الثقافة والأدب

حضرة المحترم
الوظيفة من وجهة نظر نجيب محفوظ

يذهب البعض في التطلع إلى الوظيفة إلى حد وصفها بأنها «عبودية القرن العشرين»، في تقييدها لحرية الإنسان في التحكم بأمور عديدة، وحرمانه من مباهج الحياة.
وفي رواية نجيب محفوظ «حضرة المحترم» التي صدرت في العام 1975م، وتقرأها هناء الحمراني*، وصف لحياة الموظف البسيط منذ دخوله السلك الوظيفي، حتى خروجه منه.. محمولاً على الأكتاف.

في مسارها العام، تبدو رواية «حضرة المحترم» أشبه بالمذكرات التي يرويها شخص آخر. فبطلها عثمان البيومي موجود في كل التفاصيل، ولكنه لا يروي الأحداث بنفسه.

واللغة التي يستخدمها نجيب محفوظ بسيطة جداً وسلسلة ومشوقة. لا تضطرك إلى التثاؤب.. أو الوقوف إلى حين استعادة النشاط لفترة قادمة.. بل إنها تحملك على أن تقرأها دفعة واحدة.. وإن فصلك عنها أمر مهم، تعود إليها متلهفاً.. مترقباً نهاية عثمان في رحلته.

تبدأ الرواية بدخول عثمان بيومي بطل الرواية إلى مكتب المدير العام.. أو (القابع وراء المكتب الفخم).. فعثمان يرى في عمله داخل الوزارة رحلة مقدسة (لا نهائية)، وإن كان يطمح إلى أن تنتهي بجلوسه خلف المكتب الفخم. وبين الواقع والحلم تتجلى التفاصيل الحزينة البائسة لذلك الموظف المسكين الذي علقت له الحياة حلمه كجزرة يسعى للحصول عليها. فهو لا يلتفت يمنة ولا يسرة، ولا يفكر بالوقوف برهة ليتأمل كيف آلت به الأيام، وما الذي آل إليه حاله.

ابن حارة الحسيني
ولد عثمان بيومي لأبوين كادحين.. فالأب كان سائق كارو.. «كان في زمانه من رجال الحارة الأشداء. عاش حياة طويلة معتمداً على عضلات ذراعيه وساقيه، يعمل بلا انقطاع ويعاني على المدى شظف العيش والفقر. قوة مهدرة تتغذى على لا شيء ويقهقه في الملمات بلا معنى ولا سبب. ووجد ذات مساء ميتاً حيث يجلس على الفروة، فلم يدر أحد كيف حضره الموت ولا كيف تلقاه هو».

أما أمه.. فقد عملت في كل مهنة لتوفير لقمة العيش لأبنائها. و«كانت ميتتها أدعى للدهشة. كانت تغسل فانطوت على نفسها حتى تقوست وراحت تصرخ من شدة الألم. وجاءت الإسعاف فحملتها إلى القصر العيني وتقرر إجراء جراحة في الأعور قتلت أثناءها».

قبل أن يموت والده قال له متحسراً لأنه زج به في سلك التعليم:
«هأنذا أتركك تلميذاً لا حول له، فمن يسوق الكارو؟ ومن يحفظ البيت؟».
كان دخوله الحكومة بالنسبة للحارة إنجازاً لم يحرزه أحد من أبناء حارته.
قالت له (سيدة) حلم صباه: «أنت الأفندي الوحيد».
فقال بهدوء: «لا قيمة لذلك خارج حارتنا».
«الخارج لا يهم، أما حارتنا فهي حارة الكارو».
ولكن حلم عثمان يتعدى حارة الكارو.. ويتعداها.. ليحلِّق بعيداً.. بعيداً.. حيث المكانة العالية التي تجتثه من الفقر.

قطار الزواج أم قطار الوظيفة
لم تأل أم حسني صديقة والدته وخطَّابة الحارة جهداً في محاولة إقناعه بالزواج. وكانت تعرض عليه الواحدة تلو الأخرى. وكلما تقدَّم به السن، كلما عرضت عليه زوجة تليق بسنه الذي وصل إليه. ولكنه من أجل تحقيق حلمه بالوصول إلى منصب المدير العام تخلَّى عن حلمه بالزواج من «سيدة» حبيبة الصبا.. «لتدخل مملكة رجل آخر وتنطوي فترة من الشباب وتدفن».

ويرفض عرض مديره الأول سعفان بسيوني الذي استضافه في منزله لتناول العشاء في خطة محبوكة لتزويجه من ابنته. ولكن عثمان جاهد في رفض العرض المموه، ودفعه دفعاً بالتعلل بأن في عنقه «صغاراً وأرامل» و«ما أنا إلا ثور معصوب العينين يدور في ساقية».. وهو بالفعل كما قال، ليس لأجل الصغار والأرامل وإنما من أجل كرسي المدير العام!

فبالنسبة له، كان الزواج وسيلة توصله إلى مكانة اجتماعية مرموقة تتيح له القفز عالياً وتجاوز السنوات للوصول إلى مبتغاه، ولكنه ولنسبه الوضيع (ابن سائق الكارو) لم يوفق إلى مثل هذا الزواج المرموق.

ومضى عثمان.. يتعلم ويقرأ.. ويستزيد من كل مورد علم لكي يرتفع درجة فأخرى في سلم الحكومة.. والسنوات تارة تختلس عمره وتنهبه تارات.. و«العمر أسرع من جميع حركات الترقيات».

وتمر السنوات.. ليتجاوز عثمان سن الشباب.. ويفر قطار الزواج ولا يبقى منه إلا الغبار، ليتنبه جزعاً إلى هذا الفرار. «ومن جنونه راح يحاول مغازلة النسوان في الطرقات والباصات بلا خبرة وبلا نجاح، حتى اضطر إلى الكف عن ذلك وهو يقول متأوهاً: ما أضيع العمر!».

يستسلم عثمان، ويتزوج من قدرية المرأة البغي في مفارقة مضحكة مبكية، توضح البون الشاسع بين ما كان يحلم به والعروض التي انهالت عليه سني شبابه.. والصورة البائسة التي تجلت فيها شريكة العمر! ولكن رحلة الزواج لا تنتهي إلى هذا الحد، فها هو يقترن بسكرتيرته (راضية) التي لو قالت له أبي لما أنكر عليها منكر ذلك!

أبو القروش
وفي سبيل الحلم.. أصبح عثمان بسيوني رجلاً بخيلاً، لا ينفق إلا بحساب، ويتقطع قلبه مع كل قرش يودِّعه. «إنه لا ينفق القرش بغير ضرورة ملحة، وفتح حساباً في دفتر توفير البريد مع أول مرتب قبضه، ولذلك لم يخطر على باله أن يغيِّر مسكنه أو حارته أو طعامه».

نهاية الحكاية
تتداعى صحة عثمان، وينطرح في فراشه وما زال قلبه معلقاً بالدنيا.. بـ«راضية» وبـ«المدير العام».. لتتكشف له الدنيا عارية.. بغيضة.. فعمة راضية، تعاتبها على زواجها منه قائلة «ها هي ذي عقبى الطمع وسوء التصرف».

ووظيفة المدير العام تزف إليه أخيراً وهو على فراش المرض.. وكأنها تمد له لسانها ساخرة من حالته. «لعلهم وهبوني الترقية صدقة وهم يعلمون أن الوظيفة باقية لهم». ولم يلامس دفء الكرسي.. ولم يذق حلاوة المنصب الجديد.. بل فارق فراشه إلى الآخرة.

شخصية المواطن المكدود
في قراءة لرواية نجيب محفوظ «حضرة المحترم» تقول الكاتبة راندا رأفت «بالرغم من أن عثمان بيومي شخصية سيكوباتية إلا أنه يعبِّر عن شخصية الموظف الصغير بحرفية شديدة في صفات البخل أو الحرص الشديد على القرش، والتدين في نفس الوقت، أيضاً الغلبة والحياة الصعبة من جميع النواحي والصراعات الداخلية التي تجعل الإنسان أكثر أنانية لأنه لا يصل إلى شيء ولا يجد أنه قد حقق شيئاً ذا بال، وفي نفس الوقت يقنع نفسه بأنه مهم (حضرة محترم).

وإن كانت صفات عثمان تبدو شديدة الوضوح فلا بد وأنها ضرورة فنية لإبراز الصفات، وكأنها خطوط حمراء تحت الكلمة المهمة في الصفحة.

رواية حضرة المحترم بوجه عام تبدو جادة، لكني أرى فيها كثيراً من السخرية من الروتين الحكومي متمثلاً في شخصية عثمان أفندي. ولعل محفوظ اختار للرواية اسماً وهو (حضرة المحترم) تعبيراً عن سخريته. وخاصة أن الموظف كان يطلق عليه أفندي ويكتسب من وظيفته الحكومية احتراماً لدى الناس خاصة البسطاء منهم (هؤلاء الذين يهتم بهم نجيب محفوظ في جميع أعماله)، وبدا أنه يقول للناس هذا هو الأفندي المحترم بحياته الضنك وميتته البائسة. الغريب أن حال الوظائف الحكومية لم تتغير منذ كتبت الرواية عام 1975م، بنفس تعقيداتها الروتينية ودرجاتها الوظيفية التي لا تؤمن بالكفاءة وفساد الموظفين، ومحاولة التذلل لمن هم أعلى أملاً في أن يصبح مثلهم».

شاعرية نجيب محفوظ
وتحدث الكاتب الفلسطيني محمود فهمي عامر عن شاعرية نجيب محفوظ في روايته «حضرة المحترم». فيورد لنا نماذج متناثرة في هذه الرواية تدلل على هذه الشاعرية، ووصف هذه النماذج بالقصائد. والحق أن تلك المقاطع مفعمة بالشاعرية والصور والأخيلة المترفة.. وإن كانت تفتقر إلى الوزن الذي يفرق به بين القصيدة والخاطرة. «ولا يخفى على أحد اهتمام نجيب محفوظ الأكاديمي للفلسفة، والفلسفة وإن كانت أم الفنون كما صنفها الكثير من المثقفين، إلا أنها باعتقادي رفيقة الشعر خلال مسيرته التاريخية بشواهدها الحية في نصوصنا القديمة والجديدة. وهذه الفلسفة كانت المثير الفطري عند نجيب محفوظ لشاعريته الروائية، واعترافه من جانب آخر بريادة الشعر ووجوده القصري مع الأديب العربي أينما غرف من فنونه الأدبية. إن هذه الإشارات ليست وحدها التي تدل على شاعرية نجيب محفوظ، ولكن الدليل المادي هو أقوى البراهين والحجج على تلك الشاعرية، وهي شاعرية ليست مخفية أو تحتاج لخبير في كشفها، بل هي في رواية (حضرة المحترم) واضحة وضوح الشعر نفسه».

ومن تلك المقاطع (الشاعرية) في هذه الرواية:
عرف التاريخ من أقدم العصور حتى قبيل الحرب العظمى
عرف الثورات
ولكنه لم يعشها
ولم يستجب
وقد رأى وسمع ولكنه انعزل وتعجب
لم يحظ بعاطفة واحدة تشده إلى الميدان
ما أعجب اقتتال رجال الدولة الكبار وأتباعهم!
انحصر في الحارة بهمومها المجهولة من الجميع
الوحشية القاسية المتلاحقة
واليوم يعرف لنفسه هدفاً دنيوياً
لا علاقة له في تصوره بالأحداث العجيبة
التي تجري باسم السياسة .

حضرة المحترم..
مقتطفات من الرواية
(1)
كان حمزة السويفي مدير الإدارة يتقدَّم الموكب الصغير، فقال مخاطباً المدير العام:
-هؤلاء هم الموظفون الجدد يا صاحب السعادة..
مر ضوء عينيه على الوجوه، وعلى وجهه ضمناً، فجال بخاطره أنه دخل تاريخ الحكومة، وأنه يحظى بالمثول في الحضرة. وخيل إليه أنه يسمع همهمة من نوع عجيب، لعله يسمعها وحده.. ولما استوفت الفراسة امتحانها الوئيد تكلم صاحب السعادة. تكلم بصوت بطيء وهادئ ومنخفض فلم يكشف عن شيء يذكر من جوهره. قال متسائلاً:
-جميعهم من حملة البكالوريا؟
فأجاب حمزة السويفي: «بينهم اثنان من حملة التجارة المتوسطة».
فقال صاحب السعادة بنبرة مشجعة: «العالم يتقدَّم، كل شيء يتغيَّر. ها هي ذي البكالوريا تحل محل الابتدائية».
اطمأنت القلوب ودارت فرحتها بمزيد من الخشوع، فقال الرجل: «حققوا المأمول منكم بالاجتهاد والاستقامة».
وراح يراجع بياناً بالأسماء حتى سأل عن غير توقع: من منكم عثمان بيومي؟

دق قلبه دقة قوية جداً. وقع نطق الرجل لاسمه من نفسه موقعاً مؤثراً عنيفاً. تقدَّم خطوة مطرقاً وهمس: أنا
يا صاحب السعادة!
-ترتيبك ممتاز في البكالوريا فلم لم تكمل تعليمك؟
صمت.. اضطرب.. لم يدر في الواقع ماذا يقول بالرغم من حضور الجواب في وعيه طيلة الوقت. وعنه أجاب مدير الإدارة كالمعتذر:
-لعلها ظروف يا صاحب السعادة.

سمع الهمهمة مرة أخرى. ولأول مرة شعر بأن ثمة زرقة تخضب الجو، وأن رائحة طيبة غريبة تجول في المكان. ولم يحزنه أن يشار إلى «ظروفه» المعوقة بعد أن تشرف شخصه بعطف صاحب السعادة والتقدير. وقال لنفسه إنه يستطيع أن يحارب جيشاً بمفرده فينتصر عليه. والحق أنه ارتفع وارتفع حتى غاص رأسه في السحاب.. أما صاحب السعادة فنقر على حافة المكتب وقال مؤذناً بالختام: شكراً ومع السلامة.. وهو يغادر المكان قرأ في سره آية الكرسي».

(2)
النار ترعى روحه من جذورها حتى هامتها المحلقة في الأحلام. وقد تراءت له الدنيا من خلال نظرة ملهمة واحدة كمجموعة من نور باهر، فاحتواها بقلبه وشد عليه بجنون.

كان دائماً يحلم ويرغب ويريد، ولكنه في هذه المرة اشتعل وعلى ضوء النار المقدسة لمح معنى الحياة. أما على الأرض فقد تقرر إلحاقه بالمحفوظات. لم يهمه كيف يبدأ.. وهبط إلى مقره الجديد وجناحاه يرفرفان، يشق طريقه إلى بدروم الوزارة. طالعته قتامة، ورائحة أوراق قديمة، ورأى سطح الأرض في الخارج عند مستوى رأسه من خلال نافذة مصفحة. وامتد البهو أمامه. تتلاصق على جانبيه دواليب شنن، وصف طويل منها يشقه شقاً طولياً. على حين استقرت مكاتب الموظفين في ثغرات بين الدواليب. ومضى وراء موظف إلى مكتب يستعرض تجويفاً كالمحراب في الصدر، جلس إليه رئيس المحفوظات. سار وراء الموظف بتشتته وذهوله وانفعالاته وهو يقول لنفسه: اللانهاية هي ما ينشد الإنسان.

وقدَّمه الموظف إلى الرئيس:
-عثمان أفندي بيومي الموظف الجديد.
ثم قدَّم الرئيس إليه قائلاً:
-رئيسنا سعفان أفندي بسيوني..

رأى في الوجه قرابة طبيعية كأنما كان في الأصل من مواليد حارته. وأحب عظام وجهه البارزة وجلده الغامق المشدود وشعر رأسه الأبيض المشعث، وأحب أكثر نظرة عينيه الأليفة الطيبة النزاعة لعكس معنى الرياسة بلا جدوى. ابتسم الرجل كاشفاً عن أقبح ما فيه، أسنان سود مثرمة، وقال:
– أهلاً بموظفنا الجديد، اجلس..

وراح يقلب في صور أوراق تعيينه ثم قال:
-أهلاً.. أهلاً.. الحياة يمكن تلخيصها في كلمتين، استقبال ثم توديع..

وقال عثمان في نفسه: ولكنها رغم ذلك لا نهائية.. وهفت عليه ريح خفيفة مجهولة مليئة بجميع الاحتمالات، فقال إنها لا نهائية ولكنها في حاجة إلى إرادة لا نهائية كذلك. وأشار الرئيس إلى مكتب خالٍ متآكل جلده منجرد اللون ملطخ ببقع حبر باهت وقال:
– مكتبك، تفحص الكرسي بعناية فإن أحقر مسمار قد يهتك بذلة جديدة.

فقال عثمان:
– بذلتي قديمة جداً والحمد لله..
فواصل الرجل تحذيره:
– واقرأ الصمدية عندما تفتح دولاباً من دواليب شنن، فقبل العيد الماضي طلع علينا من أحد الدواليب ثعبان
لا يقل طوله عن متر..
وضحك حتى سعل ثم استدرك:
– ولكنه لم يكن من نوع سام..
فتساءل عثمان بقلق:
– وكيف نفرق بين السام وغير السام؟
– عندك فرَّاش المحفوظات فهو أصلاً من أبو رواش وهي بلدة الثعابين..

وتناسى ذلك وعده مزاحاً.. وراح يلوم نفسه كيف فاته أن يرى بكل عناية حجرة صاحب السعادة المدير العام، كيف فاته أن يملأ عينيه من وجهه وشخصه؟ كيف لم يحاول أن يقف على سر السحر الذي يخضع به الجميع فيجعلهم طوع إشارة منه؟ هذه هي القوة وهي الجمال أيضاً. هي سر من أسرار الكون، على الأرض تُطرح أسرار لا حصر لها لمن له عين وبصيرة. إن الزمن قصير بين الاستقبال والتوديع ولكنه لا نهائي أيضاً. الويل للذي ينسى هذه الحقيقة. ثمة أناس لا يتحركون مثل سعفان بسيوني. الرجل الطيب التعس. إنه يترنم بحكمة لم يتعلم منها شيئاً. كذلك كان أبوه عم بيومي.

هناك طريق سعيدة تبدأ من الدرجة الثامنة وتنتهي متألقة عند صاحب السعادة المدير العام. هذا هو المثل الأعلى المتاح لأبناء الشعب ولا مطمح لهم وراء ذلك. تلك هي سدرة المنتهى حيث تتجلى الرحمة الإلهية والكبرياء البشري.. ثامنة.. سابعة.. سادسة.. خامسة.. رابعة.. ثالثة.. ثانية.. أولى.. مدير عام. معجزتها تتحقق في اثنين وثلاثين عاماً، وربما تحققت في أكثر من ذلك. أما الساقطون في وسط الطريق فلا حصر لهم. إن النظام الفلكي لا يطبق على البشر وبخاصة الموظفون منهم.. والزمن يستكين بين يديه كطفل وديع ولكن لأنه يشتعل، هذا كل ما هنالك. ويخيل إليه أن النار المتقدة في صدره هي التي تضيء النجوم في أفلاكها. نحن أسرار لا يطلع على خباياها إلا خالقها. وقال له سعفان أفندي بسيوني:
– ستُدرب أولاً على الوارد فهو أسهل.
ثم وهو يضحك:
– على كاتب المحفوظات أن يخلع جاكتته وهو يعمل، أو أن يحيك لكوعه كمامة من القماش تقيه شر الغبار والإكلبسات.
كل ذلك يسير، أما العسير حقاً فهو كيف نتعامل مع الزمن.

(3)
في مسكنه حجرة وحيدة ومرافق. يرى نفسه، يتجسد له معنى حياته. إنه يعيش متفتح الحواس مرهف الوعي ليتزود بكل سلاح. ومن نافذته الصغيرة يرى وطنه -حارة الحسيني- كأنها امتداد لروحه وجسده، حارة طويلة ذات منحنى حاد، مشهورة بموقف للكارو ومسقى للحمير. البيت الذي ولد ونشأ فيه تهدم. وقامت موضعه باحة صغيرة لعربات اليد. قليل من مواليد الحارة من يبرحها بصفة نهائية إلا للقبر.

يعملون في مواقع كثيرة، في المبيضة.. الدرَّاسة.. السكة الجديدة.. أو فيما وراء ذلك، ولكنهم يرجعون إليها آخر النهار. ومن خواصها الحميمة أنها لا تعرف الهمس والنجوى، أصواتها مرتفعة جداً، متوترة بين الحكمة والبدائية، ومن بينها صوت قريب قوي خشن لم يخلخله الكبر، صوت أم حسني صاحبة البيت. إن أحلام الأبدية جد مرهقة، ولكن ماذا كان بالأمس؟ وماذا يكون اليوم؟ خليق بمثله ألا يعرف المستحيل. وخليق به ألا يترك نفسه للتيار بلا خطة. وخطة محكمة.

أضف تعليق

التعليقات