يمكن لإهداء كتاب إلى جهة أو أحد ما أن يتخذ أكثر من شكل، وتتراوح دوافعه ما بين الاعتراف بتميز العلاقة ما بين الكاتب والمُهدى إليه، والمجاملة الشكلية التي تفرضها الدواعي التجارية.
عن الإهداءات المثبتة على الكتب يحدثنا الكاتب والشاعر
حسن السبع، أما إهداء النسخة
فمساهمة من مكتب القافلة
في بيروت.
أبيض وأسود الإهداءات
حسن السبع
إذا استثنينا المؤلَّفات الأدبية والفكرية، فأغلب الهدايا تقدم، هذه الأيام، ملفوفةً بالصمتِ وورقِ السوليفان. أما هدايا الأسلاف فغالباً ما تقدم مزيَّنة بنصوص شعرية أو نثرية تفيض بالدلالة، وتعبّر عن مشاعر المتهادين. تدوّن الإهداءات، قديماً، على القمصان والمناديل والأطباق والقناني والأواني الفضية والذهبية والكؤوس وآلات الطرب والمراوح والأقلام.
وقد أفرد أبو الطيب محمد بن إسحق الوشّاء فصلاً ممتعاً في كتابه (الموشَّى) تناول فيه نماذجَ متعددةً من الإهداءات على غرار هذا النص الذي طُرِّز به منديلٌ يبدو أنه مُهدىً من سيدةٍ إلى أخرى:
أنا مبعوثٌ إليكِ
أُنْسُ مولاتي لديكِ
صنعتني بيديها
فامسحي بي شفتيكِ!
ولم تُستَثنَ الفواكهُ كالتفاح والسفرجل من تلك الكتابات، فقد كتب أحدهم على تفاحة هذا الإهداء:
خطَّت يميني فوق تفاحةٍ
أقلقني هجركَ يا قاتلي!
وكُتبَ على أخرى:
أنا للأحبابِ بالسّرِ وبالوصلِ رسولُ
أُتهادىَ فأُرِقّ القلبَ، والقلبُ ملولُ
إهداءات الماضي
وإذا كان الكاتب أو الشاعر، في أيامنا هذه، يُهدي مؤلَّفه إلى شخص واحد فيقرأه آلاف القراء، فقد كان الكاتب، قبل اختراع الطباعة، يؤلف من أجل قارىء واحد هو الخليفة أو الوزير أو الوالي أو الأمير، كما فعل أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ حين ألف كتابه (التاج في أخلاق الملوك) وأهداه إلى الوزير الفتح بن خاقان – وكان هذا مولعاً أشد الولع بالكتب، وشديد الإعظام والإكرام للأدباء والشعراء – أو كما فعل الدبلوماسي والفيلسوف الإيطالي نيقولا مكيافيلي الذي ألف كتابه (الأمير) وأهداه إلى جوليانو دي مديتشي حاكمِ فلورنسا.
وبخلاف أساليبنا الحديثة في الإهداء، درج القدماء على الإشارة إلى الإهداء والدافع إلى التأليف في مقدمة الكتاب. وغالباً ما يتم تأليف الكتاب وإهداؤه بإرادة ورضا المؤلف الذي يعرف، سلفاً، أن لجهده ثمناً، وأنه لن يخرج من المولد صفر اليدين. ولم يشذ عن هذه القاعدة الذهبية إلا أبو حيان التوحيدي الذي ألَّف وأهدى تحت طائلة الوعيد والتهديد! ولا عجب، فقد كانت حياة أبي حيان حافلة بالمفارقات التراجيدية.
طلب أبو الوفاء – صديقُ الوزير أبي عبد الله العارض – من التوحيدي أن يقصّ عليه تفاصيل ما دار بينه وبين الوزير من أحاديث السَّمر خلال سبعٍ وثلاثين ليلة، وذكّر أبا حيّان بنعمته عليه في وصله بالوزير، مع أنه، كما يقول أبو الوفاء، ليس أهلاً لمصاحبة الوزراء لقبح هيئته، وسوء عادته، وقلة مرانته، وحقارة لبسته . وهدده إن هو لم يفعل أن يغضَّ عنه، ويستوحشَ منه، ويوقعَ به عقوبته، وينزل الأذى به مضيفاً بفصيح العبارة: إن من قدر على وصولك، يقدر على فصولك، وأن من صعد بك حين أراد، ينزل بك إذا شاء . وهكذا أجاب أبو حيان طلب أبي الوفاء مرغماً، فكان من ذلك كتاب (الإمتاع والمؤانسة).
وإذا تجاوزنا تلك الحالة الاستثنائية التي مر بها التوحيدي، فإن المؤلف لا يُهدي حصادَ تعبه وسهره وعصارة فكره ووجدانه إلى شخصٍ ما لم يكن صادقاً في مشاعره. إن الإهداء، والحال هذه، تعبير عن الحب أو التأثر أو الامتنان أو الاعتراف بالمؤازرة والمساندة. فقد يُهدي المؤلفُ كتابه لوالديه اعترافاً بالتربية والرعاية التي أسهمت في تحقيق هذا الإنجاز، وقد يهديه لزوجته تقديراً لفناجين القهوة والشاي، وللجو الهادئ والمريح الذي هيأته أثناء الكتابة، وقد يُهدَى للأستاذ (المعلّم) تعبيراً عن الاعتراف بأستاذيته وبالأثر الذي تركه في فكر وذائقة المؤلف، أو لصديقٍ وفاءً لمعنى الصداقة. وقد تُهدى الكتبُ للقراء جميعاً، ونادراً جداً ما يكون الإهداء لخصم أدبي، امتناناً لمشاغباته التي حركت ماء بحيرة التأليف، فحققت بذلك ثنائيةَ التحدي والاستجابة.
وكما تُهدىَ الكتبُ للأشخاص، فإنها تُهدى، كذلك، للمدن والقرى والشخصيات التاريخية. وللناس في ما يمنحون مذاهب! وفي حكاية موغلة في السريالية أهدى شاب مصري ديوان شعر سيئاً ليس من تأليفه إلى حماته (أم زوجته) نكاية بها. وأطرف ما في هذه الحكاية أن الهدية لم تحقق هدفها، لأن حماته أمية! هكذا أهدى من لم يؤلف ديواناً لمن لا يقرأ!
وإذا كانت الإهداءات لا تكذب فإنها قد تتجمل أحياناً. ولم يشأ أحد الشعراء الشباب أن يكذب أو يتجمَّل فاستهل مجموعته الشعرية بإهداء طريف إلى زوجته على النحو التالي: إلى زوجتي الجميلة الطيبة الحنونة التي لا أحبها ! وقد يتساءل القارئ كيف استقبلتْ زوجة الشاعر هذا (الإهداء – الهجاء) المغلف بالإطراء..؟ أو بتعبير آخر، كيف قرأت الزوجة هذا الإهداء الذي يقوّض آخرُه أوَّلَه؟
بخط اليد
أما الإهداءات التي يدونها الكتَّاب والشعراء بخط اليد على إصداراتهم فقد تغيَّرتْ شكلاً ومضموناً تغيراً موازياً لتطور بنية النص الأدبي وآليات الكتابة بشكل عام، فلم يعد الإهداء يكتب على طريقة: أهدي هذا الديوان إلى رفيع الشأن، ونادرة الزمان، ذي الهمم الرفيعة، والخصال البديعة، الأديب الأريب والفطن اللبيب فلان بن فلان دام ظله . لقد أصبحت لغة الإهداءات هذه الأيام أكثر شعرية من ذي قبل، وتجاوزت المراهنة على نمنمات السجع مستمدة ألقها من سحر المجاز. وإذا كانت الهدية على قدر المـُهدَى إليه، فإن أسوأ ما قد يحدث في عالم الإهداءات هو أن يؤلف أحدهم ديواناً رديئاً، أو مؤلفاً ركيكاً فيهديه إلى آخر اعترافاً بالتأثر به، أو التتلمذ على يديه.
ويُروى أن أحد الكتّاب الناشئين من طلبة السنة الأولى بكلية الآداب المصرية بعث بنسخة من مخطوطة كتابه إلى كاتب لامعٍ ذائع الصيت راجياً منه أن يكتب له المقدمة. وكان هدف الكاتب الناشئ أن يضفي أهمية ما على باكورة أعماله الأدبية. لكن الأديب الكبير، وبعد أن اطلع على مضمون الكتاب فوجده ركيكاً في شكله، بائساً في مضمونه، ماطل في كتابة المقدمة حتى لا يقترن ذلك العمل الأدبي المهلهَل باسمه فيسيء إلى مكانته الأدبية المرموقة. وحين طال الانتظار بالمؤلف الشاب دون طائل، وقد كان حريصاً على وجود اسم الأستاذ في مستهل الكتاب، أصدر الكتابَ متوَّجاً بهذا الإهداء: إلى أستاذي (فلان) الذي علمني أصول الكتابة وفنون البيان، وتعهد بذور الإبداع بالرعاية !! ترى ما هي ردة فعلك لو كنت في مكان ذلك الأستاذ الذي أُخذ على حين غرة؟ هل تصدر بياناً صحفياً ينفي أيةَ صلة لك بذلك العمل الأدبي؟
أما حديث الإهداءات الخاصة فيطول. ذلك أنه ما إن يصدر أحدهم كتاباً أو ديواناً حتى يبدأ بإهدائه وإرساله – مع تحمل نفقات البريد طبعاً – للأصدقاء والزملاء والمهتمين من أدباء ومثقفين وصحفيين ومؤسسات ثقافية، ويا لطول القائمة!
مع أن هؤلاء هم الزبائن الذين يمكن أن يحركوا (مؤشر المبيعات). وقد يفسر هذا اقتران حرفة الأدب بالفقر. فما أن يقال إن فلاناً قد أدركته حرفةُ الأدب حتى تُشمّ منه رائحةُ الفقر على بعد فرسخين. لكن بعض الكتاب والشعراء (الكبار) لا يهدون كتبهم حتى لرفاق وأصدقاء الكلمة. وعلى هؤلاء الأصدقاء أن يقتنوا الكتاب أو الديوان من مخازن الكتب كما يفعل بقية القراء، وهو ما عبَّر عنه، بمرارة، الكاتب المغربي الراحل محمد شكري.
يقول شكري في لقاء أجرته معه مجلة فراديس: طلب مني محمد برادة – رئيس اتحاد كتاب المغرب – أن أذهب إلى فندق سيناتور في طنجة وأن أوقظَ محمود درويش وإلياس خوري لكي يشارك درويش في قراءة شعرية كانت مع محمد علي شمس الدين وأدونيس (…) رأيتُ حقيبةً مفتوحة فيها عدة نسخ من أحد دواوين محمود درويش فقلت له: هل يمكن لك أن تهديني نسخة من ديوانك الأخير؟ قال: ليس من عادتي أن أهدي دواويني!! سكتُّ طبعاً وكان في ذهني أن أفعل تماماً ما طلبه مني محمد برادة (…) تصور أهانني لأنني طلبت منه توقيع ديوانه إليّ!! .
لم يعد ضرورياً، اليوم، أن تكون شاعراً أو ناثراً لتؤلف قصيدةً أو تكتب على ظهر بطاقة بريدية كلاماً يقطر عذوبةً ورومانسية وتهديه لمن تريد. هنالك مواقع على الشبكة العالمية قد يسَّرت سبلَ إهداء القصائد والبطاقات لمن أراد. وما عليك إلا أن تختار القصيدة أو البطاقة التي تلائم ذائقتك، ثم تملأ النموذج الموجود على الشاشة، وبنقرة أو اثنتين من فأرة الحاسب الآلي ستصل القصيدة أو البطاقة المهداة إلى صاحبها. قد يبدو ذلك مريحاً، لكنه سوف يساهم، على المدى البعيد، في تبلّد القدرات التعبيرية، وكبح جماح الخيال لدى جيل الفأرة والأيقونات والأشياء الجاهزة.
من القيمة.. إلى الترويج
مكتب بيروت
قبل عصر الطباعة
يصعب كثيراً تحديد الفترة التاريخية التي بدأ فيها مقتنو الكتب، بممارسة هواية السعي لاقتناء نسخة خاصة من الكتاب الذي يستهويهم ويهمهم الحصول عليه. ولكن من المؤكد أن هذه الهواية سبقت كثيراً عصر ظهور المطبعة، سواء في الغرب أو في بلادنا.
فعندما كان توزيع الكتب ونشرها يتم من خلال نسخ الكتاب بخط اليد، في عدد محدود من النسخ، كان معروفاً أن الكتاب الواحد لمؤلف واحد، يمكن أن يتم نشره عبر أكثر من ناسخ، بحيث تختلف النسخ حتى عندما يصدرها ناسخ واحد، في بعض تفاصيل الشكل. وقد يتناول الاختلاف أحياناً نص الكتاب. وبديهي أنه عندما يتم تداول نص الكتاب الواحد بين عدد كبير من النسّاخ، فإن مجال الاختلاف بين نسخ الكتاب الواحد يصبح واسعاً، ليس في الشكل فقط، بل حتى في المضمون. هذه الظروف التي كانت تحدد عملية نشر الكتب في عصور ما قبل ظهور المطبعة، كانت تحرك لدى مقتني الكتب الرغبة في العثور على أحسن النسخ شكلاً ومحتوى، بحيث تكون النسخة المراد الحصول عليها جميلة في شكلها وخطها اليدوي بالضرورة، ودقيقة في نصها، بما يطابق النسخة الأصلية للكتاب الذي صدر عن المؤلف نفسه، إما بخط يده، أو بخط ناسخ يعمل تحت إشراف المؤلف صاحب النص، ويخضع نسخه لرقابة المؤلف وموافقته النهائية.
ولم تكن ظروف عصور النشر القديمة هذه تؤثر فقط على مقتني الكتب في تلك الأيام الغابرة، بل تحولت أيضاً إلى مجموعة من المشكلات لدى محققي الكتب التراثية، في عصورنا الحديثة. فالقاعدة الذهبية في هذا المجال تقول إن الأكثر دقة هي النسخة الأصلية. ولكن بما أن عدداً
لا يستهان به من الكتب القديمة، لم يعد متوافراً بنسخته الأصلية، فقد أصبح من مهمات محقق الكتب القديمة، أن يتحقق أولاً من صحة كون النسخة هي الأصلية (عند توافر ذلك)، فإذا لم تتوافر النسخة الأصلية، فإن القاعدة الذهبية تفرض العثور على أقرب النسخ إلى النسخة الأصلية، وذلك إما بالمقارنة المباشرة (عند وجود النسخة الأصلية) أو بالتحقيق والتدقيق والمقارنة، وصولاً إلى المخطوطة الأقرب إلى الأصل.
ولا شك في أن هذه القواعد التي ما زالت تحكم الآن عالم محققي المخطوطات العربية القديمة التي تتولى دور النشر العربية الحديثة طباعتها ونشرها بعد الاطمئنان إلى الحد الأعلى من دقة المحققين الأكفاء، هي القواعد نفسها التي كانت تحكم قديماً، التنافس بين هواة جمع الكتب في اقتناء أفضل النسخ وأجملها وأدقها.
توقيع المؤلف على النسخة
كان هذا قبل ظهور عصر الطباعة. ثم ظهرت المطبعة في أوروبا أولاً، وانطلقت بعد ذلك إلى بلادنا، على استحياء في بدء ظهورها، ثم على انتشار واسع بعد ذلك. وكان من النتائج العملية الأولى لسيطرة تقنية الطباعة على نشر الكتب وتوزيعها، أن تساوت كل النسخ في شكلها ومضمونها. ولكن ذلك لم يقض تماماً على رغبات المتحذلقين من هواة اقتناء الكتب، بالحصول على نسخة متميزة من الكتاب الذي يودون الحصول عليه.
فانتشار الكتب بوتيرة متسارعة ومدى لم يسبق له مثيل بعد ظهور وانتشار وسيطرة عصر الطباعة، زاد إلى تلك الرغبات القديمة في الحصول على نسخ متميزة، ظواهر أخرى، كان أبرزها ظاهرة الحصول على توقيع المؤلف على النسخة والاحتفاظ بها.
وبديهي أن انتشار تلك العادة الجديدة، كان محدوداً في البداية، مما كان يضفي على توقيع المؤلف قيمة حقيقية تضاف إلى قيمة الكتاب نفسه، خاصة عندما يكون المؤلف صاحب التوقيع من الأسماء الكبيرة واللامعة في حقل التأليف. وكانت هذه القيمة تتضاعف في حالات محدودة، منها أن يكون المؤلف مغموراً أو مبتدئاً عند الحصول على توقيعه، ثم يتحول بعد ذلك إلى اسم كبير ولامع في حقل التأليف والثقافة والنشر، فتزداد قيمة توقيعه. ومنها أيضاً تقادم الزمن على الحصول على توقيع المؤلف على نسخة ما، ومنها وفاة المؤلف، بحيث يصبح توقيعه، كما تصبح كتبه، جزءاً من تاريخ الثقافة وتاريخ النشر في بلده.
وعلى سبيل المثال، فإن الحصول على توقيع طه حسين، عندما كان في بداية لمعانه أخذ يزداد قيمة من سنة إلى سنة ومن عقد إلى عقد. ولا شك في أنه، بعد رحيل طه حسين في العام 1973م، ارتفعت إلى درجة كبيرة قيمة النسخ من كتبه التي تحمل توقيعه الشخصي لدى المثقفين أو هواة اقتناء الكتب والاحتفاظ بها.
ومن المرجح أن الحصول على توقيع المؤلف على نسخة من أحد كتبه ظل لوقت طويل يخضع لتقاليد رفيعة أهمها أنه كان محصوراً بالحصول على توقيع المؤلفين ذوي القيمة الرفيعة، كما أنه كان يتم في الغالب عن رغبة حقيقية وعميقة لدى مقتني الكتاب، بالحصول على توقيع المؤلف، بحيث أن صاحب النسخة، كان في الغالب الأعم، هو الذي يسعى إلى اقتناص الفرصة والمناسبة، للحصول على توقيع المؤلف.
لقد انتسب الحصول على توقيع المؤلف في مرحلته الأولى إلى تقاليد الحياة الثقافية الرفيعة المقترنة بانتشار الكتاب. ومن يمتلك اليوم نسخة من إحدى روايات الأدباء الروس تولستوي أو دوستويفسكي أو تشيكوف أو سواهم، عليها التوقيع الشخصي للمؤلف، أو نسخة من ديوان أحمد شوقي تحمل توقيعه الشخصي، لا شك في أنه يمتلك بالفعل ثروة ثقافية ذات قيمة لا تقدر بثمن. غير أن نمطاً آخر من الإهداء كان يتصدر الكتب في عهد النسخ اليدوي، كما في عهد ظهور وانتشار الطباعة، وهو الإهداء الذي يضعه المؤلف في مقدمة كتابه، موجهاً لشخص معين، يهدي إليه كتابه إهداءً كلياً جامعاً، لا يقتصر على نسخة واحدة فقط.
ويبدو من تاريخ هذه الظاهرة، في عهديها القديم والحديث، أن مثل هذا النمط من الإهداءات العامة كان يوجه غالباً لأسباب مادية حيناً، وثقافية حيناً آخر، وإن كان يجمع في حالات معينة بين الأسباب المالية والثقافية.
ففي العصور القديمة عرفت المجتمعات البشرية، سواء في عصر النهضة العربية التاريخية أو عصر النهضة الأوروبية، نمطاً من رجال السياسة والمجتمع المحبين للفنون والثقافة، إلى درجة تدفعهم لرعاية الفنانين والمثقفين ذوي المواهب الاستثنائية، حتى كان بعض هؤلاء المثقفين أو الموسرين، يضعون هبات مالية بين أيدي الفنانين والكتّاب الموهوبين لتشجيعهم على إصدار مزيد من الأعمال القيّمة، فنياً وكتابياً. وكان المؤلف يرد التحية لأصحاب مثل هذه المبادرات بأن يفتتح كتابه بعبارة يقدم بها كتابه لراعي الكتاب، الذي قد يكون ملكاً أو أميراً أو رجلاً من علية القوم، ويعترف فيها بفضله في جعل إصدار الكتاب ممكناً.
ومع بقاء مثل هذا النوع من الإهداء إلى ممول الكتاب ساري المفعول حتى يومنا هذا، فقد أضاف إليه تطور الحياة الثقافية وتطور صناعة الطباعة، نوعاً شبيهاً يصدّر به المؤلف كتابه بإهداء إلى شخص معين، لأسباب ثقافية أو عاطفية، كأن يهدي المؤلف كتابه إهداءً عاماً لشخصية ثقافية اعترافاً بفضلها عليه، أو تعبيراً عن تأثره بها، أو يهدي شاعر ديواناً من الشعر إلى محبوبته بالاسم الصريح، مثل شاعر فرنسا الكبير اراغون، وشاعر العربية الكبير إلياس أبو شبكة.
من القيمة الثقافية..
إلى الترويج الاستهلاكي
غير أن هذا التقليد، لم يحتفظ حتى يومنا هذا بما ظل يتمتع به لفترة طويلة من هالة ثقافية تضفي على القيمة الأدبية للكتاب قيمة حمل توقيع المؤلف. فقد بدأ ناشرو الكتب، بالإضافة إلى المؤلفين أنفسهم، ينتبهون مع تطور صناعة الكتاب إلى أن من الممكن أن يكون لتوقيع المؤلف قيمة تسويقية ترويجية، بعد أن ظلت طوال العهود السابقة محصورة بالقيمة الثقافية وحدها.
هذا التنبه التسويقي تسلل بسرعة إلى هواية جمع تواقيع المؤلفين، وبدأ يدخل تقاليد جديدة إليها، حتى وصلنا في هذه الأيام إلى تحول كامل في طبيعة هذه الهواية وفي تقاليدها وأساليبها. فبعد أن كان مقتنو الكتاب، من هواة متعة القراءة والثقافة واقتناء الكتب، هم الذين يسعون للحصول على توقيع المؤلف، قام الناشرون والمؤلفون أنفسهم بتحويل الدفة حتى أصبح المؤلف (ومعه الناشر) هو الذي يسعى إلى توزيع التواقيع على الكتب المباعة، في ممارسة أصبحت تمثل أحد الأساليب الرائجة لترويج الكتب، حتى كاد بيع الكتاب بحضور المؤلف، الذي يضع توقيعه على كل نسخة مباعة، يتحول إلى أسلوب معمم في بداية حملة الترويج لأي كتاب جديد يصدر، سواء على هامش معارض الكتب، أو في احتفال خاص يعلن عنه عادة في الصحف وسائر وسائل الإعلام. لقد أدى هذا التحول ذو الطابع التجاري الاستهلاكي، إلى امتهان القيمة الثقافية التي طالما بقيت تحيط بتوقيع المؤلف على نسخة من كتاب، وذلك لأسباب عديدة:
_
عندما كانت القيمة الثقافية لا تزال مسيطرة على هذه العادة، كان الأمر في الغالب محصوراً في تواقيع كبار المؤلفين، الذين يشكل الحصول على توقيعهم، قيمة ثقافية حقيقية تضاف إلى قيمة الكتاب. أما التطور الجديد في هذه الممارسة، فقد ساوى بين مستويات المؤلفين. فأصبح الناشر يدعو هواة القراءة لشراء نسخة من الكتاب بتوقيع مؤلفها، سواء أكان هذا المؤلف ممن دخلوا تاريخ الثقافة العربية (أو الإنسانية) في أثناء حياتهم، أو أنه مجرد اسم بدأ مغموراً، بلا أية قيمة تذكر، وسينتهي مغموراً بلا أية قيمة في معظم الأحيان.
_
أصبح توقيع المؤلفين، حتى الكبار وذوي القيمة، فاقداً لمعظم قيمته، بعد أن أصبح سلعة رخيصة، لكثرة وسهولة انتشار هذه التواقيع. ومن الطريف أن نشاهد شاعراً كبيراً أو روائياً عظيماً يحاول اختراع أية عبارة لا معنى لها، يضيفها إلى توقيعه أمام قراء لا يعرف أحداً منهم، ولا تربطه بمشتري النسخة أية علاقة شخصية، كما يحاول أن يوحي في العبارات المنمقة المفتعلة التي يجهد نفسه في ابتكارها لوضعها بالقرب من توقيعه.
لقد أصبح الناشر والمؤلف، في معظم الحالات، يتجهان إلى التقليد الجديد، الذي تحول إلى محطة أولى لإطلاق كل كتاب جديد يصدر، بغض النظر عن قيمته الموضوعية، وقيمة مؤلفه. فيقام احتفال اجتماعي لإطلاق الكتاب، توجه الدعوة لحضوره وفقاً لمعايير اجتماعية استعراضية حيث تغيب في معظم الحالات المعايير الثقافية، وغالباً ما يكون الحاضرون قد أتوا بدافع الخجل والحياء من عدم تلبية الدعوة، لأنهم لو فعلوا ذلك لحجبوا أنفسهم عن مسرح كبير للاستعراض الاجتماعي والثقافي (والسياسي أحياناً).
ثم إن توجيه الدعوة إلى مثل هذه الاحتفالات أصبحت أشبه بوضع المدعو في حالة حرج اجتماعي وثقافي، فيجد نفسه مضطراً ليس للحضور فقط، بل لشراء نسخة من الكتاب، حتى لو كان غير مهتم بموضوعه، أو حتى لو كان غير مهتم أصلاً بالقراءة واقتناء الكتب. وتصل الظاهرة إلى ذروتها عندما يجد المؤلف نفسه أمام حشد جاء يحتفي به بدوافع كثيرة، أقلها ثقافي، وأكثرها اجتماعي استعراضي، ويرى نفسه مضطراً مع كل توقيع إلى افتعال عبارات المجاملة لشاري النسخة، حتى يرد له شيئاً من الشكر على مشقة الحضور والإقدام على شراء نسخة من الكتاب التي غالباً ما تنتهي إلى الرف. حتى أصبحت مثل هذه الحفلات مسرحاً للنفاق الثقافي والاجتماعي، تشمل كتباً ومؤلفين من مستويات متفاوتة، ولكنك أمام مثل هذه الظاهرة وتفشيها في كل المجتمعات العربية، تجد نفسك آسفاً على الكتب القيّمة عندما تهبط بها هذه الظاهرة من عليائها الثقافية إلى سوق النفاق الثقافي والاجتماعي، بدلاً من أن يترك الكتاب الجديد لتفاعل حر مع القارئ، يسعى هو إلى اقتنائه من إحدى المكتبات بحماس ثقافي، لا مجال فيه للادعاء أو النفاق أو الخجل أو الاستعراض.
_
وبوصول هواية جمع تواقيع المؤلفين إلى هذه الدرجة من الامتهان، تم تفريغها تماماً من القيمة الثقافية التي كانت لها سابقاً. ولقد تفاقم أمر هذا الانحدار حتى شمل كل أنواع التواقيع، سواء أكانت لمؤلف تاريخي كبير أو لمؤلف لا قيمة لاسمه أو لمؤلفاته أو توقيعه. حتى أن بعض ورثة الكتب التي تحمل تواقيع قيّمة لمؤلفين قيّمين، كثيراً ما يبيعون هذه النسخ لجهل بقيمتها الثقافية، أو لحاجة مادية تطغى على الحاجة الثقافية أو للأمرين معاً. ولقد رويت نوادر كثيرة عن العثور على كتب عديدة على أرصفة سور الأزبكية الشهير لبيع الكتب القديمة في القاهرة، تحمل توقيع مؤلف شهير يهدي كتابه إلى مثقف كبير، فإذا بالكتاب يتحول مع كل ما يحمل من أسماء وتوقيعات قيّمة إلى البيع على الأرصفة لأي عابر سبيل من هواة الكتب القديمة، رخيصة الثمن.
يجدر بالذكر هنا أن الناشرين الذي راقهم كثيراً نجاح هواية جمع تواقيع المؤلفين، في الترويج للمنشورات الجديدة، أخذوا يبتكرون وسائل جديدة، يحاولون بها الإفادة إلى أقصى حدود ممكنة من الهواية القديمة المتجددة للتفاخر الاجتماعي باقتناء نسخ خاصة من كتاب معين لا تشبه نسخ الكتاب العادية، المنتشرة بين أيدي الناس العاديين.
فراحوا على سبيل المثال يطبعون من كل كتاب نسختين، واحدة بورق عادي وغلاف عادي، للقراء العاديين ، وواحدة بورق فاخر وغلاف فاخر يباع بأسعار مضاعفة، لهواة التميز الاجتماعي الشكلي. بل إن عدداً من الناشرين طوّر هذه الأساليب إلى إصدار بعض النسخ المرقمة (من واحد إلى مائة مثلاً)، وكلما كان الرقم أقرب إلى الواحد وأبعد عن المائة، ارتفع سعر الكتاب، كل ذلك لجعل هواة التميّز الاجتماعي الشكلي يدفعون غالياً ثمن نزعاتهم وهواياتهم، بعيداً عن أية قيمة ثقافية فقدتها منذ زمن بعيد هواية الحصول على توقيع مؤلف متميز على كتاب متميز.
اقرأ للثقافة
القراءة السريعة..
أفضل من عدمها
كثيرون سمعوا أن الرئيس الأمريكي الراحل جون كينيدي كان ممن يقرأون بسرعة غير مألوفة. ويُروى أن سلفه تيودور روزفلت اعتاد على قراءة كتاب كل يوم.. قبل الإفطار!
فمنذ الأربعينيات من القرن الماضي، تعاظم الاهتمام بما يسمى القراءة السريعة ، عندما اكتشف أحد المدرسين في مدينة سولت ليك سيتي كيف يمكن تحويل قرّاء يقرأون بشكل عادي إلى قرّاء ينجزون قراءاتهم في ربع الوقت المعتاد أو خمسه أو أقل! ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم، زاد الاهتمام بتعلّم هذه المهارة، وتأسس العديد من المعاهد التي تدرّسها للراغبين، وصدرت كتب كثيرة في هذا المجال، آخرها الانطلاق في القراءة السريعة .
المؤلف وكتابه
مؤلف هذا الكتاب هو بيتر كومب، الذي بدأ اهتمامه بالقراءة السريعة في العام 1966م، ومن ثم درّسها في معهد إيفلين وود لديناميكيات القراءة ، ليصبح لاحقاً مديراً عاماً للتعليم القومي في المعهد نفسه، حيث قام – من ضمن مهامه – بتعليم القراءة السريعة لكبار من موظفي البيت الأبيض في إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون. الأمر الذي يضفي على كتابه صدقية وأهمية، تستوجبان التوقف أمامهما.
يقع هذا الكتاب الذي صدرت ترجمته المنقحة مؤخراً عن مكتبة جرير في 292 صفحة، موزعة على 36 فصلاً، وتحت عنوان كل فصل مجموعة كبيرة من العناوين الفرعية تبدأ بالتعريف بالقراءة السريعة، وتمر بالمراحل المختلفة لتعلّم هذه المهارة، وتنتهي بإرشادات للحفاظ على ما تعلمه القارئ السريع ، ألا وهو القراءة بسرعة تصل إلى ثماني مرّات السرعة العادية، على حد زعم المؤلف.
وتحفل هذه الفصول بنصائح وتمارين على الراغب في القراءة السريعة أن يتعلمها. ولعل أطرفها هو ذاك الذي ينصح القارئ بالتوجه إلى إحدى المكتبات التي تحظر تصفح الكتب في داخلها، ويطلب إليه قراءة كتابين خلال نصف ساعة، أي بمعدل كتاب كل 15 دقيقة، حتى
لا يضبطه صاحب المكتبة.
السرعة.. ولماذا السرعة؟
يقول المؤلف إنه من الممكن أن تصل المهارة في هذا المجال إلى القراءة بسرعة قد تصل إلى ثمانية أضعاف السرعة التي يقرأ بها القارئ العادي، وربما أكثر من ذلك، و يعد المهتمين بأنهم سيتمكنون بعد اكتساب هذه المهارة من قراءة العديد من الصحف اليومية في الوقت الذي يكون فيه غيرهم يقرأ مقالاً واحداً.
من المرجح أن مثل هذه الوعود لا تخلو من المبالغات. ولكنها، حتى ولو كانت دقيقة، فإنها تستدعي التوقف أمامها. فعلى الرغم من أن المؤلف يفرد مساحة كبيرة لقراءة الأعمال الأدبية والروائية، فمن حقنا أن نتساءل عن جدوى قراءة رواية بمثل هذه السرعة الصاروخية. فهل يكفي القارئ أن يعرف ما هو فحوى هذه الرواية وموضوعها وكيف تبدأ وتنتهي، ليكون قد قرأها فعلاً. ألا تستدعي بعض الجمل والفقرات التوقف أمامها ومن ثم التفكير بمضمونها، وإسقاطه على معارفنا وثقافتنا وحياتنا..؟
مهما كان الجواب، ومهما كان موقف القارئ من القراءة السريعة، يبقى هذا الكتاب مهماً لغزارة الجوانب المختلفة من عالم القراءة التي يتطرق إليها، وتبدأ بوضعية الجلوس خلال القراءة، مروراً بحركة العينين ودورها في التسريع، وصولاً إلى مسح الصفحة باليد تحت السطر المقروء ودور ذلك في تركيز الذهن على مضمون النص.. وغير ذلك الكثير من التفاصيل التي
لا ينتبه القارئ عادة إلى أهميتها على صعيد القراءة ككل.. سريعة كانت أم بطيئة.