مثل كل المنتجات الكبيرة، يتطلب الفيلم السينمائي عمل مئات الأشخاص غير الممثلين، ولكل منهم دور واختصاص مختلف.
فما هي المهن السينمائية لهؤلاء الذين يعملون على الفيلم في الكواليس ولا نرى منهم إلا أسماءهم؟ وكيف تتقاطع العلاقات ما بين هؤلاء فيما يشبه توالي المغامرات التي تبدأ مع كل فيلم وتنتهي بنهايته؟
من يعمل ماذا
في الفيلم؟
إبراهيم العريس
هي، ثلاث أو أربع دقائق تلي ظهور كلمة النهاية التي تنهي أحداث الفيلم. خلال تلك الدقائق تكون الشاشة عادة سوداء اللون فيما تتوالى صعوداً أسماء وسطور ومعلومات قليلاً ما يتوقف المشاهد عندها. هو يعرف طبعاً أنها تتعلق بالعاملين في الفيلم. من هنا قد يعتبر ظهورها مناسبة له لكي يترك مقعده في مواجهة جهاز التلفزيون ليتوجه إلى المطبخ لبعض شؤونه في انتظار الفيلم أو البرنامج التالي. لكنه إن كان فضولياً، سيتوقف ويبحلق في الشاشة محاولاً فك الألغاز: ماذا تعني هذه الوظيفة من وظائف العمل في الفيلم، أو تلك؟ لماذا هذه الأسماء كبيرة الحروف وتلك صغيرتها؟ لماذا هنا مجموعة أسماء وهناك أسماء مفردة؟ ثم، عجباً يقول في نفسه، ما للأسماء تبدو وكأنها منظمة الأمم المتحدة آتية من شتى الأصقاع والثقافات؟ وقد يروقه، إن كان عربياً، أن يلاحظ وجود أسماء عربية في أفلام أمريكية أو أوروبية.
إنها لعبة تكاد تكون يومية، في زمننا هذا، إذ صار التلفزيون المكان الأثير لعرض الأفلام. ففي الماضي، حين كانت صالات السينما هي المكان الطبيعي للعرض، كان المتفرجون يسارعون إلى مغادرة الصالة مع كلمة النهاية فيما الأسماء تتوالى وما من ناظر إليها. أما اليوم فالأمور تبدّلت. ومن هنا قد يكون مفيداً أن نضع برسم الراغبين هذا القاموس الصغير الذي يتحدث عن بعض أبرز المهن السينمائية، ولا سيما منها ما قد ينغلق على الناس عامة، من دون التوقف عند مهن لا تحتاج إلى تفسير مثل التمثيل وتأليف الموسيقى والأغاني للفيلم، أو صف الشعر أو التبرّج.
• الفكرة (The IDEA) هي أول ما يوضع، وتتناول، من قبل واضعها الذي قد يكون المخرج أو كاتب السيناريو أو المنتج، موضوع الفيلم الأساس ونوعيته وأسلوب تحقيقه، وربما أيضاً اقتراح أسماء أبطاله، إن كان الفيلم العتيد من النوع الذي يكتب أصلاً على قياس نجوم معينين. كما أن الفكرة قد تكون مجرد اقتراح لتحويل عمل إبداعي آخر (قصة، رواية، مسرحية، سيرة شخصية) إلى فيلم. وهذه الفكرة تكون أول ما يَعرض على المنتج أو المخرج للبدء في الاشتغال على المشروع.
• المنتج (Producer) هو، عادة، أول من تصل إليه الفكرة، على اعتبار أنه الطرف المولج بالعثور على تمويل لها. ومعه يتم التباحث بشأن بقية العاملين الأساسيين في المشروع. وعلى عكس ما هو شائع، ليس المنتج من يمول الفيلم من ماله الخاص، بل هو الذي يدبّر المال ويتولى إنفاقه تبعاً لمراحل تنفيذ الفيلم. وهو عادة، بعد أن تروق له الفكرة، يفكر بمن سيخرجها، وبمن سيمثل فيها، ويقدر لها ميزانيتها الأولية، ويدرس من أين سيأتي لها بتلك الميزانية (من الأستديوهات .. من البنوك .. من الموزعين .. أو حتى أحياناً من جيبه الخاص على شكل استثمار يحسب أنه سيعود عليه بأرباح ما). وبعدها يكلف صاحب الفكرة بتحويلها إلى معالجة، ثم إلى سيناريو إذا كان قد توصّل إلى تحديد من سيخرج الفيلم. وفي العادة يشارك المخرج في كتابة السيناريو.
• المعالجة (Treatment)، هي التوسع في الفكرة، إلى ما يتراوح ما بين 20 و 22 صفحة من القطع الكبير، في نص يحدد البنية العامة للشخصيات والديكورات والغاية من كتابة المشروع، وكيف ستنتهي الأحداث، مع إطلالة أولية على تطور سيكولوجيا الشخصيات. وهو الأمر الذي سيجعل دراسة الميزانية أدق، ويحدد من سيمثل في الفيلم وأين سيتم التصوير. وإذ يتوافق المعنيون، مبدئياً، على هذه المعالجة، ننتقل إلى مرحلة كتابة السيناريو، بالتزامن مع الاهتمام بتجميع فريق العمل، وتدبير الأموال اللازمة للفيلم.
• السيناريو (Script – Scenario) هو تقطيع أحداث الفيلم إلى مشاهد، والمشاهد إلى لقطات. والمشهد عادة هو أحداث تدور في مكان واحد، وزمان واحد. أما اللقطة فهي ما تصوّره الكاميرا من دون توقف. وهي على أنواع وكل نوع يرتبط بدور اللقطة في المشهد. ويكتب السيناريو في نسخ عديدة، كل منها تدخل تعديلات على سابقتها. وعادة ما يتدخل المخرج في كتابة نسخة التصوير، التي قد يتواصل العمل عليها حتى اللحظات الأخيرة من إنجاز تصوير الفيلم.
• بشكل عام تأتي كتابة الحوار (Dialogue) بعد كتابة السيناريو الحركي والحدثي. وفي العادة يكتب مؤلف السيناريو، الحوارات الأساسية، ثم يؤتى بأديب متخصص لصياغة الحوارات بشكل تفصيلي. وكان ثمة في هوليوود أيام عز السينما الشعبية متخصصون في الحيل الكلامية، من الذين يؤتى بهم، بعد إنجاز السيناريو والحوار، لكي يضيفوا نكتاً لفظية معينة، أو سجالات كلامية أو ما شابه ذلك.
• المخرج (Director) عندما يصبح السيناريو جاهزاً مع حواراته، يبدأ الدور الحقيقي للمخرج، الذي هو بدءاً من تلك اللحظة سيد الفيلم من دون منازع. لكن عمله لا يبدأ مع التصوير، بل قبل ذلك، حين يبدأ اجتماعاته مع كبار مساعديه، والممثلين وبقية الذين سيعملون في الفيلم، وخاصة مع مدير التصوير ومصمم الديكور ليقرأوا السيناريو معاً، ويعطي تعليماته ويحدد فلسفته في العمل. والمخرج كما نعرف هو الذي يشرف على كل كبيرة وصغيرة، من تفاصيل السيناريو، إلى أساليب التمثيل والتصوير إلى اختيار اللفظات إلى تحديد أماكن التصوير والديكورات، وصولاً إلى التوليف ومزج الصوت والملصق والموسيقى. بل كان يقال عن المخرج ستانلي كوبريك (صاحب أوديسة الفضاء و البرتقال الآلي ) إنه كان يزور صالات العرض التجارية سراً، خلال عرضها أفلامه، لملاحظة ما إذا كان ثمة خلل تقني في الصوت أو الصورة قد يسيء إلى الفيلم وعلاقته بمتفرجيه.
• مساعد المخرج (Assistant Director) هو المنفذ التقني لمتطلبات المخرج حين يكون منهمكاً في العمل على الفيلم، ولا سيما خلال التصوير. فهو الذي يحضّر الممثلين لأداء أدوارهم ويتولى – مع مساعدين عديدين لكل منهم اختصاصه – تلقين الحوارات، وضبط إيقاع الملابس، ومتابعة شؤون تظهير اللقطات يومياً، وتعيين مواعيد التصوير. إنه المشرف الحقيقي على عمل الفريق.
• المنتج المنفذ (Executive Producer)، وهو غير المنتج. ويعمل بالتنسيق اليومي مع المخرج ومساعدي الإخراج، وغيرهم. وعلى عاتقه تقع مهمة التنفيذ اليومي للعمل وضبط أوقات التصوير، وكل ما يتطلبه هذا من معدات وأشخاص. وفي تصرفه توضع ميزانية الفيلم عادة وعليه هو أن يلائم بين ما لديه من ميزانية، وبين ما سوف ينفق في الفعل. ولقد اعتاد الإنفاق أن يتجاوز التوقعات، ما خلق مشكلات وصراعات بات بعضها يشكل جزءاً من أساطير السينما.
• اختيار الممثلين (Casting). بشكل عام تنتج الأفلام الكبيرة انطلاقاً من عقود مسبقة مع نجوم كبار.. ومن هنا ندر أن شمل الكاستنغ هؤلاء النجوم. و الكاستنغ يقوم به عادة شخص، أو مؤسسة، يقرآن السيناريو جيداً، ويدرسان مَنْ مِن النجوم والممثلين، يلائم هذا الدور أو ذاك، فيتم الاتصال بهم لعرض العمل عليهم، ثم يؤتى بهم إلى حيث يجرون تجارب أمام المخرج ومساعديه ليتم اختيارهم بعد ذلك وتوقيع العقود ومعهم.
• بعد هذه الاختيارات التمهيدية، يبدأ دور مصمم الإنتاج (Production Designer)، الذي يشكل حلقة وصل بين الطبيعة التنفيذية الإنتاجية للعمل، وبين الطبيعة الفنية. وهو يعمل بالتناسق مع المخرج تبعاً لأهمية كل مشهد ولقطة والصورة النهائية المتوخاة منهما في سياق الفيلم. والعمل الرئيس في هذا المجال، له علاقة بأن تأتي الصورة (من ديكور وملابس وأجواء وكومبارس) في أنسب سياق ضمن إطار حكاية الفيلم وبعده البصري.
• وهذا يقودنا، بالطبع، إلى المدير الفني (Art Director) الذي يتولى، بعد اجتماعات عديدة مع المخرج، ومساعديه، وبعد قراءة السيناريو بشكل دقيق، وضع اللمسات الفنية واللونية لكل ديكور ومشهد، وذلك تبعاً لمخططات توضع سلفاً وتسمى ستوري بورد . ونعرف أن بعض لوحات الستوري بورد باتت تعتبر تراثاً فنياً كبيراً، لها معارضها ومتاحفها وأسعارها في المزادات العلنية.
• مدير التصوير (Director of Photography) هو، بشكل عام السيد إضاءة في الفيلم. فهو يتولى شؤون الكاميرا بشكل مباشر ويكون مسؤولاً عن حجم ونوع الإضاءة المعطاة لكل لقطة ومشهد. وهو عادة ما يكون تقنياً وفناناً في الوقت نفسه. فهو الخبير الأول في استخدام المرشحات اللونية، وتصوير الليل نهاراً، والنهار ليلاً، واضعاً مسحات من الضوء والظل على وجوه الشخصيات، خاصة لاستخلاص أبعاد سيكولوجية من تلك الوجوه، بالترابط مع نوعية وأهمية العدسات المستخدمة.
• ملاحِظة السيناريو (Script Girl) وظيفة تقوم بها، في أغلب الأحيان، سيدة؛ لأنها مهمة تتطلب دقة وصبراً. وملاحظة السيناريو هي التي يكون بين يديها يومياً تفاصيل ما سوف يصور، فتضبط ما يسمى تسجيلات الملابس والحركة والديكور لكي تأتي غير متناقضة مع ما كان صوّر في يوم آخر، والمفترض به أن يكون آتياً في نفس السياق الحدثي (مثلاً يصوّر ذات يوم خروج ممثل من بيته، لكي يصور في يوم آخر وصوله إلى مكتبه، تبعاً لبناء الديكورات.. وملاحِظة السيناريو هي التي تحرص على أن يرتدي الثياب نفسها. ويكون بالمزاج نفسه، لكي يشعر المتفرج حقاً أن تصوير المشهدين أتى متتابعاً..). وخلال التصوير، تتولى ملاحِظة السيناريو، تسجيل كل المعلومات التقنية والترقيمية المتعلقة باللقطة المصورة في سجلات، لن يكون من دونها ممكناً تركيب (توليف) الفيلم لاحقاً.
• ومعظم المعلومات التي نذكرها هنا، وهي تتعلق بكل لقطة وتاريخ تصويرها، وانتماء اللقطة إلى مشهد معين، تكون مسجلة على لوحة تسمى كلاكيت ، يحملها شخص هو في الأساس مساعد لملاحِظة السيناريو، ويدوّن المعلومات لقطة بلقطة ليصور اللوحة لثوانٍ قبل كل لقطة مصورة، معلناً بصوت واضح التفاصيل المكتوبة، قبل أن يخبط قطعة خشبية على طرف أعلى الكلاكيت، التي هي عادة لوحة سوداء مربعة. كثر يعتبرون أن تلك الخبطة ترفاً، لكنها في الحقيقة شديدة الأهمية في المطابقة اللاصقة بين ما تصوره الكاميرا من المشهد، وما تسجله آلة تسجيل الصوت من حوارات.
• والحوارات تسجل عادة مع التصوير، على يد مهندس صوت متمرس، يساعده أشخاص عديدون من بينهم حامل لاقط الصوت بيرشمان . واللاقط هو عبارة عن عصا طويلة جداً ثبت الميكرفون أعلاها. ويتولى حامل العصا، تحريكها مع تحرك الممثلين بشكل فني يجعل الكاميرا غير قادرة على التقاطها.
• وعندما ينتهي هذا كله، بعد أسابيع من التعب والختامات الصغيرة والكبيرة، وبعد ليالٍ من أرق المخرج ودلال الممثلين النجوم، وزعيق المنتج، وإشاعات الصحفيين، وفي وقت يكون فيه معظم العاملين قد انصرفوا إلى أفلام جديدة يعملون فيها، يبدأ العمل الأهم للمخرج: عمله مع المؤلف في غرفة المونتاج. تقنياً هذه العملية بسيطة وواضحة: إنها تقوم في تركيب اللقطات مع بعضها البعض لتتحول مشهداً، ثم تركيب المشاهد مع بعضها البعض لتتحول فيلماً. وهذا العمل هو الأصعب. من الناحية الإبداعية. ومن هنا يقول المخرج الإنجليزي جون بورمان من أن تحقيق الفيلم لا يبدأ إلا في غرفة التوليف. والعملية هي تماماً مثلما يحدث حين يكون لديك مئات الكلمات المصاغة بشكل جديد، ولكن يبقى عليك أن تجمعها في عبارات مفيدة ثم في صفحات مقروءة.
• وانطلاقاً من عملية المونتاج (التوليف) التي تنفذ كلها فوق طاولة تسمى موفيولا يمرر عليها الشريط، لقطة لقطة، ويعمل فيه المؤلف، تحت إشراف المخرج قصاً وتلصيقاً ألف مرة ومرة في اليوم، انطلاقاً من هذه العملية تأتي، بالتوازي مع تقنيات العمل من طبع وتظهير ومونتاج سالب ومونتاج تركيب موجب، عملية المكساج، أي مزج الصوت بالصورة. وهي عملية يصبح الفيلم بعدها جاهزاً فيما يسمى بـ النسخة صفر أي النسخة التي تعرض أمام أصحاب الفيلم ليتناقشوا حولها نقاشاً نهائياً. فإذا اتفقوا، تطبع في نسخ توزع على دور العرض.. وإذا لم يتفقوا، تكون هناك تعديلات يتم التوافق عليها.
في انتظار ذلك كله يكون الموزع في انتظار الحصول على النسخ ليرسلها إلى دور العرض، إنما بعد الحصول على ما يسمى بـ الدعاية ، وهي الملصقات الخاصة بالفيلم، والصور التي ستعلق في الصالات أو توزع على الصحف وما إلى ذلك. وفي خدمة هذا الموزع، الذي عليه أن يحقق الأرباح لتمكين المنتج والعاملين معه من تحقيق مشروع جديد، هناك مصمم الملصق الذي يكون فناناً ذا خبرة كبيرة في سيكولوجية الجمهور، تمكنه من تحقيق ملصق جذاب حقاً. ولا يبقى على الجمهور عند مشاهدة الملصق سوى التوجه إلى شباك التذاكر.
من الكتابة إلى الشاشة:
المغامرة تلو المغامرة
محمد رضا
كان العمل على تصوير فيلم النوم الكبير بلغ منتصفه سنة 1964م. التصوير انتهى. المخرج هوارد هوكس والممثل همفري بوغارت لجآ إلى استراحتهما منهكين. بال الممثل كان مشغولاً. قال للمخرج: هوارد. هناك شيء يزعجني في الفصل الأخير من الأحداث. أنا لا أفهم مجمل الألغاز التي يحتويها هذا السيناريو. هل هذا طبيعي؟ .
أمعن المخرج تفكيراً ثم قال: أعتقد أنني أعلم ما تقول. وأنا أيضاً لا أفهم ما هو ناقص في هذا السيناريو. كيف تصل الأحداث إلى تلك النهاية. دعنا نتصل براي ونعرف منه الحقيقة .
راي هو رايموند تشاندلر، أفضل من كتب القصة البوليسية، لأن القصة البوليسية ليست فقط جريمة تقع لغزاً يزداد اتساعاً قبل أن يتساقط في مرحلة أخيرة ليفصح عما حدث، بل هي أيضاً تعليق اجتماعي وسيرة حياة مثقلة. ورايموند أمّن المستويات المختلفة وأضاف إليها أسلوب سرد لا مثيل له إلى اليوم، وهو الذي كتب النوم الكبير وبالتأكيد سيعرف ما هو ذلك الشيء الذي يزعج ويحيّر المخرج والممثل. حين اتصل به هوارد هوكس، وهو بدوره أحد كبار مخرجي هوليوود آنذاك، وسأله عن رأيه فيما يواجهانه، صمت الكاتب وقال أعلم أن هناك تراكماً في المواقف المتباينة وعلى فيليب مارلو (الشخصية الرائدة في روايات تشاندلر) أن يحلها، لكني لا أعرف كيف فعل ذلك .
لم يكن رايموند تشاندلر يمزح، فأغلق هوارد هوكس السمّاعة والتفت إلى همفري بوغارت وقال له: سنكمل كما هو وارد في السيناريو. هو أيضاً لا يعلم .
النتيجة كانت رائعة. النوم الكبير من بين أهم الأفلام كيفما قلبته: كفيلم بوليسي، كفيلم تحرٍ خاص، كفيلم لهوارد هوكس، كاقتباس أو كأحد كلاسيكيات هوليوود قبل عصر التلفزيون وما بعد. لكن ما قام به هوكس من مخاطرة كان بالغاً. لو أن المسألة التي أزعجت الممثل في شخصيته وفي توارد الأحداث كانت ثغرة حقيقية لظهرت على الشاشة مثل ثقب واسع تتسلل منه باقي أحداث الفيلم حتى يفرغ من كل حسناته. الثابت أن سيناريو النوم الكبير لم يكن أقل إتقاناً من الرواية التي نقل عنها. لكن الجميل في الفيلم هو أنه لا يزال يظهر أن هناك شيئاً آخر غائباً. إلى اليوم لم يضع أحد يده عليه.
ما نيل المطالب بالتمني
مثل هذا الوضع لا يتكرر في السينما إلا على حساب الفيلم. لا تستطيع أن تكتب سيناريو فيلم تاركاً ثغرة ما لم تستطع التغلّب عليها، ولا تستطيع أن تعتقد أن المخرج سيستطيع ذلك. الثغرة في الكتابة تبقى كما هي إلا إذا تم إصلاحها قبل التصوير إما على يد الكاتب الأول أو بالإستعانة بكاتب آخر. أما إذا ما تم نقل الفيلم والثغرة ما زالت موجودة فعلى الغالب إنها ستبقى.
يعكس هذا أهمية السيناريو في العمل بأسره. لا أحد يستطيع أن يتصوّر إمكانية صنع فيلم من دون سيناريو، وفي حين أن العديدين يعمدون إلى الفيلم من دون كتابة متكاملة إلا أن السواد الأعظم من الأفلام، منذ أن كانت عبارة عن كوميديات ودراميات صامتة من عشر دقائق، قام على وجود خطة عمل للقصة المنوي سردها يُسمى Script ويسميها البعض نقلاً عن الفرنسية، بـ السيناريو .
في هوليوود كما في سواها، لا يمكن لحالم بمشروع يكتبه للسينما التوجه إلى المنتجين بفكرة من بضعة أسطر ولا حتى بمعالجة من بضع صفحات. الجميع يطلب السيناريو أولاً، باستثناء مرات قليلة في العقدين الماضيين كانت فيها المشروعات تُباع بناءً على قوّة كاتبيها.
هناك قصة تُروى عن كاتب بعث بسيناريو لمنتج في شركة وورنر، وحين تعذّر عليه الاتصال به لأخذ الجواب، جاء المكتب بلا موعد. ربط يده بمقبض الباب بقيد ذي قفل ورمى المفتاح حيث لا يستطيع أحد الوصول إليه. وتطلّب الأمر رجال بوليس وخبير قيود ليحرر الباب من الكاتب أو العكس. وفي العام 2000م قام طالب في إحدى مدارس السينما اسمه سايمون كنبيرغ بكتابة فكرة فيلم وإرسالها إلى الكاتب والمنتج أفيكا غولدمان الذي طلب منه كتابة سيناريو أول. في العام ذاته سلّم الطالب النسخة الموعودة فردّت إليه لأنها بحاجة إلى تصليحات شديدة. في العام 2001م وبعد نحو خمس نسخ منقحة تمّت الموافقة على شراء السيناريو ليُعاد إلى الكاتب نحو عشرين مرة خلال العامين التاليين، قبل أن تقرر هوليوود إنتاجه تحت اسم مستر ومسز سميث ، الفيلم الذي بوشر بعرضه في مطلع هذا الصيف من بطولة براد بت وأنجلينا جولي.
فهم السوق
لو أتيح لك أن تبيع سيناريو في مصر، فإن الشروط المسبقة قد تكون تعجيزية فيما لو أردت تحقيق عمل تفتخر به، وذلك في ظل ظروف غير مواتية للمبدعين حالياً. فما البال إذاً في هوليوود حيث نصف من فيها يكتب سيناريوهات ويأمل بإنتاجها. المؤكد أن هناك بضعة طرق للوصول، لكن أياً منها ليست مضمونة. التنازل واحد منها. وهو تنازل قد يبدأ بالكاتب الذي عليه أن يفهم السوق ويحاول بيعه ما يعرف أنه يحتاجه، وبهذا ترتفع نسبة نجاحه.
في هوليوود السابقة كما في هوليوود اليوم هناك أنماط مستخدمة تعكس الغاية التجارية الصرفة ويمكن ملاحظتها في شتى أنواع الأفلام. ولو شئنا أخذ مثال حالي فإن الوحش – القريب (Monster-in-Law) بطولة جنيفر لوبيز وجين فوندا هو أفضل مثال حديث: ضع امرأتين إحداهن في مواجهة الأخرى. وزّع المقالب بينهما. صوّرهما على أنهما بالغتا العداوة ثم قبل النهاية خزّ ذلك البالون الحابل بالعداوة ليصطلح الأمر بينهما وينتهي الفيلم بهما وهما أقرب لأن يكونا من لحمة واحدة.
حتى تكتب سيناريو (رديئاً) كهذا، عليك أن تفهم السوق جيداً وتعمل، كما الحال في المحطات التلفزيونية، ضمن تعليمات جاهزة. لكن هذا ليس كل شيء. كاتب السيناريو عليه أن يكون ملمّاً بالميزانيات. حين يكتب عليه أن يعرف إلى أي مدى يستطيع أن يذهب بمغامرته تلك. إذا ما قام منتج بإسناد مهمة الكتابة إليه، فعليه أن يسأله عن حجم الفيلم الذي يراد منه كتابته. ذلك لأن الكاتب لا يريد أن يبحر في الكتابة فيصوّر مشاهد تتطلب مؤثرات ضخمة أو التصوير في أكثر من بلد أو بعض المشاهد التي لا يمكن حصر نفقاتها إلا إذا ما كان لديه ضوء أخضر للغاية.
ضمانات في بحر المغامرات
هناك مراحل كثيرة يمر بها المشروع من الفكرة إلى الثمرة. بعد الكتابة يأتي دور الاختيارات الصحيحة. من يمثّل. من يخرج. من ينتج. من يكتب الموسيقى. من يقوم بالتصوير. وعادة ما ينكب المخرج والاستديو والمنتجين على حل هذه المسائل ثم تركها لمتابعين.
من أصعب المراحل هناك الإنتاجية. فما يحصل هو أن الذي يشتري السيناريو لينتجه ليس بالضرورة المموّل. وإذا ما قام المنتج بشراء سيناريو ما، فغالباً ما يشتريه لفترة محدودة (Option) أقصرها ستة أشهر وأطولها سنتان. عليه خلال هذه الفترة أن ينجح في جذب التمويل إلى مشروعه وإلا صار عليه إعادة الحقوق إلى الكاتب. حقيقة أنه اشترى حقوق السيناريو وحقيقة أنه تكلّف عدة أعمال إدارية وربما سفريات لحساب المشروع لا يعني أنه موّل . فهو لن يضع كلفة الفيلم الكاملة (من خمسة عشر مليوناً إلى 150 مليوناً بالنسبة لفيلم تجاري) من جيبه حتى ولو امتلك المبلغ (ولو أن هناك استثناءات معيّنة). فلكي يقبل الأستديو بالتمويل عليه أن يدرس المشروع لنواحيه التجارية البحتة. عليه أن يعرف إذا ما كانت مغامرته مضمونة العواقب أم لا. هل القصة جيدة أو لا؟ هل المشروع مناسب لكي يسند الدور إلى نجم كبير ويتحمّل أجره؟ من هو المخرج المناسب وهل في تاريخ هذا المخرج ما يشفع له بإدارة فيلم من هذا النوع؟
إنها أسئلة مشروعه ضمن المفهوم الذي ينطلق منه، وهي ما سيطرحه المصرف الذي سيدين. كما أن بعض الجوانب المهمة ستلعب أدوارها لاحقاً. هناك اليوم، على سبيل المثال، شركات تأمين لكي تؤمّن سير العمل. حين عبّر المخرج الإيطالي الكبير مايكل أنجلو أنطونيوني عن رغبته بالعودة إلى الإخراج بفيلم ما وراء السحاب في العام 1998م أصرّت شركة الضمان على أن يقف على مقربة منه مخرج شاب فقط من باب الحيطة، لأن أنطونيوني كان بلغ الثمانين من العمر حينها والخوف كان أن يسقط من الإعياء فيتضرر الفيلم.
إن القيام بإنتاج فيلم أمر بالغ التعقيد حتى لأبسط الأنواع. في الأساس، الفيلم هو نتاج جماعي مهما سيطر المخرج على نواحيه. وهو، أيضاً وفي عالم اليوم بالتحديد، يحتوي على تفاصيل عديدة ومحاذير كثيرة تجعل صنع الفيلم مثل السير في حقل من الألغام. وفي عالم متغيّر تتنوّع أكثر فأكثر العناصر التي يستند إليها الإنتاج في هذه الأيام. فهناك أفلام يستولي النجم على مقدّراتها، وهناك أخرى تؤول أسباب نجاحها إلى المؤثرات وحدها. وجزء منها ينجح بسبب اسم لامع لمخرجه، بينما تنجح أفلام أخرى من دون أن يكون فيها أي إسم معروف وذلك بناءً على قوّة النوع (كأفلام الرعب مثلاً).
المؤكد هو أن كل فيلم من الخمسة آلاف فيلم التي تنتج سنوياً حول العالم لديه قصة مختلفة وسبيل عمل خاص. ومع أن وسائط العرض ازدادت بحيث شكّلت أخيراً منافساً كبيراً للوسيط الرئيس ألا وهو الشاشة الكبيرة في الصالة التقليدية، إلا أن المهارة هو تحويل هذه الوسائط إلى منافذ تجارية مربحة. وهذه وحدها معركة أخرى كبيرة.