الحياة اليومية

محمد ناصر الدين..
جناحاه: الهندسة الطبية وأشجار اللوز

  • study1

طرح الأسئلة والفضول في سنٍ مبكرة بداية التحوّلات، ووقوع بعض الحوادث ليس من قبيل المصادفات بل إن بعضاً منها يغيّر مسار الحياة لأحدنا بالكامل. وهذا ما حدث مع الدكتور محمد ناصر الدين حينما كان يبلغ من العمر سبع سنوات فقد وقعت له حادثة غيرت نظرته للحياة وللمستقبل. الزميلة سجى العبدلي التقت به لتكشف اللثام عن جوانب في حياته الماضية ودوافع النجاحات التي حققها اليوم..

حُب العلم بدأ معه منذ الصغر، تحديداً في عام 1984م. عندما وقعت له حادثة غيَّرت نظرته للحياة وللمستقبل. كان الدكتور محمد ناصر الدين يبلغ من العمر حينذاك سبع سنوات فقط. أثار فضوله صديقه في الحي الذي يرتدي سترة تعطي لكتفيه مظهراً عريضاً، وفي محاولة منه لمعرفة ما يخفيه الطفل تفاجأ أنه يحمل بطارية كهربائية فيها شريط يخترق الجلد ليغذي القلب. بعد فترة وجيزة يموت الطفل «فادي». هذه الحادثة جعلته يفكر ملياً فيما سيكون عليه عندما يكبر، صار يحلم بتطوير حياة الإنسان وتسهيلها من الناحية الطبية. تفوق في المرحلتين الإعدادية والثانوية، وفي المرحلة الجامعية انتسب إلى أول برنامج للهندسة الطبية في لبنان. الصعوبات المترتبة من عدم توافر المختبرات ومن قلة المراجع العلمية اللازمة للدارسين في هذا المجال لم تمنعه من الاستمرار في تحقيق هدفه ومواصلة طلب العلم.

منذ صغره أحب الفيزياء والفلسفة. فكرة تزاوج الفيزياء مع البيولوجيا، والخروج بتطبيق هندسي من هذا التزاوج هي من الأفكار التي راودته مراراً وتكراراً. على الرغم من حصوله على المرتبة الأولى في الجامعة، إلا أنه لم يتلقَّ أي دعم من الدولة من أجل إكمال دراسته، فحين ذهب طالباً منحة جامعية، أخبره الرجل المسؤول عن المنح أن تخصصه غير مطلوب ونصحه بتغييره. لم يقف هذا الموقف المحبط عائقاً في وجه طموحه بل قررت والدته التي آمنت بموهبة وطموح ابنها أن تبيع الأرض التي تملكها لتغطي تكاليف دراسته. وصل محمد إلى فرنسا متأخراً عن موعد بدء الفصل الدراسي. يتذكر بشكل خاص مادة «البيوميكانيك» التي تختص بتطبيق مبادئ الهندسة الميكانيكية على الجسم. تفوق في هذه المادة وتساوى مع شخص فرنسي في الحصول على أعلى درجة حينذاك، مما دفع الجامعة لإعطائه منحة لإكمال دراسته.

أثبت الدكتور ناصر الدين في رسالة الماجستير أن عدداً كبيراً من العضلات السريعة التعب في الجسم الحيواني يمكن تحويلها إلى عضلات بطيئة، وأن عملية التحول ترتبط بعوامل جينية، عصبية، وهرومونية معقدة. في العام 2000م بدأ مرحلة التعليم في فرنسا في جامعة كومبيان وتم اختياره لتدريس المادة النظرية الوحيدة في معهد التدريب الرياضي في جامعة فرساي، وهو المعهد المتخصص في إعداد مدربي الرياضة في فرنسا. أنهى شهادة الماجستير في البيوميكانيك بتقدير جيد جداً، أصرَّ بعدها على الحصول على شهادة الدكتوراة في موضوع يهمه من الناحية العلمية والإنسانية هو «ترقق العظام». المتعارف عليه أن التقنيات الطبية تعطي الأفضلية في التشخيص لأشعة إكس باعتبارها جزيئات عالية الطاقة ولديها القدرة على اختراق جسم كثيف وغير متجانس مثل العظام، لكن التحدي الكبير بالنسبة له تمثل في تطويع الموجات فوق الصوتية وهي موجات ميكانيكية منخفضة الطاقة من أجل تصوير العظم وإيجاد مؤشر على كثافة مكوناته عند التشخيص. وجد الدكتور ناصر الدين ضالته في هذا الموضوع الذي تم تمويله من الوكالة الفضائية الأوروبية بحيث يتم تطوير الجهاز في فرنسا وإجراء التجارب الإكلينيكية في برلين ومعالجة النتائج في أمستردام. فريق العمل المكوّن من أربعة أشخاص أنجز الجهاز بطريقة جديدة ومبتكرة تعطي نفس نتائج التقنية القديمة. الجهاز الذي سُجِّل مباشرة كبراءة اختراع باسم المختبر انتقل مع فريق البحث إلى ألمانيا لإجراء التجارب.

في مستشفى بنجامين فرانكلين في برلين يتذكر الدكتور ناصر الدين تلك التجربة الفريدة في حينها حيث تم اختيار ثلاث مجموعات لإجراء فحص كثافة العظام عليها. المجموعة الأولى تألفت من رواد فضاء قادمين من مهمة فضائية، والمجموعة الثانية تكونت من أربعة أشخاص طُلب منهم التمدد على السرير لمدة شهرين متتالين. أما المجموعة الثالثة فمن أناس عاديين بهدف إيجاد وحدة قياس ومقارنة. أثبتت الدراسة التي تسابقت المجلات العلمية العالمية المتخصصة على نشرها العلاقة المباشرة بين قلة الحركة وفقدان الجاذبية وترقق العظام. بعد سنوات ثلاث، حصل الدكتور محمد على شهادة الدكتوراة في الهندسة الطبية، وكان عمره 26 عاماً ليكون بذلك أول دكتور في الهندسة الطبية في فرنسا والعالم العربي يحمل هذا الشهادة.

انتهت الرحلة الفرنسية عام 2004م، فحبه لبلده دفعه للعودة ليحقق حلمه في ربوعه، مؤمناً بالعقل العربي المبدع إذا توافرت له الإمكانات. بدأ التدريس في الجامعة الأمريكية في بيروت مركزاً على الجانب الأكاديمي والعملي خصوصاً في مجال الأبحاث وتطوير مشاريع التخرج للطلاب. عمل مع طلابه على تطوير أنظمة طبية متعددة الاستخدامات، مثل جهاز لمساعدة الكفيف على القراءة يعتمد على اللمس والصوت، وجهاز آخر لمعالجة الحمض النووي بواسطة الحرارة المنخفضة وتحويل العينة موضوع الدراسة إلى بودرة تتم معالجتها كيميائياً، وجهاز يقيس إشارات القلب الكهربائية داخل السيارة لمرضى القلب أثناء القيادة.

يخصص الدكتور محمد ساعات أربع من يومه في القراءة في موضوعات تتنوع بين العلم والأدب والفلسفة. يكتب الشعر منذ صغره. قصيدته الأولى رثى فيها جده حين كان في العاشرة من عمره باللغة الفرنسية. عرض والده حينذاك قصائد ابنه على الشاعر صلاح أستيتيه، الذي أبدى إعجابه بها ونصحه بالاستمرار في الكتابة. نشر موضوعات تتنوع ما بين الشعر والفلسفة في ملحق نهار الشباب في أواخر التسعينيات. يُعد اليوم أنه نضج شعرياً، ومن باب الطرفة تلمع القصيدة في رأسه أحياناً أثناء إعطائه للمحاضرات في الجامعة، فتراه يدوِّن ما يخطر بباله على الفور. قرر أخيراً أن ينشر ما يكتبه ليتشارك تجربته مع الآخرين ويخرج وليده الشعري الأول بعنوان «صلاة تطيل اللوز شبراً».

يحب الطبيعة والعزلة في قريته «سجد»، وهي كما يصفها قرية هادئة ضائعة بين الصخور وأشجار السنديان ومفتوحة على الريح والأفق. شجرة اللوز التي أوحت له بعنوان كتابه زرعها والده في الحديقة، وسقتها أمه بالماء والصلاة. «نحن لوز آبائنا»، هكذا ولد الشعر عند محمد الذي يعتبر أن المعاناة وحب الأرض يجعلان من كل إنسان شاعراً بالفطرة.

مكتبته في الجامعة تشبه مكتبته المنزلية. تمازحه والدته دائماً بالقول «سوف تكون نهايتك مثل الجاحظ وتقع عليك كتبك». لم يحب الكتاب الإلكتروني فهو يعشق غلاف الكتاب وملمس الورق، وبعض الكتب يعدها مثل ابنه الصغير. تم اختياره من قبل وزارة الصحة في لبنان كمدقق على المستشفيات. استشرف خلال عمله ضرورة إيجاد برنامج وطني لرعاية الجودة في المجال الصحي، وهو حالياً مشرف على هذا البرنامج في الجامعة الوطنية اللبنانية، بحيث سيتم قريباً تخريج أول دفعة من حملة الماجستير في إدارة الجودة في المستشفيات.

في زيارة إلى كلية الهندسة في الجامعة الأمريكية في بيروت يحدثك الطلاب عن دكتور شاب يمزج الفيزياء بالفلسفة ويهديهم كتاب شعر حين يتفوقون في دراستهم، هذا هو الدكتور محمد ناصر الدين.

أضف تعليق

التعليقات