الثقافة والأدب

هل يكفي الإبداع الثقافي للعيش الكريم؟

  • 69c-(2298677741_6d00e0d7ba_o-gray)
  • 70a-(79340-050-7C62816E)
  • 72-(02)
  • 73-(DSC_7886-gray)
  • 74a-(ernest-hemingway)
  • 74b-(fitzreading)
  • 66-(42-18533167)
  • 68_69-(bn-Beshir-Agha-alcohol)
  • 69b-(13_news-gray)

لماذا ترتبط صورة المبدع عموماً بصورة المغامر بلقمة عيشه، حتى أن البعض يراه في العمل الفني والثقافي إعلاناً لما يشبه حياة الفقر؟
وكيف يمكن توفيق هذه الصورة النمطية مع ما نسمعه أحياناً عن أدباء ورسامين جمعوا ثروات من أعمالهم الإبداعية، وخاصة في بعض البلدان الغربية، مثل أمريكا؟
فيما يأتي مساهمتان. في الأولى عرض لواقع الحال واختلافه ما بين الغرب وأمريكا من جهة، والبلاد العربية من جهة أخرى. وفي الثانية وجهة نظر تحليلية تبحث عن الحلقة المفقودة بين المبدع العربي وبين إمكان اعتماده على إبداعه للعيش الكريم.

مَنْ أصاب الثروة ومَنْ لم يصب
إبراهيم العريس

واحدة من أكثر الحكايات المتداولة للتعبير عما يسمى «العصامية الأمريكية» هي حكاية الكتَّاب الكبار، ولاسيما منهم الروائيون. وتقول الحكاية المشتركة في سيرهم إن الواحد منهم يتقلَّب منذ مراهقته في عدد كبير من المهن التي تكون عادة متواضعة، قبل أن يصبح كاتباً بالفعل، وينال من النجاح والشهرة نصيباً كبيراً. وفي العادة ما إن يصبح الواحد منهم صاحب اسم كبير ويتخطى أعماله الأولى، حتى يتفرغ بشكل نهائي للكتابة لتتحول مهنته السابقة إلى مجرد ذكريات، وجزء من سيرة تعطي صاحبها سبباً للفخر طوال حياته. تلك كانت حال همنغواي وفوكنر، بين آخرين.

في هذه الحال الأمريكية، يصبح الشخص المعني متفرغاً للكتابة، إذ إن انتشار الأعمال الأدبية في العالم الأمريكي يضمن للكاتب أن تصبح الكتابة مهنته، حتى وإن كان يحدث له أن ينوِّع على كتابة الرواية، كأن يصبح كاتباً كبيراً في الصحافة، أو مؤلف سيناريوهات في هوليود، يغرف من خيرات هذه الأخيرة، ثم بعد ذلك يبصق في صحنها. قائلاً إنها دمَّرت حياته الأدبية (كما في حال فوكنر نفسه أو سكوت فيتزجيرالد أو شتاينبك أو حتى رايموند تشاندلر…). المهم في الأمر أن الحال الأمريكية تتيح للكاتب، بعد أن يصل، فرصاً كبيرة لامتهان الكتابة، ومن دون أن يضطر إلى ممارسة مهن أخرى. ومن هنا ينتفي هناك ذلك السؤال الخالد: هل الإبداع مهنة؟ أجل، يقول الأمريكيون، طالما ثمة سوق يدعم الكاتب أو المبدع بشكل عام.

اختلاف الحال عربياً
غير أن هذه ليست الحال في كل مكان وزمان. ولا سيما في العالم العربي، حيث ندر للمبدعين أن تمكنوا من العيش بفضل مردود إبداعهم، شعراء كانوا أو روائيين، أو أي شيء من هذا القبيل. حتى وإن كنا نعرف أنه مع استشراء «جماهيرية» الفنون في القرن العشرين، صار في وسع الكثير من المبدعين أن يعيشوا من أعمالهم. ينطبق هذا على الموسيقي الذي يمكنه -وغالباَ مع بعض التنازلات- أن يعيش بفضل تلحينه الأغاني أو كتابة موسيقى الأفلام، كما ينطبق على مبدعي الفن السينمائي وخاصة حين يخوضون السينما التجارية. ثم ينطبق أيضاً على الرسامين ولاسيما بعد فورة جعلت للمتاحف العامة أو الخاصة وجوداً، وفورة أخرى حدَّثت الحياة المنزلية لدى الطبقات العليا في المدن العربية خلال النصف الاول من القرن العشرين، فأدت إلى اقتناء اللوحات.

في المقابل، ظلَّ الشعراء وكتَّاب القصة والروائيون عاجزين عن تحقيق تلك المعادلة، إلا في حالات نادرة. وفي هذا الإطار يمكننا القول إن نجيب محفوظ، الكاتب الروائي العربي الكبير ظل أكثر من أربعين سنة يكتب أعظم الروايات وينشرها، من دون أن تتمكن تلك الروايات من تأمين وسائل العيش له.

العمل في مجال آخر
وهكذا، قبل فورة ترجمة رواياته وجائزة نوبل وقبل إقبال السينما على شراء رواياته لتحويلها أفلاماً، ظلت الوظيفة الحكومية -كموظف في وزارة الأوقاف أولاً، ثم في الهيئات السينمائية في مصر- مصدر دخله. وكانت تلك أيضاً حال كتَّاب كبار آخرين مثل طه حسين، حتى وإن كان الناس اعتبروا محفوظ أو حسين كتَّاباً في المقام الأول. وفي المقابل، نجد مبدعين أخر في مصر وفي غيرها من البلدان العربية، يجمعون الكتابة إلى ممارسات مهنية أخرى كانت هي الأساس لديهم، ومن هؤلاء مثلاً يوسف إدريس الذي هو في الأصل الدكتور يوسف إدريس. ذلك أن صاحب «البيضاء» و«العسكري الأسود»، كان طبيباً أولاً وأخيراً. وإذا كان الطب قد أمَّن ليوسف إدريس حياة كريمة ذات مدخول مادي طيب، يفوق ما أمَّنت له كتبه وحتى المسرحيات التي كتبها، فإنه أمَّن له في الوقت نفسه فرصة رائعة لمراقبة البشر وآلامهم، ضعفهم وقوتهم، أحلامهم الغامضة وبؤسهم أمام الموت والمرض. وسوف نرى هذا كله معكوساً في أدب يوسف إدريس الذي يمكن اعتباره هنا طبيب الأدب أو أديب الأطباء.

مهما يكن، فإن يوسف إدريس وازن في أسباب عيشه بين كونه طبيباً وكونه كاتباً. وهو في هذا يقتفي مثلاً لشعراء كبار، في مصر وغيرها، مثل إبراهيم ناجي، كانوا بدورهم أطباء عاشوا من هذه المهنة في وقت أنفقوا فيه جهودهم ومالهم على مهنة… الإبداع.

وإذا كان يوسف إدريس قد احتذى في وضعيته وإبداعه وممارسة الطب حذو مبدعين أجانب، في المزج بين نجاح المهنة العملية وازدهار مهنة الكتابة، فإن من أشهر الكتَّاب الفرنسيين الذين كانت تلك حالهم أيضاً، الروائي الفرنسي الكبير لويس فردينان سيلين صاحب رواية «سفر إلى آخر الليل»، التي ما كان في إمكانها أن توجد لو لم يكن صاحبها طبيباً راقب بدوره الناس وهمومهم.

الشعر والدبلوماسية
في المقابل، بقي حال الشعراء ليس كغيرهم في هذا الإطار. فإذا استثنينا شعراء عرب أو غير عرب، من الذين عرفوا كيف يعيشون حياة مزدهرة بفضل رواج شعرهم (نزار قباني على سبيل المثال)، فإن الشعراء بشكل عام ما كان أبداً في إمكانهم أن يعتاشوا من كتابة الشعر، ما أحوجهم دائماً إلى مهن أخرى، إن لم يكونوا من النوع البوهيمي الفوضوي الذي يرضى بالعيش كما اتفق. لكن الغريب في حالة كثير من الشعراء عربياً وعالمياً هو أنهم ردفوا دائماً مهنتهم كشعراء، بمهن دبلوماسية أو حكومية بشكل عام. فمثلاً شاعران سعوديان كبيران مثل غازي القصيبي وعبدالعزيز خوجا، شغلا تباعاً منصبي سفيرين لبلدهما، ثم وزيرين دون أن يتوقفا ولأسباب دبلوماسية عن كتابة الشعر، علماً بأن شعر خوجا على الأقل ينطبع بطابع البوح، الذي يتناقض في تعريته الروح مع موجبات العمل الدبلوماسي أو الوزاري. ولعل اللافت أن ما ينطبق على القصيبي وخوجا هنا ينطبق على عدد من كبار الشعراء العالميين من دون أن نعرف كنه الخلفية التي جعلت هذا التشابه الغريب ممكناً.

فالشاعر الفرنسي الكبير سان جون بيرس، كان أيضاً سفيراً لبلده فرنسا في الصين بين بلدان أخرى، ومواطنه بول كلوديل كان بدوره سفيراً. وفي أمريكا اللاتينية كان الشاعر الكبير بابلو نيرودا سفيراً لبلده التشيلي في أوروبا وفي المكسيك خاصة. كما كان نزار قباني أيضاً هو الآخر، ولفترة من حياته، سفيراً لبلده سوريا في إسبانيا.

ترى هل عيِّن هؤلاء جميعاً وغيرهم لأنهم كانوا شعراء… أم لخبرات أخرى جمعوها في حياتهم كشعراء، أم لأسباب أخرى غير هذا وذاك؟

كل الإجابات ممكنة هنا. ويبقى في المحصلة الأخيرة أن هؤلاء المبدعين لم يعيشوا في أغلبيتهم الساحقة من إبداعهم بل من مهن أخرى، فالإبداع الحقيقي ليس الذي يزدهر في العصر الذي يسميه الفيلسوف والتر بنجامين في عصر الإنتاج الجماهيري المكثف والميكانيكي للفنون، لا يطعم خبزاً… أو هو على الأقل في عالمنا العربي لم يكن يطعم خبزاً حتى جاءت فورة تراكم الثروات، ولنقل أيضاً وصول متنورين متنوعين إلى قمة الحكم أو الثروة. فإذ بالجوائز والتكريمات تنهال على المبدعين… وإذ بالصحف المزدهرة تموِّل بعض حاجاتهم، ثم إذا بالتلفزة تجعلهم ضيوفاً دائمين تعطيهم بكرم ما لم تعطهم إياه حتى مهنهم البديلة. هذا إن لم نتحدث عن مبدعين عرفت سلطات بلادهم كيف تمول حياتهم فلا يحتاجون إلى أية ممارسة لأية مهنة حتى يعيشوا (محمود درويش الذي إلى ازدهار شعره عرفت السلطة الفلسطينية كيف تمكنه من عيش حياة كريمة)… ترى هل يقول لنا هذا كله، إن نهاية القرن العشرين وبداية القرن الذي يليه أعادت بشكل أو بآخر إلى المبدعين إمكانية أن يعيشوا من إبداعهم؟

يقيناً أن الجواب هنا لن يكون سوى جواب مبهم. إذ في مقابل هذه الأسماء القليلة التي ذكرناها، هناك في الواقع مئات بل ألوف المبدعين من الذين غمرهم الفقر والجوع حتى… كان هذا في الماضي ولا يزال كذلك إلى اليوم. ولعل الصورة التي تخطر في البال هنا إزاء هذا الكلام الأخيرهي صورة الرسام الهولندي -الذي عاش ورسم في فرنسا خلال السنوات العشر الأخيرة من حياته في ثمانينيات القرن التاسع عشر- فنسان فان غوغ. فهذا الرسام الكبير، والذي أنتج خلال حياته القصيرة ما يصل إلى الألف لوحة، عاش مريضاً، فقيراً، جائعاً بالكاد يمكن للقروش القليلة التي تباع بها لوحاته أن تمكِّنه من سد رمقه. لو كان هذا الرسام يراقب اليوم أحوال العالم، ما الذي سيشعر به عندما تصله أخبار مئات ملايين الدولارات التي تباع فيها لوحاته؟ هل سيتذكر جوعه؟ لحظات إبداعه الفني؟ خيبته ويأسه من الحياة؟ أم تراه سيتذكر في كل لحظة فرحه في الحياة فقط خلال الأيام التي كان ينجز فيها أية لوحة من لوحاته، قبل أن يغرق بعد ذلك في حزن ويأس قاتلين؟ هل تراه سيقول لنفسه: ليتني مارست إلى جانب مهنة الرسم مهنة مربحة، في انتظار أن يصبح رسمي نفسه مهنة مربحة… بل مزدهرة؟

هنا إزاء هذه الصورة وإزاء الازدهار الذي تعرفه حياة الإبداع -وعلى الأقل في سطحها- هل هناك يا ترى ما يدفعنا إلى التساؤل عما إذا كان ثمة بعد، في زمن الفضائيات المفتوحة والفنون المعولمة واستشراء عصور الاستهلاك -ولا سيما استهلاك الفنون وشتى أنواع الإبداعات- مجال للحديث عن مبدعين يضطرون إلى ممارسة عشرات المهن الأخرى حتى يواصلوا ممارسة هواياتهم الإبداعية؟ بل هل ثمة بعد مجال للحديث عن الفنون وشتى أنواع الإبداعات بوصفها مجرد هوايات، أم صار كل هذا جزءاً من مهن مربحة؟ بل سنختم هنا متسائلين: هل صار الموضوع نفسه الذي نتحدث عنه أصلاً جزءاً من كلام قديم لا علاقة له بالعصور الحديثة؟

نعم.. يمكن انتشال المبدع من الفقر
ناصــر ســعد الأخرس
يتطلب البحث عن حل نظري على الأقل، يسمح للمبدع أن يعيش حياة كريمة من خلال إبداعه فقط، التطلع إلى هذه القضية من خلال نظرتين: نظرة عامة على مجمل الحال في البلدان والفترات التاريخية التي تمكن، ويتمكن، المبدعون من العيش الكريم بفضل إبداعهم فقط، ومن ثم نظرة مدققة من خلال الميكروسكوب على التفاصيل الصغيرة التي تجعل المبدع في فترات تاريخية أخرى وبيئات مختلفة، كما هو الحال عربياً اليوم، يعتاش من عمل آخر، أو يرضى مرغماً بفقره.

شئنا أم أبينا: الإبداع صناعة
لو ألقينا نظرة عامة على الحال الأمريكية مثلاً، التي لا تختلف كثيراً في جوهرها عن حال فن الرسم في أوروبا خلال عصر النهضة وما بعدها، ولا عن حال الأدب الفرنسي بين القرنين السادس عشر والعشرين، لوجدنا أن المبدعين المرموقين اجتماعياً على الأقل، هم الذين تعاملوا مع إبداعهم على أنه صناعة ذات متطلبات جانبية عديدة يجب أن ترافق التعبير عن عبقريتهم.

في الحالة الأمريكية التي كثيراً ما تثير حسد المبدعين في العالم الثالث بأسره، نجد هذه المتطلبات متوافرة بشكل واضح، وهي تتضمن السوق الكبير، وعلى سبيل المثال هناك ثلاثة آلاف مكتبة عامة إضافة إلى مكتبات المدارس والجامعات. وهذا ما يأخذه الناشر بالحسبان عندما يبرم أي عقد مع أي كاتب جديد على عالم الكتابة، طالما أن هناك بضعة آلاف من النسخ المباعة سلفاً. وهذا السوق الكبير منضبط جداً بقوانين ورقابة تحمي فعلياً حقوق الملكية الفكرية بأدق تفاصيلها.

غير أن ما هو أهم من السوق وحجمه وانضباطه، هو في آلية عمله، ووجود حلقة بالغة الأهمية ما بين المبدع وناشر الإبداع والمتلقي لهذا الإبداع، ألا وهو الوكيل الماهر في الترويج، والشرس في انتزاع حقوق المبدع، والذي يلعب دوراً بالغ الأهمية في التسويق وصولاً إلى حد التدخل في مضمون العمل الإبداعي، وتوقيت عرضه على المتلقي، والتمهيد لذلك بالعمل الإعلامي الملائم للرواج المتوقع لهذا العمل وغير ذلك مما يستحيل حصره.

والوكيل هو عموماً إداري، وحقوقي، ومحاسب، يهمه من خلال عمله البارد أن يؤمِّن أكبر رواج تجاري للعمل الإبداعي، لأنه يتقاضى شخصياً نسبة مئوية من هذه العوائد. ودور الوكيل في الترويج للأعمال الإبداعية سواءً أكانت أعمالاً أدبية أو عقود سينمائية أو إحياء حفلات موسيقية، أو حتى حفلات توقيع الكتب، لا يختلف في جوهره عما تقوم به أقسام العلاقات العامة في الشركات الصناعية. أي أن العمل الإبداعي يعامل في مرحلة ما من مراحل إنتاجه المعاملة نفسها التي تعامل بها أية سلعة استهلاكية يُبتغى ترويجها على أوسع نطاق ممكن لجني أكبر قدر ممكن من عوائدها المادية المحتملة. وما علينا إلا أن نعود إلى الحملة الترويجية العملاقة التي رافقت قبل سنوات رواية هاري بوتر والتي شغلت عدداً كبيراً من دور العلاقات العامة دفعة واحدة في عواصم العالم الغربي، مما أدى إلى بيع عشرات ملايين النسخ من الكتاب منذ اليوم الأول لطرحه في الأسواق.

الرومنطيقية نقيض الإدارة
ولو نظرنا إلى المبدعين العرب الذين تمكنوا من العيش الكريم بفضل إنتاجهم، لوجدنا أنهم فقط أولئك الذين أتقنوا لعبة العلاقات العامة، وتعاملوا مع إنتاجهم في مرحلة نقله إلى الجمهور على أنه سلعة (من دون أن تنتقص كلمة سلعة من القيمة الفنية والإبداعية للعمل عندما تكون موجودة فيه).

فالرسامون الذين استطاعوا أن يسوِّقوا أعمالهم بأسعار وبكميات تسمح لهم بالعيش الكريم، هم فقط الذين نسجوا علاقات جيدة ولو مع صاحب صالة عرض فقط (شرط أن يكون صاحب الصالة ذا علاقات اجتماعية جيدة مع عدد كبير من هواة اقتناء اللوحات والمشترين المحتملين).

يروي كاتب عربي ألَّف كتاباً أُقِرَّ كمادة تدريس في إحدى الجامعات، أنه ذهب ذات مرة إلى دار النشر للمطالبة بحقوق المادية، فوجد شقيق أحد كبار الأدباء العرب في القرن العشرين يتوسل إلى الناشر أن يدفع له ثلاثمائة دولار فقط، وهو القسط الشهري المتفق عليه بدل جمع الأعمال الكاملة لشقيقه. فما كان من الكاتب الذي تساءل في سره عما سيلقاه من الناشر طالما أن هذا الأخير يعامِل بمثل هذه الطريقة الأعمال الأدبية الكاملة لأديب عملاق، إلا أن اكتفى بشرب قهوة الضيافة والانصراف من مكتب الناشر من دون الإتيان على ذكر حقوقه، التي لم يحصل على قرش منها بعد عقدين من صدور كتابة.

فثمة خلل كبير وخطير في الوضع العام المحيط بالأعمال الإبداعية في البلاد العربية، يتعلق بالقوانين المرعية الإجراء وتطبيقها فعلاً على الأرض لحماية الملكية الفكرية، ومراقبة أداء دور النشر والمطابع مثلاً، وهذا ما يعرفه الجميع. تماماً كما نعرف ألاَّ تقاليد في المكتبات العامة (الهزيلة أصلاً) تقضي بشراء نسخة من كل كتاب يصدر كما هو الحال في أمريكا مثلاً.

ولكن المشكلة الأخطر من ذلك، والتي قلَّما يدور الحديث عنها تكمن في نظرة المبدع العربي إلى إبداعه.

بشيء من الصراحة، على قسوتها، نقول إن نظرة المبدع العربي سواء أكان شاعراً أو رساماً أو روائياً أو غير ذلك، تتسم برومنطيقية ساذجة إلى حد مخيف. فهو غالباً ما يعتقد أن مجرد ظهور عمله الإبداعي إلى النور، سينتزع اعتراف بيئته بما يكفي ليؤمِّن له النجاح المعنوي، وأن النجاح المادي لابد وأن يعقب النجاح المعنوي.

من المرجح أن هذه النظرة تعود إلى الانتماء الطبقي لمعظم المبدعين العرب. فالكل هو من جيل هو بدوره ابن الجيل الزراعي. ومهما كان العمل الإبداعي الذي ينتجه ابن الجيل الحالي متواضعاً، فإنه يشكِّل بالفعل تطوراً كبيراً عما كان عليه حال الوالد والجد وبيئتهما الزراعية الريفية المتواضعة. ومن المرجح أن هذه النظرة المقارنة عند المبدع إلى اهتماماته ومستواه الشخصي بما كان يمكن أن يكون عليه لولا انهماكه في العمل الثقافي، هي ما يعطيه وهم الإشباع والرضا.. إلى أن يصطدم بالمتطلبات المادية للحياة اليومية.

التغير المطلوب في نظرة المبدع إلى إبداعه هو في أن يتطلع إليه كإنتاج يفترض فيه أن يلبِّي حاجات صاحبه، كما هو مطلوب من أي منتج آخر. فالشعور بالإشباع أو الاكتفاء الذاتي بمجرد اعتراف بعض الأفراد بعبقرية المبدع لايعني غير الجوع لاحقاً.

إن العمل الإبداعي إذا ما شئناه أن يكون عملاً يكفي صاحبه للعيش الكريم، يجب أن يعامل كباقي الأعمال، وأن يولى «الصورة الذهنية والبصرية للمبدع وإبداعه» الأهمية التي تولى لأي إنتاج أو منتج. وهذا ما هو غائب تماماً عن «سوق» الإبداع العربي.

الفردية وطاعون الستينيات
في العمق يمكننا أن نجمل الأسباب التي أبقت الإبداع في البلاد العربية بعيداً عن التحول إلى «صناعة حديثة». وحرمته من الحلقة المفقودة التي يمكنها أن تربطه بالعوائد المادية الكافية للعيش الكريم.

فلو انطلقنا من مثل محدد هو فن الرسم مثلاً، للاحظنا مرحلتين تاريخيتين تمكن فيهما الرسام الأوروبي من العيش الكريم جداً. فمقابل حاله فان غوخ الكاريكاتورية، عاش مئات الرسامين حياة مترفة، وبعضهم من ليوناردو دي فنشي إلى سلفادور دالي مروراً بروبنز وبيكاسو عاش حياة الملوك في قصور. فما بين عصر النهضة الأوروبية والربع الأخير من القرن التاسع عشر، كان الرسامون يرسمون بناءً على طلب، إما من كبار رجال الدين أو من الملك أو كبار الأثرياء والنبلاء. وعندما كان هؤلاء يتلقون طلبات معينة، لم تكن مهمتهم بسط عواطفهم الشخصية على اللوحة، بل تسخير عبقريتهم في تنفيذ الطلب المحدد، والنظر إلى هذا الطلب كمجال لتأكيد العبقرية. وهذا ما يؤكد وجود أمرين: حسن العلاقات الاجتماعية مع الزبائن المحتملين وكبار شخصيات المجتمع، وأيضاً التعامل مع الفن واللوحة كسلعة يعتمد على تبادلها تأمين مورد للعيش الكريم.

بدءاً من الربع الأخير من القرن التاسع عشر وظهور الانطباعية ونظرية الفن للفن، راح الرسامون يرسمون لوحات ينتظرون من يشتريها بعدما زعموا لأنفسهم القدرة على الاستقلال عن طلبات المجتمع والسلطات السياسية والاجتماعية. (وربما كانت مأساة فان غوخ تعود إلى ظهوره في تلك الفترة المفصلية بالذات). وإن تمكن «معظم» الرسامين بدءاً من تلك الفترة من تأمين عيشهم بشكل أو بآخر (غالباً بشكل جيد أو مقبول)، فذلك يعود إلى تنظيم سوق الفن وإدارته في أوروبا كما تدار سوق الأسهم. وتحول اللوحات الجيدة التي يتأكد إبداع صاحبها إلى ما يشبه سندات الخزينة، أكثر من كونها خطاباً أخلاقياً معيناً أو أداة زينة. وتولى التجار تنظيم هذا السوق وضبطه بقوانين وتقاليد بالغة التعقيد، تقوم بالدرجة الأولى على إدارة العلاقات العامة. وهذا ما هو مفقود تماماً في البلاد العربية، وإن وجدت بعض صالات العرض التي يتمتع أصحابها بعلاقات جيدة مع عدد كافٍ من الأثرياء أو الهواة الذين يؤمِّنون بعض الموارد «للمحظوظين» من الفنانين.

غير أن أخطر ما في فردية الفنان التي استوردها من أوروبا ما بعد الانطباعية، هو في سوء تطبيقها الخطير عندنا. وتغذى سوء التطبيق هذا خلال المد اليساري الثقافي الذي شهدته بعض البلدان العربية خلال ستينيات القرن الماضي. ففيما يشبه تفشي الطاعون، تفشت صورة «المثقف الشهيد» (ربما في استيحاء ساذج لصورة الثائر البوليفي الشهير تشي غيفارا، وصور المثقفين الأوروبيين الذين التفوا حوله، كما لا يمكن إغفال الأثر الذي تركته ثورة الهيبيين في هذا المجال). فأسقط المثقف المبدع من حساباته كل شيء غير ما يدور في ذهنه حول محتوى عمله الإبداعي المقبل. فتفشت صورة المثقف البوهيمي، رث المنظر، الراضي بكل مصاعب الحياة، والزاعم (زوراً) ألاَّ شيء يهمه في الدنيا غير محتوى عمله الإبداعي. وعندما يرضى المبدع بمثل هذا الحال لنفسه، لا يمكننا أن نفترض أن الناشر مثلاً سيرجوه أن يقبل منه عوائد كتابه، ولا أن يسعى لترويج هذا الكتاب، طالما أن كل عائداته مهما كانت ضئيلة هي أرباح صافية.

باختصار، إذا كان العمل الإبداعي في أمريكا يدر اليوم، كما الأمس، على المبدع أكثر مما يحتاجه للعيش الكريم، فذلك يعود إلى أن المثقف الأمريكي هو من القلائل الذين لم تصبهم لوثة المثقف الرومنطيقي البوهيمي. بل بقي واعياً إلى واقعه اليومي، واضعاً أمام عينيه هدف تحسين هذا الواقع.

إن الدعوة إلى اعتبار العمل الإبداعي، ولو في جانب منه، نوعاً من «البزنيس» قد تثير حفيظة المدافعين عن الإبداع «النبيل والسامي» الحريصين على بقائه فوق قمة الاهتمامات الإنسانية. ولكن كيف يمكن لهؤلاء أن يفسروا لنا (من دون أن يشتموا الظروف العامة، أو اللجوء إلى اجترار الكليشيهات المعروفة التي تكيل الاتهامات يميناً ويساراً) كيف أن فنانة واحدة (من ضمن العشرات من مثيلاتها)، ذات مستوى هابط حتى القاع، يمكنها أن تجمع ثروة تقاس بعشرات ملايين الدولارات، وتفوق ثروات كل «اتحاد الكتَّاب العرب»؟. هل عندهم جواب غير العلاقات العامة التي تضم جيشاً من المحاسبين والإداريين و»المزينين» الذين يستثمرون جهودهم في المساحة الفاصلة ما بين هذا الفن (مها كان مبتذلاً) والجمهور الذي يتلقاه؟.

أضف تعليق

التعليقات