في قرية جنوبية تلوذ بأشجار اللوز ورائحة الحبق، تذكرُ أمي أن علامات الطلق الأولى جاءتها وهي تستسقي من بئر(القطعة). وبينما (الدلو) يتفايض بالماء كان مولود برج (الحوت) يتهيأ للخروج إلى الداخل أو للدخول إلى الخارج لا فرق، فالنتيجة واحدة.. عادت أمي وجاءها المخاض إلى جذع (الزافر)، عمود من شجر العرعر يسند سقف البيت، وبقرب (الملة) كانت ولادتي.. والملة حفرة دائرية غير عميقة توقد فيها النار من شدة برد الجنوب، تترمّد فيها النار والأحلام معاً.. كان ذلك في الخامس من مارس 1971م.
عشت طفولة ممزقة جغرافياً متوترة اجتماعياً. انتقلت مع الأسرة الصغيرة إلى تبوك ثم النماص ثم نجران ثم الجنوب ثم الطائف. وطاب القرار في واد غير ذي شعر في مكة المكرمة.
كل تلك الفضاءات المشحونة بالضوء والحُب والغناء والفقد، في بدايات الصبا بدأ الشاعر ينمو في عروقي ويتمدد في شراييني، وكتبت وارتكبت أول نص أو نصل عبر خاصرة الورق والأرق بعد أول رفّة قلب.
كنت أجيء للطائف كزائر مبهور بقشور المدينة وفتوة الحارة الذين يتهكمون على هذا الولد القروي الساذج، ولم أعرف أني سأغرق يوماً في سحر وعطر وشعر هذه المدينة الغافية في أحضان العشب، المتأرجحة بين أهداب الغي وأعشاب الغيم..
الثانوية، مرحلة التشكّل الأولى، حيث فتح (منهج النصوص) بالصف الأول ثانوي نخاعي المستطيل على أشعار الحُب والغزل. كان منهجاً شهياً.. حيث شعراء المعلقات والحُب العفيف.
في الطائف.. عصر التنوير والمرحلة الجامعية وطلال مداح/صداح يموّل:
مهد الغرام ومرتع الغزلان/ حيث الهوى ضرب من الكتمان
جئت إلى هذه المدينة غريباً فآوتني، وضالاً فهدتني، ومتمرداً فاحتوتني بجنونها ومجونها.. وعائلاً فأغنتني بصهيل أفراسها وهديل حمائمها التي تكنس العتمة كلما أستبدّ بي الحنين.
وبسبب الغواية الشهية من الدكتور عثمان الصيني والدكتور عالي القرشي اللذين تهجَّا نبوغاً ربما شعرياً أو كتابياً في سحنة هذا الفتى القروي الذي يعرّش الشيح بين أصابعه وتخضر حقول القمح في عينيه العسليتين، حوّلت تخصصي من الرياضيات إلى اللغة العربية. وكان ذلك في نهاية الثمانينيات الميلادية، حيث الصراع بين الحداثة والتقليد في أوجه.
كانت تلك الفترة مشبعة بالهذيان والقراءة السافرة والكتابة المندفعة والنشر الغزير في أغلب الصحف والمجلات وبالأخص صحف: البلاد، عكاظ، المدينة.. وقد أفادني كثيراً تعرفي على الصديقين الشاعرين الحميدي الثقفي وخالد المحاميد، نتبادل الكتب ونتقاسم الشعر والجنون والصعلكة، شكلنا ثلاثياً مثيراً وخلاقاً.
التقيت في مكة بالشاعر الكبير محمد الثبيتي مصادفة وهو يصرف (معاشه) في أحد البنوك التجارية، وكنت قد قرأت تجربته في دواوينه الثلاثة وقتها.. حتى ارتقى مرتقىً صعباً في ديوانه التضاريس.
وأخيراً.. ومنذ بدأت أكتب المقالة شبه اليومية سابقاً في صحيفة عكاظ وحالياً في صحيفة مكة بدأت أشعر بتصحّر الروح، ونضوب مناهل الشعر في داخلي، وهذا يفزعني كثيراً، ولكن لعلها استراحة عاشق أضناه الركض في مضمار الحياة الطويل.
شعر خالد قـمّاش
خمس تراتيل
(1)
وتأتين كالحلمِ ..
مورقةً بالحنين،
ومترعةً بالشجن ..
تدلـّت على غيمةٍ من أنين ..
وممتدةً فوق جرح السنين!
(2)
وتأتين كالغيب ِ ..
مكتظة ً بالذي قد يكون ..
لنا مانرى ..
ومالا نرى :
«مثمراً بالغواياتِ حيناً،
وحيناً نجدهُ ..
مسجّى بعطر الظنون»!
(3)
وتأتين كالليل ِ ..
أغنية ً من سهاد ،
تذوب ُ بأنغامها شهقة ٌ ..
لترشفني جعّة ً من نبيذ..
وحبرا ً شهيَّ المداد !
فتثمل ُ بالشعر ِ سكرى ..
تـُردّدُ أهزوجة ً للنساءْ :
«أيا امرأة ً..
لا شبيهَ لها في البلاد»..!
(4)
وتأتين كالصبح ِ ..
عصفورة ً من شجن ،
و(فيروز) نصل ٌ بخاصرة الشمس ِ ..
تنزف ورداً..
وأنشودة ً للوطن ..!
(5)
وتأتين كالشعر ِ..
مفعمة ً بالقلق ..
كأنك ِ نصٌّ شجيٌّ ،
على حفنة ٍ من ورق !
كأنك وحيٌّ عليٌّ ،
وقديسة ٌ من ألق !
كأنك موجٌ عتيٌّ /
………. … ….. قصيٌّ /
………. …. ………. …… نديٌّ
يخيّرني بين موتي البعيييييييييد ..
وبين ا لــ ..
………. …. غ
………. ………. …… ر
………. ………. ………. ……… ق !
في رثاء فارس عربي
قبّـل يديه ..
فإن لي روحا ً
تنزّ بطينها وجعا شفيف
لم تبتسم الا له ..
وما بكت إلا عليه!
******
قبّـل يديه ..
فإن لي عينا ً
تحدّق في الورى ..
فلا ترى
إلا سديما ً خالط الإغماءة الأولى ..
وعـتـّـق صحونافي غيمتيه !
******
قبّـل يديه ..
فإن بي شعراً
تشـكـّل في عروقي خاشعا ً
صلى صلاة القهر ..
قبل أوانه
صلى صلاة الصبر ..
حين أوانه
صلى صلاة الحبر ..
بعد أوانه
ورتـّل ما تيّسر
من شظايا وردةٍ..
في وجنتيه !
******
قبـّل يديه..
فما يزال بغصنه
ولها ً لعصفور ٍتغنـّى..
أو نقل : قلبا ً تمنـّى
أو نقل : جرحاً تدلـّى
فاتنا ً من مــقـلــــتـــيـــه!