ربما تكون مؤسسة الـ «بي بي سي» قد حقَّقت ذروة جديدة في مجال أفلام الطبيعة الوثائقية بالمجموعة التي أصدرتها بعنوان «كوكب الأرض» (Planet Earth) المكوّنة من خمس أسطوانات (DVD)، وكل واحد منها مكرَّس لمجموعة موضوعات تغطِّي بمجملها الكوكب من القطب إلى القطب، عبر السهول والغابات والصحاري والبحار، ومع أفواج المهاجرين من الطيور والغزلان والأسماك وغيرها، ومن أعالي القمم إلى الوديان وحتى أعماق الكهوف، مترصدة أندر الحيوانات في أصعب الظروف المناخية وفي أشد المواقع النائية عزلة. وكأن المشروع الذي استغرق تنفيذه بضع سنين أراد ألاَّ يترك شاردة أو واردة على سطح الأرض إلا و يلتقطها. وقد نجحت الرحلات التصويرية في التقاط عدد لا بأس به من المشاهد للمرة الأولى، لم يرها بل وربما «لن يراها» مخلوق إلاَّ في هذه اللقطات اليتيمة الساحرة. إن أهم ما يتوصل إليه المشاهد المتفحِّص الذي يفكر بعمق في كيفية إنجاز الفريق للمهمات التصويرية المختلفة، هو أن النجاحات الفوتوغرافية لم تكن ثمرة فن التصوير بتاتاً، بل بسبب علم التصوير أولاً وأخيراً. وأن الفضل المهم يعود للإعداد المسبق الذي شمل من ناحية الدراسة الدقيقة والمسبقة للمشاهد والمواقع والمواسم وغيرها من جهة، كما شمل تطوير المعدات المطلوبة للقيام بعمليات التصوير بأكبر قدر ممكن من النجاح من جهة أخرى. يتجاوز تصوير هذه الأفلام صعوبات هائلة اعتادت على حرمان العدسات في الماضي من التقاط ما تشتهيه. من ذلك بناء عدسة بحجم لم تستخدم من قبل، قادرة على التقاط لحظات خطرة أو نادرة بوضوح من مسافات بعيدة تصل إلى حد كيلومتر كامل. ومنها أيضاً تركيب عدسة جبَّارة في أسفل الطائرة المحضرة للمشروع قادرة على التقاط مشاهد من مسافات عالية، وعلى مساحات أرضية واسعة للغاية. وحيث إن بعض المشاهد كانت تحتاج إلى انتظار يصل إلى عدة أيام، وفي مواقع غير مؤكدة، فقد اعتمد تصوير المشهد أحياناً على عدة كاميرات مركبة في أماكن مختلفة تقوم بالتصوير تلقائياً من خلال التحكم عن بعد. والحقيقة أنه في جميع المشاهد تقريباً يكاد لا يكون لـ «فنية» المصوِّر أي دور يذكر، بل يكفي أن تكون عدسة الكاميرا مصوَّبة بالاتجاه الصحيح في ظروف إضاءة جيدة حتى يكون «المشهد الخلّاب» قد تم التقاطه بالفعل. ولا حرج في القول إن بعض أصحاب الرأي في التصوير الفوتوغرافي لا يعدون تصوير الطبيعة «فناً فوتوغرافياً» بالمعنى الفعلي للكلمة، إلاَّ في حالات يكون فيها للمصوِّر تدخل واختيار للقطة ذات ملامح واضحة وظاهرة. أما ما يراه الناس، ويعجبون به في العادة، من منظر خلاَّب لغروب أو جبل تغطيه الثلوج أو موقع أثري شاهق أو غيرها، ما يسمى تصوير «البطاقات البريدية» (Postcard Photography)، فهذا لا تجيّر له شهادات في فن التصوير، بقدر ما تجيّر له شهادات في الإتقان الحِرَفي، في حال امتاز بجودة حقيقية. وليس في هذا من انقاص لقيمته، إنما تمييز لابد من الالتفات إليه، خاصة ونحن نشاهد عملاً فوتوغرافياً وثائقياً على هذه الدرجة من الجَمَال.