الثقافة والأدب

الشّعرُ بالتوصية..
بين المسابقات والجوائز

يعود مفهوم السباق في الفنون والرياضة إلى عصور قديمة جداً، وكانت عمليات السباق مصحوبة بطقوس تعطيها بعداً يتجاوز السباق نفسه، ليصل إلى ضرورة تنشيط مخيلة الإنسان، مشاركاً ومتفرجاً، بل لقد كانت السباقات هي بحد ذاتها طقوساً.

مع تقدّم وتطوّر عقل الإنسان وحساسيته، أصبح قادراً على تطوير سلوكه القديم وتحديثه حسب اللحظة المعرفية التي يعيشها، وضمن هذا المجال دخل مفهوم السباق فيما يتعلق بالشعر فضاءً جديداً لم يكن متاحاً له فيما مضى. خاصة مع انبثاق أدوات إعلامية حديثة استثمرها الإنسان على جميع الأصعدة. وبات الحديث منذ عقود وارداً عن جوائز في مضمار الشعر وغيره. وعلى الذي يستحق الجوائز أن يدخل ميدان المسابقات، التي صارت كنوع معاصر من إحياء مفهوم السباق القديم. فكيف يصل المتسابقون إلى مراتبهم؟ ومن يحدّد آلية الوصول؟ وهل تقدم العملية على أحسن وجه، أي هل يُعطى كل من يشارك في المسابقة جائزته التي يستحقها؟

تشكل هذه الأسئلة مشكلة لصيقة بآليات المسابقات التي تؤسَّسُ لها لجان تحكيم مختلفة تقرر هي في النهاية من هم الفائزون… ومن المفترض أن تكون الجائزة على مقدار الجهد والنوع الذي يقدِّمه ويمارسه المتسابق، ومن المفترض أن ينظر التحكيم في القصائد والدواوين المقدَّمة على أنها نشاط شعري بحت، نظرة لا تشوبها شائبة، محتكمين في ذلك إلى ماهية الشعر وطبيعته وحدها، دون أي اعتبار آخر، لأن التنافس ينبغي أن يحقق غايته النبيلة في تقدير وإبراز أصحاب الطاقات والمواهب الشعرية الخلاقة العالية، ليقدِّمها للملأ. ولكن الأمر لا يتم على هذا النحو… وتدخل عوامل متعددة في تشكيل المسألة، عوامل تجعلُ من نفسها سلطةً وصية على الشعر ولا تسمح له أن يفرض وصايته هو على المشهد، لاسيما في الجوائز التي باتت تتكاثر منذ سنوات على فضائياتنا العربية.

إن غالبية الجوائز غير بريئة من خضوعها لمرجعيات تتكون من سلطة المال وسلطة الأخلاق أو سلطة الموقف السياسي. وكل من هذه السلطات يدلي بدلوه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في منح وتوزيع الجوائز. ومن النادر جداً إعطاء صك براءة لجائزةٍ ما، فهذا الصك يحتاجُ إلى براهين وأدلة غير متوافرة لدى هذه الجوائز، التي تخضع للشروط المعلنة في نص إعلان الجائزة، كما تخضع «للشروط غير المعلنة»، وهنا تكمن المشكلة. وهي شروط لا يتقنها المتشاركون غالباً، مع أن الوضع الثقافي والإعلامي المعلن يمكن أن يشكّل مؤشراً على تلك الشروط غير المعلنة، فيتمكن عندها المتشاركون من «إتقان اللعبة على أصولها».

ثمّة جوائز تمنح لاعتبارات أيديولوجية، سياسية، أخلاقية. وهنا يبرز دور التحكيم في تسويق النصوص الفائزة وتبرير فوزها، انطلاقاً من الاعتبارات المشار إليها، وليس بالضرورة إعلان هذه الاعتبارات، لكنها متفق عليها ضمناً، ومتعاقد على وجودها سراً، ومأخوذة في الحسبان دائماً وراء الكواليس وعلى طاولات اجتماع لجان التحكيم. ونادراً ما تنجو جائزة من هذه الاعتبارات لأنه نادراً ما تولد جائزة من مصداقية مطلقة. وهنا يولد السؤال المستمر: هل يفوز الشعر في هذه الجوائز أم تفوز اعتبارات ومواقف، كتلٌ وعشائر؟ لقد أصيب الشعر والحالة هذه بسوء حقيقيّ، لأنه أصبح (أي الشعر) الشرطَ الثالث أو الخامسَ، أو لا وجود له ضمن الشروط التي يتنافس وفقها المتشاركون.

إن التحكيم عبارة عن عقليات وذهنيات ومرجعيات نقدية وأخلاقية تؤثر في سياق الجوائز الممنوحة ومستحقّيها، فكثيراً ما يتم إعطاء الجائزة، من قِبلِ عضو التحكيم، للنموذج الشعري القابع في ذهنه، والمتمثل له، وهو ليس بالضرورة نموذجٌ خلاَّق ومبدعٌ، بل قد يكون تقليدياً ومتخلفاً، ومضاداً للعصر، وقد يكون النص الفائز منسجماً مع المنظومةِ الأخلاقية التي تمثل من يموّل الجائزة وأحياناً من ينظمها. أي أن كل من يمول وينظم ويحكم، يمارس وصايته الخاصة على الشعر، لينسحب الشعر الحقيقي في هذه الحالة.

إذاً ثمّة إقصاء متعمَّد للشعر، حتى من قبل لجان تحكيم ترضى أن تكون صورة للشروط غير المعلنة وتمثل وصياً على تنفيذها إلى هذا الحد أو ذاك. وبذلك تضطرّ اللجان إلى خيانة مفهوم الشّعر لتحقيق مفهوم (الشّعر الجدير بالجائزة) نعم هناك شعرٌ للجائزة وشعر غير صالح للجائزة، بغض النظر عن الشعر نفسه خارج وصاية الجائزة. ولن يفوز بها إلا الشعر المخلص للشروط المكتوبة بالحبر السري في كل مسابقة.

أضف تعليق

التعليقات