قول في مقال

بين قراءة الرواية وقراءة الواقع

لم تشهد الرواية في تاريخها تعدداً في وجهات النظر حول دورها كما هو حالها اليوم، بحيث باتت تتقاذفها النظريات المختلفة والمتناقضة التي تحاول أن تؤطر العمل المطلوب من الكاتب ونمط القراءة ومستوى التفاعل معها، خاصة على مستوى علاقتها بالواقع.
محمد ديريه  يعيد التطلع إلى أساس هذا الفن الأدبي وخصوصياته (تأليفاً وقراءة) انطلاقاً من الدور الذي لعبته قراءة الروايات في صياغة مسيرة الرئيس الأمريكي باراك أوباما على سبيل المثال.

في لقاء مع مجلة النيوز ويك الأمريكية في أواخر مارس 2008م، تحدث الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن رؤيته ومذكراته، واستعرض لمحات من سيرته الشخصية، وكان من اللافت حديثه عن كتابه: «أحلام من والدي»، الذي سرد فيه شيئاً من مشاهداته وقراءاته للواقع من حوله، في أسلوب قصصي بارع، قد يكون هذا مفاجئاً  لمن لا يعرف أوباما إلا رئيساً ، ولكن أصدقاءه ومعارفه المقربين منه يتوقعون له أن يكون كاتباً روائياً في مستقبله!

لم يكن باراك أوباما قارئاً عادياً للروايات. لذا جاءت قصته مختلفةً بشكل كبير عن باقي قصص الكفاح في التاريخ العالمي.. يعترف أوباما بأنه عانى كثيراً في فهم جذور هويته الإفريقية وواقعه التاريخي، وبالتالي في فهم نفسه خصوصاً مع غياب والده الذي لم يقابله سوى مرةً واحدة عندما كان في العاشرة من عمره.. لذا يقول بكل صراحة إن غياب والده علَّمه أهمية الروايات، وهذه القصص ساعدته على فهم هويته. فالروايات جعلت الجوانب الأكثر غموضاً من الحياة مفهومة بالنسبة إليه، أو على الأقل منحته الثقة ليكون قادراً على أن يكتب قصة حياته بطريقته وبالتالي يصبح مسيطراً على الرواية وليس ضحيةً لها.

واعتماداً على المقولة الشهيرة «إن من يقرأ كثيراً.. هو بالضرورة كاتب جيد»، فقد كتب أوباما مذكرات تفصيلية في نيويورك، وقد تبين فيما بعد أنها مفيدة، يقول: «كتابة المذكرات خلال هاتين السنتين لم تزودني فقط بمواد أستعملها في كتابي، بل علمتني أيضاً طريقة صياغة الجمل لتكون مؤثرة».

وربما تكون هذه العوامل: القراءة، والكتابة، والقدرة على الحلم بطريقته الخاصة، وحتى الاندماج مع البيئة المحلية باستلهام ذاكرة قارة كاملة عن طريق القراءة، هي التي جعلت  باراك أوباما مديناً لقراءة الروايات وكتابة المذكرات فيما بعد.. فقد ساعدته على تشكل حلمه بطريقة عجيبة ليصبح أول رئيس أمريكي غير أبيض. ومن يدري فربما كانت كل ورقة تصويت بيد كل ناخب أمريكي هي ورقةً في فصل من فصول رواية أوباما الحقيقية!

إن الرواية لم تعد هدفاً للتسلية، أو قضاء وقت ممتع، بل أصبحت عملاً فكرياً وفنياً يتطلب جهداً خاصاً من الكاتب، ومن ثم جهداً متميزاً  من القارئ، الذي أصبح لزاماً  عليه أن يقرأ وهو يفكر، وأن يتأنى في قراءته حتى يتمكن من متابعة الصورة التي يرسمها الكاتب للشخصية والتي تتميز بفردية لم يسبق لها نظير.

مرونة الرواية
فمن المعروف أن هذا الفن الأدبي (الرواية) فنٌّ حديث نِسْبياً، لم يَمْضِ على استوائه على سوقه، ناضجاً، أكثر من ثلاثة قرون في العالم الغربي، ولا أكثر من قرن ونصف قرن في عالمنا العربي. بَـيْدَ أن هذا الجنس الأدبي قادر على الهضم والتمثل والإفادة من فنون أخرى. وقد وصفه نجيب محفوظ بالفن الذي يُوَفِّق ما بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق وحنينه الدائم إلى الخيال.. وما بين غنى الحقيقة وجموح الخيال، اجتهدت الرواية في أن تحتوي صفات الأجناس الأدبية الأخرى، وأن تفيد من فنون مختلفة غير الأدب، فالرواية الأمريكية مثلاً تتبادل مع السينما طرقاً مختلفة، والرواية الجديدة في أوروبا تقتبس من الموسيقى طرقاً في التأليف. وبعض الروايات المعاصرة يفيد من تقنيات المسرح، ومن مزايا القصة القصيرة وشؤونها، ومن وهج الشعر ولغته المشحونة وصوره المثيرة ومجازاته الرائعة.

وتستطيع الرواية أن تهضم وتستثمر عناصر متنافرة كالوثائق، والمذكرات، والأساطير، والوقائع التاريخية، والتأملات الفلسفية، والتعاليم الأخلاقية، والخيال العلمي، والإرث الأدبي والديني بكل أنواعه، حتى لتكاد تبدو جنساً بلا حدود، إنها كما يرى د. جابر عصفور الجنس القادر على التقاط الأنغام المتباعدة والمتنافرة والمتغايرة الخواص لإيقاع عصرنا (زمن الرواية، لعصفور، ص 53)، لذا صارت حسب عبارة علي الراعي «ديوان العرب المحدثين».

إنَّ الأحداث التي تشكل الحبكة في الرواية أحداث تشاكل الواقع الموضوعي، ولكنها لا تطابقه، فهي تنقاد بخيوط خفية، لتنتهي نهاية غير اعتباطية، ولتقدّم وجهة نظر، أو رؤية، أو معنىً. وقلّما يدخل في القصة حدث ناشز، أو يُحْشَر فيها حشراً عشوائياً موقف لا وظيفة له… إن الكاتب الجيد -كما يقول إدغار آلان بو- «هو من يضع نصب عينيه السطر الأخير عندما يكتب السطر الأول».

ولما كانت الأحداث مرهونة بوجود شخصيات تفعلها، أو تنفعل بها، أولى النقد الروائي اهتماماً كبيراً بالشخصية الروائية، والشخصيات الروائية لا تبدو كائنات خيالية لا حياة فيها، بل هي كما يقول عنها حنا مينه «حيَّة تماماً بالنسبة للقُرَّاء، وهي أكثر حياة بالنسبة للمبدعين» – (هواجس في التجربة الروائية ص 111).‏

بين الخيال والواقع
وإذا كان الخيال الخالق هو الرحم الذي تنبثق منه الشخصيات الروائية، فإن الواقع الموضوعي، والحياة الاجتماعية، هما اللذان تنتهي إليهما تلك الشخصيات، فكما أن الخيال عقيم من دون صلة له بالواقع، فإن الفكر الفني كله من دون خيال عقيم أيضاً.. وعليه فالمتخيّل السردي يوازي، غالباً واقعاً اجتماعياً موضوعياً، ويحيل إليه، كما يشير المحمول إلى الحامل، ويحيل إليه.

وإذ يبعث الروائيون حياة في أبطالهم يفاجأون أحياناً، بأن هؤلاء قد يفلتون من أيديهم، ويحيون ظروفاً أخرى، ويشقِّون دروباً لم تمهَّد لهم، وقد ينطقون بما لا يهواه مبتكروهم.. ورغم ذلك، فإنَّ إشكالهم قائم ودائم، إذ لا مناص من أن ينظر النقاد إليهم على أنهم نماذج تجسّد فكرة، وتُعبِّر عن موقف.

وكما تحيا الشخصيات في الروايات، فهي تموت. وفي موت الأبطال في الرواية دلالات كثيرة، حتى إن الموت ذاته قد يتخذ أشكالاً ويصبح إشْكالاً.

إن الانفتاح اللانهائي على الواقع هو الذي يجعل الرواية تتمتع بحرية الحركة والتعبير أكثر من أي جنس أدبي، ويبعدها عن التأطير ويهيئ فرصة وجود التميز والاختلاف في كل رواية. وربما هذا ما دعا فورستر أن يقول إنه لو اجتمع عدد من الكتَّاب حول طاولة مستديرة مثل تلك الطاولة المشهورة في مكتبة المتحف البريطاني، وطلب منهم كتابة رواية عن موضوع موحد لخرج الجميع كل برواية مختلفة. وربما هذا أيضاً ما دعا فيرجينيا وولف أن تنادي في عهد الحداثة أن أي موضوع يصلح أن يكون مادة الرواية، ولا داعي أبداً أن تتكون مادة الرواية من تلك الموضوعات التي اتخذتها الرواية التقليدية مادة لها مثل الحب، والزواج، والثروة، والملهاة، والمأساة، وغير ذلك من الموضوعات المتكررة التي طرقتها رواية العصر الفكتوري. وتهدف فيرجينيا وولف إلى القول إن الرواية لا تمتلك بل لا تستطيع أن تزعم لنفسها القدرة على تقديم صورة كاملة أو حتى شبه كاملة عن الواقع رغم أنها أقرب الأجناس الأدبية إلى الواقع المعيش وأقدرها على التعبير عنه.

أصبح الروائي في القرن العشرين ينظر إلى الرواية على أنها شكل مفتوح، ولكن من دون الادعاء أن لديه القدرة على تقديم صورة نمائية أو متكاملة لواقع اللاحدود. وهذا خلاف الاعتقاد الذي ساد القرن التاسع عشر وهو أن الرواية كانت سبيلاً للسيطرة على الواقع.‏

بينما في القرن الحادي والعشرين.. نجح القارئ الذكي في التعامل مع الرواية بما يتناسب مع واقعه ليصبح رئيساً لأكبر دول العالم.. متكئاً على روايات مختلفة.. كتب من خلالها روايته المفرطة في الواقعية.. كقارئ جيد.

أضف تعليق

التعليقات