حياتنا اليوم

على مائدة الطعام

سواء كانت طاولة من الخشب الإسباني الفاخر، أو بساطاً دائرياً من الحصير الفقير، أو قطعة من النايلون الرقيق.. تعددت الأصناف والاجتماع واحد. ففي أمس قريب، كان اجتماع العائلة على مائدة الطعام -أو سفرة الطعام في الدارج المحلي- مرة أو مرتين كل يوم، مفصلاً أساسياً من مفاصل الحياة اليومية في حياة العائلة العربية، واستراحة رغيدة في رحلة اليوم الأسري. ويبدو هذا التحلق التلقائي الحميم على صحفة الأكل ممارسة غذائية خالصة، إلا أنه من حيث لا نعلم، أثبت دوراً اجتماعياً وتربوياً ونفسياً جوهرياً في حياة الأسرة، نتلمسه اليوم إذ يتقلص حضوره في حياتنا، وتأثيره تبعاً لذلك.

لئن جاز لنا أن نتحدث عن مائدة الطعام بوصفها «فرداً» من أفراد الأسرة، فإن هذا الفرد كان يستمد حضوره من نسق حياة هادئة وقليلة التفاصيل، توفر الاستقرار الكافي لاجتماع الأسرة. فقد كان لهذا الفرد الفضل في توفير محطة للتزود بالدفء الأسري، و«ديوانية» مختصرة يلتقي فيها أفراد العائلة متجاورين متقاربين، تاركاً كلٌ منهم برنامجه الخاص، ليحضر هذا الالتفاف الحميم، يخبر كل منهم عن أخباره، أو يستمع لها. وكما أنه فرصة لغذاء البدن، فإن الوجبة العائلية كذلك فرصة لتغذية الوشائج الأسرية بين أفرادها، ووقفة للتزود بالوقود لدعم الروابط الإنسانية الخاصة بين الأخ والأخت، الوالدين والأبناء، والزوجة والزوج، حين تدور بينهم أحاديث منوعة كتنوع الطعام نفسه، بين حديث مالح وآخر حلو، وكلام مر أو حامض.

ويبدو الحديث عن الفوائد الغذائية والصحية لهذا المظهر والقيم الغذائية المثالية التي تثبتها الدراسات اليوم أمراً بديهياً وغنياً عن البيان. فالوجبة المعدة في المنزل فضلاً عن كونها أوفر حظاً في سلامتها كونها تُعد بشكل خاص وبعناية كافية، فإنها أيضاً تتيح مراعاة الحاجات الغذائية لكل فرد له احتياجه الخاص من الأطفال أو الكبار أو المرضى. كما توفِّر للجميع فرصة الحصول على غذاء صحي وحسب الرغبة، وليس محاصراً بـ «قائمة» طعام لا خروج منها بل وتُعد بكميات كبيرة كما يحدث في المطعم مثلاً. ومن المفارقة أن دراسة أمريكية أشارت إلى أن الأشخاص الذين اعتادوا على الوجبة العائلية اليومية في صغرهم يتمتعون في شبابهم بعادات غذائية أفضل من أولئك الذين تخلو طفولتهم من اجتماع الوجبة العائلية.

ويوفِّر الجلوس على مائدة الطعام المناخ التربوي المفيد لتعليم الأطفال والصغار بعض العادات الصالحة وآداب الأكل والشرب، بل وآداب الكلام والاستماع، وهم يشاهدون مَنْ هم أكبر منهم يمارسون تلك العادات أمامهم في شيء من التربية بالقدوة، ولعل من أجمل تلك اللمحات التربوية لاجتماع العائلة على مائدة الأكل، الالتزام العسكري أحياناً في وقت مُحدَّد متعارف عليه، وأحياناً من دون نداء، بموعد الطعام والاجتماع إليه، مما ينظِّم يوم الأسرة ويضبط إيقاعه، ويمثل تدريباً يومياً للأبناء والصغار وحتى الكبار يعلِّمهم الانضباط واحترام الوقت، ففي الساعة المحددة ثَمَّ غداء ينبغي حضوره، والتأخر عنه يعني فاتورة من الجوع تدفعها المعدة لقاء تخلف صاحبها عن موعده، وكذلك الحال في العشاء، ما يجعل الإيقاع في البيت كله رغم اختلاف برامجه متوافقاً وملتزماً.

حسناً.. لا بد من الإقرار بأنه ليس هناك تقارير ميدانية تؤكد انحسار دور الوجبة العائلية في حياتنا اليوم.. إلا أنه من الجلي أن معطيات يومية جديدة أخذت طريقها إلى يومنا لتزاحم هذا الحضور الأصيل لهذا النشاط الأسري، ويكاد ينعكس هذا الانحسار على الروابط الأسرية ذاتها، والعلاقات الخاصة بين أفرد البيت الواحد.

إن مائدة الطعام اليوم تقف بحزن على أطلال العائلة المجتمعة حولها بالأمس، حين لم يكن خيار المطاعم وتوصيل الطلبات التي راج سوقها متاحاً. إذ لم يعد مستغرباً أن ترى مشهداً يُطرق فيه باب المنزل مرتين في نفس الوقت، ثم تجد على الباب رجلين يوصلان طلبين مختلفين لنفس البيت، لشخصين مختلفين من نفس العائلة لا يعلم أحدهما عن الآخر.

أخذت الطاولة اليوم هيئة قاعات الاحتفالات الموسمية، فلم تعد تقوم بدور يتجاوز المناسبات الخاصة والاجتماعات العائلية الموسعة التي تحدث بين الحين والحين. وهكذا أصبح اليوم العائلي يمر من دون اجتماع حقيقي، ومن دون لقاء صافٍ من ارتباطات الحياة وصخبها وتفاصيلها.

أضف تعليق

التعليقات