها لتلبية الطلب الهائل عليه؛ فقد تضاعفت عمليات إنتاجه وبيعه، بعد أن بات الملايين من الأفراد مقتنعين بقدراته العلاجية. وبمرور الوقت، أخذت شعبية الأسبيرين تتنامى؛ فتحول سريعاً لرمز ثقافي، وبات يشكِّل منتجاً مجسداً للحداثة، وأعجوبة علمية يمكن لأي شخص ابتياعها بحفنة جنيهات.
لكن التطورات التي كان لها الأثر الحاسم في رسم ملامح هذا العصر، كانت نتيجة عدة عوامل، بدأت بتقديم باير طلبات للحصول على براءة اختراع للأسبيرين في ألمانيا ومناطق أخرى من العالم؛ لأنها رأت أن تضبط منتجها وتحميه وتستغله بأفضل طريقة ممكنة. ولكن لم يكن الأسبيرين منتجاً جديداً كفاية ليكون مؤهلاً لنيل براءة الاختراع؛ فحمض الساليسيليك الأسيتيلي اكتشف منذ سنوات على يد جيرهاردت وآخرين، وقانون براءات الاختراع الألماني يطال المسارات الجديدة وليس المنتجات الجديدة؛ وبالتالي لم يكن بالإمكان اعتبار «اكتشاف» باير نتيجة لمسار جديد؛ مما أدى إلى رفض ألمانيا طلب منح البراءة. لم تجد باير أمامها سوى الاتجاه نحو الخارج. فإذا كانت قد حُرمت براءة الاختراع في ألمانيا، لماذا لا تحاول الحصول عليها في أسواق أخرى خارج موطنها الأصلي؟ اتجهت الأنظار في الشركة نحو بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية اللتين وافقتا على منحها البراءة. وبذلك تمكنت باير من احتكار إنتاج الأسبيرين وبيعه في سوقين من أكبر الأسواق العالمية. كما نجحت في الحصول على العلامة التجارية الحصرية «أسبيرين» في كافة أرجاء العالم.
واتّبعت باير استراتيجية محكمة لتسويق منتجها المدهش. فمن ناحية، أدركت أنها بحاجة لنية الأطباء والصيادلة الحسنة وتعاونهم لإنجاح العقار من خلال وصفه وتوزيعه، فأرسلت لبضع مئات منهم في كافة أرجاء ألمانيا وأوروبا رزماً صغيرة منه بالبريد مرفقة برسائل توضيحية، على أن ينشروا ما سيكتشفونه بعد تجربته على مرضاهم. وسرعان ما انتشرت الشائعات في الأوساط الطبية حول فائدة الأسبيرين وضرورة أخذه على محمل الجد.
ومن ناحية أخرى، عرفت باير أن تأثير العلامات التجارية قد يفوق تأثير براءات الاختراع إذا استُغلت بالشكل المناسب، فأرادت ترسيخ الاسم التجاري «أسبيرين» ترسيخاً عميقاً في ذهن المستهلك، بحيث يطرأ ببال الزبائن تواً لدى رغبتهم شراء حمض الساليسيليك الأسيتيلي.
ارتفعت مبيعات الأسبيرين، وحقق أرباحاً طائلة في السوقين البريطانية والأمريكية، لكن نجاحه فيهما تلقى ضربة حاسمة في العام 1914م، حين اندلعت الحرب العالمية الأولى. وبتفجر العداوة بين بريطانيا وألمانيا توقفت التبادلات التجارية بينهما؛ فحُرمت بريطانيا من سلع كانت ألمانيا وحدها قادرة على توفيرها لها؛ ما جعل سوقها تفتقر للبعض المهم منها، وأحدها كان الأسبيرين.
فقد احتفظت باير من خلال فرعها البريطاني بحقوقها الخاصة باسمه التجاري، وعملت على ترويجه وحمايته بكثير من الضراوة؛ فترسَّخ الاسم في أذهان البريطانيين تماماً كما ترسَّخ في أذهان الشعوب الأخرى في سائر أنحاء العالم. ومن الصعب على المنتجات المنافسة له أن تنجح في اختراق السوق التي يحكم قبضته عليها؛ ولذلك لم يهتم البريطانيون بإنتاجه. ولكن في ظل ظروف الحرب وكحلٍ للمشكلة، أصدر مجلس التجارة البريطاني أمراً بجعل كلمة «أسبيرين» ملكية عامة؛ تحفيزاً للمصنِّعين البريطانيين على إنتاجه. لكن الأسبيرين البريطاني الصُنع فشل في أن يتحول إلى حقيقة ملموسة؛ فقد كان دواءً مقيئاً أكثر منه مسكِّناً للآلام. ولكن وبعد بضعة أشهر، مُنح الأسبيرين الأسترالي الصُنع الترخيص؛ فكان ضربة عنيفة لامتياز باير الاحتكاري في بريطانيا والمناطق الخاضعة لسيطرتها، بعد تعهد أستراليا مساندة بريطانيا في الحرب.
في مواجهة الأنفلونزا الكبرى
لكن الأعوام التالية كانت تحمل للأسبيرين مفاجأة أخرى. فقد تفشَّى وباء الأنفلونزا في العالم في العامين 1918 و1919م في أحد أشكاله الأكثر خطورة مسبباً كارثة تاريخية تخطى عدد ضحاياها خمسة أضعاف ضحايا الحرب. وأودى بأرواح سكان المناطق النائية والمدن الكبرى على حدٍ سواء. وكان الأسبيرين العقار الوحيد الذي أثبت فاعليته في هذا المجال، فنجح في خفض حمى المريض والتخفيف من حدة الألم في عضلاته ومفاصله، مانحاً أنظمة الدفاع الطبيعية في جسمه فرصة المقاومة. وصحيح أن الأسبيرين لم يشفِ حالةً واحدةً من الأنفلونزا، لكنه ساعد الملايين في معركتهم ضد الفيروس، فأسهم من دون شك في إنقاذ أرواح عدة. لقد رسَّخت تلك المأساة شهرة العقار وصيته بطريقة متميزة لم يوفر أي شيء آخر مثيلاً لها؛ وارتفعت نسبة مبيعاته في سائر أنحاء العالم.
الأسبيرين.. عقار القرن القادم
أحكم الأسبيرين سيطرته كلياً على سوق المسكنات العالمية لأكثر من خمسين عاماً، لكن بعد ذلك راحت عقاقير «البانادول» و«الأيبوبروفن» و«الأدفيل» وغيرها من العقاقير الجديدة المنافسة له تحتل موقعه. فكان مصيره مصير منافسيه من المسكنات وعقاقير معالجة الحرارة التي سحقها في شبابه. ولعل تحوله لمكون رخيص في علاجات الزكام والأنفلونزا جعله يحافظ على نسبة هائلة من البيع ويكتسب شعبية كبيرة في البلدان التي عجز سكانها عن تحمل كلفة البدائل الباهظة الثمن. لكن أيام العظمة التي عرفها في أكبر الأسواق وأكثرها ربحية قد انقضت. وعندما بدا أنه خسر كل ما يملك، طرح أحدهم سؤالاً: ماهي بالضبط آلية عمل الأسبيرين؟ وأتت الإجابة لتُعيد له أمجاده. فكان العالم على وشك أن يشهد انبعاث الأسبيرين.
عندما تُثار الخلايا، تفرز حمض الأرايكيدونيك، فتتكون أحماض البروستغلندين التي تتسبب بظهور الحمى أو الالتهاب والألم. يعوق الأسبيرين إنتاج البروستغلندين باعتراضه إنتاج أنزيم السيكلوكسجيناز الذي يولد البروستغلندين من حمض الأرايكيدونيك. وعلى سبيل التشبيه، لنفكر بسلسلة من قطع الدومينو تتساقط الواحدة فوق الأخرى محفزة سقوط القطعة التالية. ولنفكر بغرض نضعه بين قطعتي الدومينو الأولى والثانية والقطع الأخرى، يعوقها من السقوط فوقها. هذا في الواقع ما يفعله الأسبيرين. فهو إذ يحول دون إنتاج البروستغلندين، يمنع ظهور الحمى والالتهاب والألم.
وللأسبيرين ثلاث طرائق عمل أساسية يرتبط كل منها بمقدار الجرعة التي يتناولها المريض. ففي الجرعة العادية التي يبلغ مقدارها 300 – 600 مليغرام، يعوق الأسبيرين البروستغلندين المسبِّب للألم. أما تناول جرعات أكبر من العقار، فيؤثر على التورم والحرارة والألم المرافقين للالتهاب. ولعل المفعول الثالث له هو الأكثر أهمية باعتباره يطال الدم.
أثره في وقاية القلب والشرايين
إن اللويحات الدموية التي تُشكل جزءاً من جهاز الجسم الدفاعي ضد النزيف، تنشط عندما تتلقى إشارة ما يحفزها في العادة حمض الأرايكيدونيك الذي يعلمها بأن أحد الأوعية الدموية بدأ ينزف؛ فتتحرك سريعاً إلى موضع الوعاء المتضرر، وتلتحم في مجموعة لزجة تسد الثقب. وتنشأ هذه العملية التي تعرف بـ «تكدس اللويحات» عن أحد أنواع البروستغلندين. ولكن في بعض الأحيان، يمكن للويحات الدم أن تتجمع وتلتحم حتى إن لم يصب الجسم بأي جرح؛ فتتكدس في وعاء سليم، إنما مخدوش أو متقرح، مسببة ظهور ما يعرف بالحواجز المخثرة التي تعوق دفق الدم في الجسم وتسد الشرايين الحيوية. وإذ يمنع الأسبيرين اللويحات الدموية من الالتحام باعتراضه إنتاج أنزيم السيكلوكسجيناز؛ فإنه يحول دون حدوث الحواجز المخثرة.
تشكِّل الحواجز المخثرة أحد أسباب أمراض شرايين القلب والسكتات الدماغية. وفيما لا تزال أمراض القلب والشرايين السبب الأول للوفيات بين الذكور والإناث على المستوى العالمي؛ تحل السكتات الدماغية في المرتبة الثانية في قائمة الأمراض الأكثر فتكاً في الغرب. وقد أفادت دراسة أمريكية أن تناول النساء اللاتي وصلن إلى منتصف العمر جرعات صغيرة من الأسبيرين بانتظام يمكن أن يخفض خطر إصابتهن بالسكتة الدماغية. وأما من تجاوزن الــ 65 عاماً، فإنه قد يمنع إصابتهن بالسكتة الدماغية والنوبات القلبية. وأظهرت نتائج هذه الدراسة عكس ما هو معروف عن مفعول الأسبيرين بالنسبة للرجال، إذ تبين أن فوائده في منع السكتة الدماغية محدودة وأن له قدرة كبيرة على منع المشكلات القلبية. وتكون النساء عرضة للإصابة بالسكتة الدماغية نسبياً أكثر من الرجال، في حين يصاب الرجال بالنوبة القلبية أكثر من النساء.
وكشفت دراسة أخرى أن الأسبيرين يقلل بدرجة كبيرة المخاطر الصحية التي يتعرض لها الذين تُجرى لهم عمليات لتغيير شرايين القلب، ويُؤمل في هذا الاكتشاف إنقاذ حياة نحو 25 ألف مريض سنوياً. فبحسب هذه الدراسة، وُجد أن إعطاء المرضى الأسبيرين في غضون 48 ساعة بعد العملية قلل معدل الوفيات بنسبة %68 ومعدلات الإصابة بالجلطات الدماغية بنسبة %62، وخفض احتمال وقوع مشكلات في الكلية بنسبة %62، كما خفض إمكانية الإصابة بأزمة قلبية للنصف تقريباً.
بعد ثبوت فائدة الأسبيرين في تقليل أو منع حصول تداعيات ومضاعفات أمراض شرايين القلب، طرح نفسه كدواء محتمل الفائدة كأحد عناصر الوقاية من الإصابة بأمراض شرايين القلب لمن لم تسبق إصابتهم بها، بعد أن فصلت كثير من دراسات المراجعة في شأن ذلك.
ويعتمد الأساس في النصيحة الطبية بتناول الأسبيرين أو عدم تناوله لمن لم تسبق إصابتهم بأمراض شرايين القلب على النسبة المئوية لاحتمال إصابتهم بها خلال السنوات العشر القادمة من عمرهم. ويعتمد تحديد هذه النسبة على مقدار العمر وضغط الدم ونسبة الكوليسترول والتدخين. والسبب في هذا التفصيل هو أنه كما للأسبيرين فوائد، فإن له آثاراً جانبية. والضابط في استخدام أي دواء هو حينما تغلب الفائدة المحتملة للتناول على الضرر المحتمل لذلك. فلو تجاوزت النسبة %15 فاحتمال الفائدة يغلب على الضرر، ولذا يُنصح الشخص بتناول الأسبيرين على سبيل الوقاية من تداعيات أمراض الشرايين، وإن كانت أقل من %6 فالضرر يغلب على الفائدة ولا يُنصح الشخص بتناوله للغاية المذكورة. كما أنه لا بد من الأخذ في عين الاعتبار وجود أمراض أخرى كدرجات الفشل الكلوي وغيرها التي قد تزيد من احتمال التعرض لتداعيات أمراض الشرايين، وهذا مما يُراجع فيه الطبيب.
ويمتد دور الأسبيرين كدواء وقائي لأبعد من ذلك. فقد أظهرت الدراسات أن تناول جرعة صغيرة من الأسبيرين بانتظام يقلل مخاطر الإصابة بسرطان الفم والحلق والمريء بنحو الثلثين، وأن تناول حبة واحدة منه في السنة يخفض خطر إصابة الجزء السفلي من المعدة بالسرطان بمعدل الثلث، وتناول حبة منه أسبوعياً قد يخفض هذا الخطر بحدود النصف تقريباً. وأثبتت دراسات أخرى مفعوله الوقائي المحتمل على سرطان الجلد بأشكاله المختلفة وسرطان المبيض وسرطان الثدي الذي يقع في المرتبة الثانية من قائمة أكثر الأمراض السرطانية شيوعاً بين النساء بعد سرطان الرئة. وبحسب نتائج إحدى الدراسات يقلص الأسبيرين احتمال الإصابة بسرطان الثدي بنسبة %50. وتُشير الدراسات أن تناوله لفترة طويلة يقلل نسبة حدوث الساد العيني (الكتاركت)، وبالتالي من نسبة حدوث العمى.
هذه إشارة إلى بعض فوائد الأسبيرين المكتشفة حديثاً، إضافة إلى المعروفة منها. وتُشير الإحصاءات الحديثة إلى نشر ألفي دراسة علمية سنوياً عن الأسبيرين و12 ألف تحقيق علمي. وتصنع شركات الأدوية 40 ألف طن من الأسبيرين سنوياً، أي بمعدل مائة طن في اليوم. وهناك مائة مليون شخص يتناولون الأسبيرين حول العالم يومياً.
لو لم يكن للصدفة في بعض الأحيان من دور كبير في تطور الأسبيرين، لما أبصر هذا العقار النور يوماً. ولو أنه لم يناضل في غمرة المنافسة التي تسيرها الرغبة في تحقيق الربح، ما كان له أن يعمر طويلاً ويكشف عن أسراره العلاجية المهمة. لقد بات الأسبيرين دواءً لكل إنسان، وعلاجاً غير مكلف تطال فوائده أكثر من داء، حتى أنه يصعب علينا تصور ما قد تكون عليه الحياة من دونه. وقليلة هي ثمار العبقرية البشرية التي يمكن أن نقول فيها أشياء مماثلة.
التأثيرات الجانبية للأسبيرين
رغم الفوائد الكثيرة للأسبيرين إلا أنه لا يخلو من الآثار الجانبية، وتتفاوت تلك الآثار بحسب كمية الجرعة وعدد الجرعات. فكلما زادت كمية الجرعات أو عددها زادت الآثار الجانبية، وأهمها اضطرابات المعدة على هيئة غثيان وإحساس بحرقة في المعدة، وقد يصل الأثر إلى قرحة في المعدة. ويعود سبب ذلك إلى تثبيط الأسبيرين لمادة البروستغلندين التي تساعد على زيادة تصنيع المادة المخاطية التي تحمي المعدة من الوسط الحمضي الذي تعيش فيه؛ ولذلك يُنصح بعدم تناوله على معدة خالية، أو تناوله مع مضادات الحموضة أو مع الحليب. كما يُفضل عدم تناول الأسبيرين مع القهوة والشاي؛ لأن ذلك يساعد على تهيج جدران المعدة.
قد يتسبب العلاج بالأسبيرين لفترة طويلة ولو بجرعات صغيرة بالإصابة بنزيف داخلي. والجرعات الزائدة منه تُسمم الجسم مسببة الصداع وضعف السمع وطنيناً بالأذن وعتمة في الرؤية وزيادة في إفراز العرق وإحساساً بالعطش وغثياناً وقيئاً مع اضطراب في عملية الهضم وآلام بالجزء العلوي من المعدة؛ وقد يتطور الأمر للهلوسة والتشنجات مؤدياً للوفاة في حال عدم التدخل الطبي أو الإسعاف الأولي. وتراوح الجرعات العلاجية للأسبيرين بين 10– 15 ملغ / كجم من وزن الجسم، وتبدأ الجرعات السامة من 150 ملغ / كجم من وزن الجسم.
ولا يستخدم الأسبيرين للأطفال دون وصفة طبية؛ لأنه قد يصيبهم بمتلازمة «راي»؛ وهي مرض يهدد حياتهم نتيجة تعاطيهم الأسبيرين أثناء إصابتهم بالأمراض الفيروسية أو المعدية كالأنفلونزا والجديري المائي. وتظهر أعراضها في مرحلة التعافي من المرض الفيروسي أو المعدي. تصيب متلازمة «راي» الكبد والمخ والجهاز العصبي، ومن يصاب بها قد يموت أو يعيش بتلف دائم بالمخ.
عندما يشتد الألم على أي شخص يسارع إلى تعاطي مسكنات الألم التي يباع أكثرها في الصيدليات دون وصفة طبية. وبالرغم من لجوء غالبية المرضى إلى المسكنات، تؤكد الدراسات أن الاستخدام المنتظم والطويل الأمد لها يضر كثيراً على المدى البعيد، ويؤثِّر على الصحة سلباً.
يقول سيمور داياموند، مؤسس عيادة داياموند لآلام الرأس في شيكاغو، والرئيس التنفيذي للمؤسسة الوطنية لآلام الرأس: «أعتقد أن الاستخدام المفرط للمسكنات يخفض من مستوى السيروتونين وهي مادة كيماوية في الدماغ. ومن شأن هذا أن يحدث تغييراً بشأن الكيفية التي يشعر بها الشخص بالألم». فالاستخدام المفرط للمسكنات يبدو أنه يخفض من قدرة الشخص على تحمل الحد الأدنى من الألم، ولذا يبدأ هؤلاء الأشخاص بالحاجة للمسكنات كي يشعروا بأنهم طبيعيون.