إنه واحد من ألمع علماء الفيزياء في عصرنا. ولا يتردد البعض في القول إنه صاحب أعظم عقل علمي بعد أينشتين أو غاليليو.. إنه ستيفان هوكينغ الذي يجمع النبوغ العلمي من حياة شخصية بالغة الخصوصية ليشكل منهما ملحمة تتحدى خيال الروائيين.
صورته الفوتوغرافية مثيرة للتعاطف معه.. فالرجل الستيني مقعد على كرسي متحرك، ورأسه يتدلى على كتفه لعجز في القدرة على إبقائه مستقيماً، كما أن جهازاً مثبتاً في حنجرته يؤكد وجود مشكلة في قدرته على النطق.. ولكن، هيهات من أن تلخص هذه الصورة الفوتوغرافية المثيرة للشفقة سيرة الرجل ومكانته الساحقة والمثيرة للاحترام حتى حدود الإبهار.
نشأته.. ومكانته العلمية
ولد ستيفان وليم هوكينغ في أوكسفورد بإنجلترا في الثامن من يناير عام 1942م، وبعدما التحق لبعض الوقت بمدرسة سانت ألبانز في ضاحية لندن، انتقل إلى كلية أوكسفورد الجامعية. كان والده يرغب في أن يدرس الطب، أما هو فرغب في الرياضيات، ولما لم يكن في تلك الكلية قسم للرياضيات، انصرف إلى دراسة الفيزياء، وما هي إلا ثلاث سنوات حتى حاز شهادة شرف من الدرجة الأولى في العلوم الطبيعية.
بعد ذلك انتقل هوكينغ إلى جامعة كمبريدج لإجراء دراسات في علم الكون تحت إشراف الأستاذ دنيس سياما. وبعدما نال شهادة الدكتوراه في هذا المجال أصبح باحثاً ثم أستاذاً محاضراً.. وراحت شهرته العلمية تنمو مع كل بحث يجريه أو نظرية يطلقها، حتى توصل في العام 1979م إلى شغل كرسي هنري لوكاس في الجامعة، وهو الكرسي الذي شغله إسحاق نيوتن عام 1669م.
انصبّت جهود هوكينغ منذ سبعينيات القرن الماضي على دراسة القوانين الفيزيائية التي تتحكم بحركة الكون. راجع أهم النظريات العلمية، وتمكن من نقد أشهرها: نظرية النسبية العامة التي كان قد وضعها ألبرت أينشتين.
رددت الدوائر العلمية في العالم بأسره أصداء نظرياته واكتشافاته المتعلقة بحدود الكون، وما هية الثقوب السوداء التي عارض بشأنها أينشتين وأكد أنها لا بد وأن تكون غير سوداء تماماً، وتصدر أشعة، وبالتالي تتلاشى في أزمان لاحقة وتزول.
وضع كتباً عدة: الهيكلية الكبيرة لزمن الفضاء ، النسبية العامة، مراجعة لمناسبة مئوية أينشتين ، و 300 سنة من الجاذبية . كما أن بعض كتبه حققت رواجاً شعبياً قلّما عرفه علم الفيزياء مثل مختصر تاريخ الزمن ، الثقوب السوداء والأكوات الصغيرة ، وأخيراً الكون في قشرة جوز الصادر عام 2001م.
حاز البروفسور هوكينغ نتيجة دراساته وأبحاثه على اثنتي عشرة شهادة دكتوراه شرف، ونال من الأوسمة والميداليات والجوائز ما لا يمكن تعداده. وأصبح عضواً في الجمعية الملكية البريطانية، والأكاديمية الوطنية للعلوم في أمريكا. وحتى اليوم، لا يزال يتابع أبحاثه في الفيزياء النظرية، ويكيف اهتمامه بحياته العائلية (عنده ثلاثة أولاد وحفيد) مع برنامج حافل بالأسفار والمحاضرات في الصروح العلمية العالمية.
ولو أن تحقيق مثل هذا التفوق العلمي كان على يد فرد ذي حياة شخصية عادية لكان الأمر بحد ذاته مدعاة للدهشة، أما في حالة هوكينغ فللدهشة بالمقاييس الفلكية ما يبررها.
المرض الذي لا يقتل..
يزيده قوة
منذ فتوته، وستيفان هوكينغ يعاني من داء عضال يتمثل في إتلاف متدرج ومستمر لجهازه العصبي الموجه للعضلات (ALS). ويؤدي هذا المرض عادة إلى وفاة المصاب خلال 3 إلى 5 سنوات. ويتحدث الرجل عن مشكلته مع المرض بقوله: منذ أن كنت طفلاً لم أكن أتمتع بتنسيق جيد ما بين حركاتي. فلم أبرع في الألعاب، وكان خطي مصيبة بالنسبة إلى أساتذتي. وعندما كنت في السنة الثالثة بأكسفورد، لاحظت أني أصبح أخرقاً أكثر فأكثر، وتعثرت وسقطت مرتين من دون سبب. ولاحقاً عندما دخلت إلى جامعة كمبريدج كانت حالتي أصبحت بحاجة إلى استشارة الطبيب .
ويضيف: بعيد عيد ميلادي الحادي والعشرين دخلت المستشفى لأسبوعين لإجراء فحوصات مختلفة، أبلغني الأطباء في نهايتها أني أعاني من حالة لا نمطية من تلف في الجهاز العصبي، كل ما أكدوه لي هو أنه ليس تصلب الأنسجة (MS). ولكني فهمت منهم أن حالتي ستزداد سوءاً بمرور الوقت.. ولم أسأل عن الكثير من التفاصيل، لأني أيقنت أنها ستكون سيئة .
نصحه الأطباء بمتابعة أبحاثه في كمبريدج كان شيئاً لم يكن. ولكن الرجل كان محبطاً إلى درجة كبيرة لأن علمه بالرياضيات كان ضئيلاً، وقد لا يعيش حتى حصوله على شهادة الدكتوراه.
إن فكرة الموت قريباً كانت صدمة بالنسبة إلي. ولكني أذكر صبياً كان في سرير مجاور لسريري يحتضر لإصابته بسرطان الدم. فأحسست أن هناك من هم في أوضاع أسوأ من وضعي. فمرضي على الأقل ليس مؤلماً .
أصبح للحياة معنى
يصف هوكينغ حالته النفسية آنذاك بالقول: قبل تشخيص مرضي، كنت ضجراً من الحياة، وأشعر أن لا شيء يستحق أي مجهود. ولكني بعيد خروجي من المستشفى راودتني أحلام مضطربة. فحلمت ذات مرة بأنه سيتم إعدامي. وهناك حلم آخر راودني عدة مرات وهو أن أضحي بنفسي في سبيل إنقاذ الآخرين. فطالما أني سأموت فمن الأفضل أن يتخذ ذلك شكلاً مفيداً للآخرين. ولكني لم أمت. ورغم الغيمة السوداء التي كانت تحوم فوق مستقبلي لاحظت أني بدأت أستمتع بحياتي أكثر فأكثر. فتحسنت دراستي، وخطبت جين وايلد. وأمدتني الخطبة بالقوة بعدما صار في حياتي ما أعيش لأجله.. .
حصل هوكينغ على الدكتوراه، وتزوج وعاش في حرم جامعة كمبريدج ليسهل عليه التنقل على كرسيه المتحرك ما بين البيت وغرف التدريس بعدما أصبح أستاذاً. ولكن حالته استمرت في التدهور.
حتى العام 1974م كنت قادراً على تناول الطعام والنهوض من سريري بنفسي. ولكن أوضاعي راحت تسوء أكثر فأكثر. فاتفقت مع بعض تلامذتي على مساعدتي مقابل إيوائهم مجاناً وإيلائهم اهتماماً خاصاً في دراساتهم. بعد العام 1980م صرت أعتمد على ممرض خاص لساعة أو ساعتين صباحاً ومساءً .
في العام 1985م أصيب هوكينغ بالتهاب رئوي استدعى إجراء جراحة في صدره تدهورت بعدها قدرته على الكلام. قبل الجراحة كنت أتحدث بشكل ضعيف جداً، وقلة كانوا يفهمون ما أقوله. وكنت ألقي المحاضرات بمساعدة مترجم يكرر بصوت عالٍ ما يفهمه من كلامي. أما الجراحة فقد أودت بصوتي تماماً. وصرت أتواصل مع الآخرين من خلال رفع حاجبي للإشارة إلى الحرف المناسب على بطاقة تحمل حروف الأبجدية ويشير إليها محدثي لكي أؤلف كلمة..
ولحسن حظ هوكينغ أن تدهور حالته الصحية تزامن مع لمعان شهرته العلمية. فهبت جمعيات عديدة لتمويل الخدمات التي يحتاجها. ولعل أهمها جهاز الكومبيوتر الذي صممه له دايفيد مايسون ودمجه بكرسيه النقال مع نظام معقد رد لهوكينغ القدرة على الكلام، بحيث عاد اليوم يتحدث بسرعة 15 كلمة في الدقيقة.
ويلخص هوكينغ اليوم الحديث عن حاله بالقول: غالباً ما أُسأل: ما هو شعورك حيال المرض الذي تعانيه؟ فأجيب: ليس بالكثير. فأنا أحاول متابعة حياة عادية قدر الإمكان، ولا أفكر بوضعي، ولا أتأسف على الأمور التي يمنعني عن القيام بها، وهي بالمناسبة ليست كثيرة .