بيئة وعلوم

الحياة في الظلام
من دراسة البكتيريا إلى دراسة الصفائح القارية..

  • 34-(science)
  • 35-(kaiko2)
  • 30-(FINAL-COVER-SUN2)

شهد العام الفائت 2009م تسجيل سلسلة من الاكتشافات العلمية المتعلِّقة بالحياة في قاع المحيطات حيث لا تصل أشعة الشمس على الإطلاق، تجاوزت في أهميتها إدهاش العلماء الذين اكتشفوا قبل سنوات معدودة فقط أن الحياة الممكنة في الظلام الكامل تقتصر على بعض الكائنات الجرثومية الدقيقة جداً.
أيمن طرقنجي يعرض آخر ما توصلت إليه دراسة هذه البيئة التي لا تعرف الضوء، واحتمالات الحياة فيها، والأبواب العريضة التي بدأت هذه الدراسة بفتحها أمام سلسلة من العلوم تراوحت بين الصفائح القارية في أعماق المحيطات وصولاً إلى علم الفضاء وكواكب المجموعة الشمسية.

في الثاني والعشرين من شهر يناير من العام 2009م، أعلنت بعثة علمية أمريكية-أسترالية مشتركة عن اكتشاف أنواع عديدة من الحيوانات البحرية تشمل العناكب العملاقة والإسفنج، ونوع غريب من الحبَّار المفترس وغيره.

وذلك في الموقع البحري المعرف باسم «صدع تسمانيا» حيث تنحدر الأرض بشكل شبه عمودي من مستوى 2000 متر إلى نحو 4000 متر تحت سطح البحر.

وفي السادس من مارس من العام نفسه تمكَّن العلماء من تصنيف سبعة أنواع من المرجح أنها اكتشفت على عمق 5745 قدماً تحت سطح البحر في موقع قريب من جزر هاواي في المحيط الهادئ. وفي ديسمبر من العام نفسه، أعلنت طالبة تعد لشهادة الدكتوراة في المركز الوطني لعلم المحيطات التابعة لجامعة ساوثهامبثون أنها تمكنت من تصنيف أربعة أنواع مختلفة من السرطانات الضخمة التي تعيش على أعماق تراوحت مابين 500 و1500 متر تحت سطح البحر.

وفي الوقت نفسه، كان غوَّاص آلي يجوب قاع المحيط الأطلسي قبالة جزر كايمان، لا للبحث عن كائنات بحرية جديدة، بل لدراسة الجيولوجيا في تلك الأعماق وأثرها على الحياة بمعزل عن ضوء الشمس، فيما كان علماء الفضاء يترقبون النتائج لإسقاطها على أبحاثهم بشأن احتمالات الحياة، ولو بأكثر أشكالها البدائية في كواكب المجموعة الشمسية.

فما هي نقطة البداية في هذه الاكتشافات التي قلبت النظريات القديمة رأساً على عقب، وشرَّعت أمام العلماء أبواباً عديدة أمام احتمالات لم تكن تخطر على البال قبل سنوات معدودة فقط؟.

المصادر المجهولة للطاقة
من المعروف أن التمثيل الضوئي يؤدي إلى تحويل غاز ثاني أكسيد الكربون إلى مركبات عضوية. وتشكِّل الطاقة المحمولة في أشعة الشمس العامل الأساسي لنجاح عملية التحويل هذه.

وحتى الربع الأخير من القرن الماضي، ظلت فكرة وجود حياة في أعماق البحار سراً غامضاً على العلماء، حتى أنهم جزموا لفترة طويلة باستحالة نشوئها في الأماكن المظلمة تماماً. واكتفوا بإطلاق النظريات القائلة إن الكائنات التي تعيش في الأعماق المظلمة تصعد من حين إلى آخر إلى المستويات التي يصلها الضوء، ولا تغوص إلا لتقتات من المواد العضوية المترسبة من السطح.

ظلَّت النظريات القديمة القائمة، بانتظار تطور التقنيات التي تسمح بالغوص في الأعماق المظلمة تماماً واستكشافها، وهو أمر ليس بالسهل على الإنسان. فنظرياً، يمكن لضوء الشمس أن يصل حتى أعماق تراوح بين 500 و1000 متر، وإذ كان بشكل لا يكفي للعب أي دور حيوي. فللتأكد من صحة النظريات القديمة، أو تفنيدها، كان يجب الوصول إلى ما دون الألف متى تحت سطح البحر، أو استخراج الكائنات الحية من هناك بطريقة ما، ولكن انتقال هذه الكائنات من بيئة يبلغ معدل الضغط فيها نحو 1000 مرة الضغط الجوي على السطح، إلى السطح مباشرة يؤدي إلى تمزق أنسجتها أو انفجارها.

وفي العام 1960م، تمكن غواص آلي من الغوص حتى عمق 10,911 متر تحت سطح البحر قرب جزيرة غوام في المحيط الهادئ. وعند ذاك المستوى، ظهر على الشاشة التلفزيونية ما يشبه السمكة التي تبتعد عن ضوء المصباح الذي كان على متنه.

غير أن الاكتشاف المهم سُجِّل في عام 1977م، عندما اكتشف باحثان أمريكيان ينابيع للمياه الحارة على عمق 2500 متر قرب شواطئ جزر غالاباغوس. ولم يكن وجود هذه الينابيع بحد ذاتها هو المفاجأة، إذ إن النظريات تحدثت منذ العام 1970م عن احتمال وجودها في قاع المحيطات حيث الصهارة في باطن الأرض والحمم البركانية يمكنها أن تسخِّن المياه الجوفية. المفاجأة كانت في اكتشاف عدد ضخم من الحيوانات البحرية من رخويات وأسماك وديدان أنبوبية ضخمة يصل طولها حتى ستة أقدام في محيط تلك الينابيع. والمفاجأة الأكبر في اكتشاف حياة جرثومية في المياه التي تصل حرارتها حتى 150 درجة مئوية، علماً بأن الحرارة عند نقطة تدفق هذه الينابيع وصلت حتى 350 درجة مئوية، وأيضاً مع العلم أن كل البكتيريا التي تعيش على سطح الأرض تموت إذا تجاوزت حرارة محيطها 60 درجة مئوية فقط.

في تدبير أمر غذائها
أثار هذا الاكتشاف عدد تساؤلات حول كيفية عيش تلك المخلوقات بمعزل تام عن الشمس وضوئها الضروري للحياة، لاسيما وأن معظمها لا يملك فماً ولا شرجاً ولا معدة.

ولاحقاً، تمت الإجابة عن هذا السؤال على يد خريجة جامعة هارفارد كولين كافانو التي وجدت أن المياه المتدفقة من الينابيع المعدنية مليئة بكبريتيد الهيدروجين وعناصر أخرى غنية بالطاقة. إذ كان من المعروف سابقاً أن ينابيع المياه الكبريتية الموجودة على اليابسة هي موطن للبكتيريا التي تستمد طاقتها من أكسدة الكبريتيد الموجود في الماء. وبالتالي، فإن هذه البكتيريا تحصل على الطاقة من خلال التركيب الكيميائي بدلاً من التركيب الضوئي. وكذلك الأمر في الينابيع المعدنية التي تعج بالبكتيريا التي تقوم بأكسدة الكبريتيد، أي التركيب الكيميائي. وبالتالي تشكل مصدر طاقة في ظل غياب ضوء الشمس. وكان ذلك من أهم الاكتشافات في علوم الأرض. ولكن ماذا عن الديدان التي لا تملك الأفواه لأكل البكتيريا؟

كان الافتراض أنها تمتص جزيئات الغذاء من خلال جلدها كما تفعل الديدان الأصغر. لكن المشكلة أن هذه الديدان الضخمة لن تكون قادرة على الحصول على ما يكفي من المواد الغذائية عن طريق الجلد، إذ إن مساحة سطح الجسم أصغر بكثير من حجمه.

كان لدى الباحثة كافانو قناعة أكيدة بأن هذه الديدان تحتوي على «بكتيريا تعايشية». وقد أثبتت صحة افتراضها بعد فحصها لهذه الديدان لتجد فيها عضواً يحتوي على بلورات الكبريتيد، وهو العضو المسؤول عن التغذية لديها. ويحتوي بداخله على بكتيريا تشكِّل الجزء الأكبر من نسيجه الغذائي.

وأثبتت الدراسات اللاحقة أن البطلينوس الأبيض الذي يبلغ طوله نحو 25 سنتيمتراً، وكذلك الرخويات الموجودة في ينابيع غالاباغوس ومعظم الفجوات الأخرى، تحتوي أيضاً على بكتيريا تعايشية في خياشيمها. وكل هذه الحيوانات تعيش في البيئات التي تحتوي على الرواسب الطينية الغنية بالكبريتيد. وفي حين أن معظم العمليات الكيميائية تعتمد على الكبريتيد كمصدر للطاقة، فإن عدة عناصر غنية بالطاقة يمكنها أن تدعم التعايش بين الحيوانات المائية والبكتيريا مثل غاز الميتان والمنغنيز وماء النشادر.

ومؤخراً، أثبت العلماء أن الكثير من اللافقاريات البحرية لديها بكتيريا تستمد طاقتها من غاز الميتان الموجود في بيئات مختلفة كالفجوات المعدنية وحتى الينابيع الصغيرة الباردة في خليج المكسيك وبحر الشمال.

وما زالت الأبحاث مستمرة وكل يوم تصدر نتائج جديدة. وقد سجل آخر تقارير مشروع إحصاء الحياة البحرية المقرر انتهاؤه في أكتوبر من العام الجاري 2010م وجود حوالي 81,000 نوع من الكائنات الحية التي تعيش من دون ضوء على عمق 656 قدماً.

وفي ظلام اليابسة أيضاً
أثارت الاكتشافات في الحياة البحرية على أعماق لا يصلها الضوء، الحماسة للبحث عما يشبهها على اليابسة. وهكذا سُجِّل اكتشاف واحد من أغرب الأنظمة البيئية على سطح الأرض عام 2005م، في منجم للذهب يقع على مقربة من مدينة جوهانسبورغ في جنوب إفريقيا، حيث عثر على نظام حيوي كامل يقتصر على نوع واحد من الكائنات المجهرية، يستمد طاقته بشكل مستقل تماماً عن الضوء، وذلك عن طريق تفكيك الماء إلى هيدروجين وبروكسيد الهيدروجين، ليقوم هذا المركب الأخير بالتفاعل مع الكبريتيد المكون طبيعياً في الصخور، وينتج منه الكبريتات.

وتعمل هذه الكائنات على تخفيف الكبريتات وتحويلها إلى كبريتيد مجدداً باستخدام الإلكترونات الموجودة في الهيدروجين الناتج عن تحليل الماء. وهذا هو النظام البيئي الوحيد على اليابسة الذي يعتمد مصدراً للطاقة مختلفاً عن الضوء أو الطاقة الكيميائية، ومستمدة من مادة الكوكب نفسه.

إسقاط الاكتشاف على
أبحاث الفضاء
أثار اكتشاف هذا «المجتمع» في باطن الأرض خيال العلماء الذين باتوا يرون نظرياً احتمال وجوده على سطح كوكب المريخ مثلاً. فكل ما يحتاجه هذا النظام الحيوي هو النشاط الإشعاعي وكبريتيد المعادن والمياه وثاني أكسيد الكربون، وهذه العناصر متوافرة أو يرجح توافرها في الكواكب الصخرية الأخرى، وخاصة على القمر «أوروبا»، وهو أحد الأقمار الثلاثة والستين التي تدور حول كوكب المشتري، بعدما ثبت وجود الماء على سطحه.

وحتى الكواكب التي تمت دراسة بيئاتها بشكل كافٍ نسبــــياً، تعــــــود الدراســــات اليوم إلى مراجعة الخلاصات السابقة ومدى صحتها. كما هو الحال فيما يتعلق بكوكـــــب «الزهـــــرة» الأكثر شــــبهاً بالأرض بين كواكب المجموعة الشمسية. حيث أدت القياسات التي أجريت بواسطة المركبة غير المأهولة «بايونير» في العام 1982م، إلى الجزم بعدم إمكانية وجود حياة على سطح هذا الكوكب بسبب ارتفاع الحرارة على سطحه (425 درجة مئوية)، ونسبة الضغط الجوي أيضاً.

إلا أن إعادة قراءة هذه المعطيات بعد عشرين عاماً، وعلى ضوء ما تم اكتشافه في البيئات المظلمة على سطح الأرض، سمح لعالم الفلك الألماني ديرك شولتزه بإطلاق فرضية تقول بإمكانية وجود شكل من أشكال الحياة البدائية والمجهرية في الغلاف الجوي لكوكب الزهرة، قريباً من قطبيه حيث تراوحت الحرارة ما بين 30 و80 درجة مئوية، وذلك اعتماداً على انخفاض نسبة غاز الكربون الرباعي السام الذي كان يُتوقع وجوده في الغلاف الجوي للزهرة، إضافة إلى وجود غازات قابلة للتفاعل مع بعضها البعض، ولا يمكن تفسير تواجدها معاً إلا إذا كان هناك ما يعمل على إعادة إنتاجها. مما قد يشير إلى وجود كائنات مجهرية قامت بتفكيك نسبة من غاز الكربون الرباعي، وإنتاج الغازات الأخرى القابلة للتفاعل. إلا إن عدم توافر الماء على سطح هذا الكوكب يبقى برهاناً قوياً ضد هذه النظرية. كما هو الحال بالنسبة لكل النظريات المتعلقة بعلم الفضاء ودراسة الكواكب الأخرى، المتأرجحة دائماً بين براهين مؤيدة وأخرى مناقضة.

عند حدود الصفائح القارية
وشكَّل اكتشاف الحياة في أعماق المحيطات بعيداً عن ضوء الشمس، وينابيع المياه الحارة في تلك البيئة المظلمة، دعوة إلى العلماء للمضي قدماً في دراسة الجيولوجيا في تلك الأعماق.

ففي شهر أكتوبر الماضي، انطلقت من «كايب كانيفرال» في فلوريدا بعثة علمية على متن السفينة «نيروس» التي تحمل على متنها رجلاً آلياً مطوراً لإجراء الأبحاث في أعماق المحيطات، بقيادة مشتركة من «معهد ووردهول لعلم المحيطات» و«وكالة الفضاء الأمريكية» وعدة معاهد أخرى انضمت كلها إلى مؤسسة «الواحة» المتخصصة في دراسة التركيب الكيميائي للكائنات الحية وما قبل الحية.

أطلق على المهمة اسم «كايب هاتراس» تيمناً باسم القمة الجبلية الغارقة قبالة جرز كايمان، والتي تشكل حلقة من السلسلة الجبلية العالمية الناجمة عن زحف القارات، والجزء الأكبر منها غارق في أعماق المحيطات. أما الهدف منها، فهو دراسة البيئة الجيولوجية والجغرافية في الأعماق، وبشكل خاص عند الصدوع وخطوط التقاء الصفائح القارية.

والروبوت «نيروس» مجهز للغوص حتى عمق 11,000 متر، ويتميز بالقدرة على العمل بشكل مستقل تماماً، مما يمكنه من تحديد مناطق البحث المثيرة لاهتمام البعثة بواسطة مجسات كيمياوية وضوئية بالإضافة إلى آلات التصوير المثبتة على هيكله. ويتم التحكم بهذا الروبوت من على سطح السفينة عن طريق الاتصال به من خلال كابلات ضوئية لا يزيد قطرها عن قطر شعرة الإنسان، قادرة على نقل الصور الحية لمسافات طويلة، وكذلك حمل الأوزان الثقيلة.

ومنذ السابع من أكتوبر والروبوت «نيروس» يعمل ليلاً ونهاراً (لا فرق) على استكشاف قاع المحيط وإرسال مشاهد حية إلى سطح السفينة، وأخذ عينات من التربة والطبقات الصخرية لتحليلها. وعليه يعول العلماء للتوصل إلى الإجابة عن أسئلة كثيرة بقيت من دون أجوبة حتى يومنا هذا، ومنها ما يتعلق بالصلة ما بين تغير مستوى قاع البحر ودوره في انحسار الكتل الجليدية عن سطح البحر، ومنها ما يرتبط أيضاً بقضية الاحتباس الحراري. غير أن ما لا يقل أهمية عن هذا وذاك، هو فهم أوسع للظروف التي تجعل الحياة ممكنة من دون ضوء في الظلام الدامس والأبدي.

أضف تعليق

التعليقات