تحتفي الأسواق كل يوم بطرح جهاز إلكتروني جديد في سباق محموم نحو اختصار الوقت وتعدد الخدمات، فجهاز يخاطبك وآخر ودّع الأزارير ليستجيب إلى مطالبك بمجرد لمس شاشته، ومع كل تطوّر تقني يطرأ على حياتنا يزداد قلق الآباء والأمهات وعلماء التواصل والمفكرين والباحثين، إذ يظن البعض أن الأمر لا يعدو كونه فارقاً علمياً إيجابياً بينما يترتب عليه العديد من الفوارق الثقافية التي تترك آثارها على تشكيل قيم جديدة لأجيال قادمة. في هذه المقالة يأخذنا د. عبدالله الوشمي إلى رؤية من زاوية مختلفة لهذه الفوارق الثقافية وما قد ينشأ عنها..
ما زلت أتذكَّر صديقي المتخرج في إحدى جامعات أمريكا، والمتخصص في الهندسة، وهو يروي لي طرفته العابرة التي أنهاها بآخر كلمة قالها، ثم نسيها، وظلّت تكبر في ذاكرتي، حيث تلد الفكرة أختها، وتتناسل الدلالات، وتظلُّ متعلقاً بمكوناتك الفكرية، وإن صغرت.
فقد اشترى صديقي لأطفاله أحد أجهزة الألعاب الحديثة، وقام بتفكيك اللعبة، وقراءة دليلها، وترجمة بعض مصطلحاتها، واجتهد في تركيبها، وأطفاله متشوقون لممارسة طقوسهم البريئة، ولكن صديقي لم يفلح في إكمال توصيلاتها، وبعد أن فشل في تفعيل الجهاز، وداهمه النوم، قطع نهم أطفاله، وبدأ بتأجيل ذلك، ووعدهم بأنه في صباح الغد سيقوم بتجهيزها، وبمؤخرة عينه شاهد طفلته الصغيرة تضحك، وتقول بلهجتها المحلية: (يا حول بابا ما يعرف)، ولكنه تجاهلها بعد أن رمقها بنظرة حاسمة، وتصنع الجدية، وهو يردِّد: (بسرعة. ارتاحوا. على غرفكم وفرشاتكم).
وفي الصباح، وبمنتهى المفاجأة، يستيقظ صديقي على صراخ أطفاله ليجدهم منهمكين في اللعب والتبادل بين أدوارهم، والجهاز بكامل أناقته بين أيديهم، وما زال (الكتالوج) يرقد بجوار وسادته، فقام مستعجلاً بعد أنْ غافل ابنته الصغيرة، وخرج دون أن يودِّعهم بعد أن حمل ابتسامته الكبيرة في فمه، وحمل سؤالاً واسعاً سرعان ما تخلَّص منه بعد أن حمَّلني امتداداته.
***
ما فلسفة الثقافة عندما ترتبط بالزمان والمكان؟! ولماذا يتشابه أبي كثيراً مع جدي مع أن الفارق الزمني بينهما كبير؟ ولماذا نختلف نحن مع أبنائنا مع أن الفارق الزمني بيننا صغير؟
كيف تتشكَّل الثقافة وتتحوَّل معطياتها في أذهاننا ورؤانا؟ ولماذا تتنوع إجاباتنا عن السؤال نفسه بعد أن تتنوع مواقعنا الثقافية أو الإدارية أو العمرية؟
وهل النص ـ أياً كان ـ يحمل دلالة واحدة لا يمكن تكرارها؟ وبذلك تكون المعلومة مغلقة تتدحرج كحجر فولاذي يمحو ما أمامه!
أسئلة مشروعة وكبيرة لا يجيب عنها فرد، أو كتاب، أو حوار عابر، ولكنّ إثارتها تظل مسؤولية الجميع ومطمع أنظارهم، فهي أسئلة لا تأتي من خارج الذات، أو من خارج النفس، وإنما تأتي من الداخل العميق في الحياة وفي النفس، وكأنها أسئلة وجودية تتكرر مع كل جيل، وإنْ تفاوتت درجاتها.
***
يروى عن الأخفش أنه يقول: أنا أعلم بالكتاب من سيبويه! وهو قول يبدو مجانباً للحقيقة لقيامه على ادّعاء ما لا يكون، أو المبالغة غير المقبولة، فكيف يكون أحد أعلم بكتاب من مؤلفه نفسه، لأن سيبويه هو مؤلف الكتاب، وهو العلم الذائع الشائع؟!
إلا أننا نقرأ هذه الواقعة ـ إنْ صحت ـ بنوع من التأويل المنطقي، وذلك أن التبصر في معلومة ما، ومعرفة نظائرها، ومقارنة أطرافها ومتعلقاتها بمتعلقات غيرها، وجمع مستجداتها إلى مستجدات غيرها، وفهمها من خلال ما جد من العلم والمعرفة، وتجديد القول والفهم لها، هو أمر مستقل عن المعلومة نفسها، ومن هنا يصح أن يكون قارئ الكتاب المتبصر به، وبأهدافه، ونظائره، ومتعلقاته، والمستجدات من بعده، والمرتبط به، والمنفصل عنه، أعلم من مؤلفه نفسه، وذلك لأن مؤلفه إنما أنهاه، وهو على قدْر معيَّن من العلم، ثم جدَّ من العلم ما وعاه القارئ والمتابع.
إضافة إلى أن العلم والمعرفة يتجددان ويتكاثران بصدور الكتب، أو تحقيق المسائل، أو الاطلاع على ما لم يعرف، أو الاكتشاف المجرد، أو ما عدا ذلك من سبل العلم التي لا تنقطع، ومن هنا يجوز أن نقول ما قاله الأخفش.
وتبعاً لذلك، فإن القدماء يقولون: كلما زاد فقه الفقيه قلّ إنكاره، وهي إضاءة منهجية عميقة لفجوات الجهل التي يستشعرها العلماء الواعون فحسب، فالعلم مساحات متعددة، أولها الإدعاء والتضخم، وثانيها الحرص، وثالثها الوعي بالتواضع والوعي بالتنوع، وأن فوق كل ذي علم عليم، وهي المرحلة التي يستشعرها العالم، ولا يجد حينئذ أي غضاضة في أن يقول لما لا يعلمه: لا أعلم! وهو بذلك يحقق علمه، ولا يتنازل عن مبادئه، وإنما يمتلك شجاعة الاعتراف بتنوع مسائل العلم وكثرتها، ويؤمن بأنه جاد في طريقه.
***
لعله من المناسب أن أستعيد القول المأثور لدينا، وفيه: أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة)، وهو قول يكتسب مصداقيته من خلال الوعي بأن اليوم الواحد ـ فحسب ـ مصدر لتعلم معارف وعلوم متنوعة، فصار من يسبقك بيوم واحد جدير بأن يكون أكبر منك علماً ومعرفةً بسنة، ومن هنا جاء الاهتمام بالمدى الزمني أن مَنْ زاد في عمره فقد زاد في علمه، وذلك من خلال التجارب والرؤى والمعارف التي يحصل عليها.
ولكننا الآن نستطيع أن نقلب الرؤية لتكون: (أصغر منك بيوم أعلم منك بسنة)، وذلك لوجود حساسيات ثقافية عدة يمتلكها صغار السن، ويصعب أن يمتلكها من هو أكبر منهم، وذلك في نطاق التقنية خاصة، ومهما اجتهد كل واحد أن يتعلَّم كما يتعلَّم من هم أصغر منه، فلن يستطيع إلا نادراً، حيث يمتلك الصغار حساسية التنبه للمفردات الصغيرة اليسيرة، والنظرة الجزئية، وخلو الذهن من المشاغل والعجلة وتشتت الذهن والارتباطات، ولذا فهم يركِّزون على ما يعلمونه بدقة متناهية؛ إضافة إلى أنهم يتعاملون مع مخرجات عصرهم، وكأن غيرهم هم ضيوف على واقعهم.
يتعامل الواحد منا مع البريد الإلكتروني، وقد تعامل مع الفاكس، وتعامل مع الكربون للنسخ، وكان غاية الابتكار لديه هو جهاز الهاتف، أما صاحب السنوات العشر، فإنه ولد في هذا الواقع الإلكتروني التقني الضخم؛ حتى تشكل منها وعيه واللا وعيه، وصرتَ إذا قصصت له قصة قديمة لم يتخيلها بسبب وجود فوارق ثقافية عارمة، فأنت تتحدث عن صعوبة اطلاع الأم على واقع والدها عندما يخرج من البيت في نزهة تمتد لنصف يوم، وهو لا يتصور الآن أن ينفصل عن أخيه الذي يدرس في أمريكا، وإنما يتواصل معه بجميع السبل، وكأنه بينهم، فالوعي واللاوعي متغير بدرجة كبيرة بين الرؤيتين.
***
أتذكَّر كثيراً ما قاله القاضي علي الجرجاني -يرحمه الله- في معرض حديثه عن الأدب والفكر، فيقول: (باب التأويل واسع والمقاصد مغيبة)، وهو بذلك يفتح أفقاً واسعاً من الاحتمالات وتعدد الرؤى في فهم كلام البشر، وتعدد مراداتهم، وأن اللغة تحتمل كل هذا وذاك من الأقوال؛ بل إن في نصوص الشريعة ما يدعم هذا الانفتاح الدلالي كما قال ابن عباس -رضي الله عنه-: (القرآن حمال ذو وجوه)، وذلك بإمكانية تعدد وجهات النظر فيه، ومن هنا أكد العلماء أن الفتاوى، تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال، وهي رؤى تدعم ما نحن فيه من تأصيل لقصور العقل أمام مستجدات العلم والمعرفة، ولئن كنا نؤكد على أن للشريعة حرمتها، وللنصوص الثابتة قدسيتها المعروفة، إلا أننا هنا نشير إلى فضاء التنوع، وما تبثه اللغة، واحتمالات المعنى من إضاءات لا نهائية من الدلالة، وذلك بالمعنى الذي لا يقصر المعرفة والعلم والاستنباط على ذهن دون آخر، أو فرد دون غيره، أو جيل أو مدرسة أو توجه أو بلد، وإنما هي حق مشاع مفتوح أمام الجميع.
ومن هنا، تنكشف الثقافة، أو تتميز، بوصفها غير مطلقة، وإنما تتجدد حسبما أوتي أصحابها من قوة الفهم، وبراعة في الاستنباط، وقدرة على التقاط المعنى، أي أن الثقافة بهذا المعنى وهذا الاتجاه تعطي الجميع حسب قدراتهم، ولذا فسيجد كل مثقف أن ثقافته حسبما توفر له من إمكانات، وستكون فجواته الثقافية راجعة لما لم يستطعه من الفهم، أو لما لم يبذله من الجهد، أو لما لم يفتح له الله من التيسير، أو لها جميعاً.
وليس غريباً أن تجد المعنى ينساب ويتيسر لعالم أو لمبتدئ، ولا يتيسر لغيره ممن هو أكبر منه شأناً وقدرة وفهماً، ولكنه توفيق الله، واستعدادات خاصة تيسرت لهذا دون ذاك.
***
تظل الثقافة ممارسة قبل أن تكون معرفة وعلماً يعيه أحدنا، ومن هنا، فمن المؤكد أن الفوارق العلمية والثقافية مهما كانت كبيرة أو متعددة أو متزايدة، فإن القيمة العليا هي في الوعي بها، وتفهم مساراتها، والإيمان بأن الحقيقة ليس ملكاً لفرد أو جيل دون آخر، وإنما الناس شركاء في العلم والمعرفة، وليس كبيراً أن يستفيد العالم من تلميذه، والأب من ابنه، والكبار من الصغار، وإنما المعيب أن يستنكف أحدنا عن المعرفة والعلم بأي حجة، وقد جاء في تراثنا ما ينفي ارتباط العلم بجنس أو سن، ويجعله مطلقاً حيث كان، ويحث على طلبه، وذلك أن (الحكمة ضالة المؤمن)، ومن كانت الحكمة ضالته، فسوف يجدّ في طلبها، ولن يهمه حينئذ أين تكون؟! وإنما الذي يعنيه أن يلتقطها، ويحوزها لنفسه.