يخرج من رحم النار نقياً حتى حدود الطهارة..
قد يكون شفافاً وقد يكون كامداً..
ملوَّناً أو عديم اللون..
يكاد أن يكون شبيهاً بالذهب لجهة ديمومته ومناعته ضد عوامل الزمن، ولكنه سريع العطب إذا مُسَّ بخشونة..
لا يسامح أي خطأ في التعامل معه، ولا يقبل بإصلاحه..
ومنذ الألف الثالث قبل الميلاد وحتى اليوم، لا يزال يتطور ويضيف إلى استعمالاته العديدة، استعمالات جديدة..
في هذا الملف، تجوب بنا رحاب أبو زيد وعبير الفوزان في رحاب عالم الزجاج بكل ما فيه من ألوان وأضواء واستعمالات بدأت بالزينة ولم تنته بالتكنولوجيا المتطورة وناطحات السحاب.
لو جاز لنا أن نمنح عصرنا هذا اسماً، لسميناه العصر الزجاجي. فالزجاج حاضر أينما كان حولنا، من أجهزة الهاتف الصغيرة إلى واجهات ناطحات السحاب، وبين هذا وذاك نجده حاضراً فيما لا يُحصى من الأدوات التزيينية والتطبيقات الصناعية. فلم يعد كما كان في الماضي حكراً على قوارير العطر والكؤوس أو مجرد كوة صغيرة في الجدار، بل تعدَّى ذلك ليكون هو السيد الأجمل والأنقى في كل ما يحيط بنا.
فقد احتفظ الزجاج بوظيفته الأولى كمادة للزينة عندما عُومل معاملة الجواهر، إذ لا يزال يُرصَّع بالذهب والفضة حتى اليوم، ولكنه بتطور صناعته، أضاف إلى تلك الوظيفة آلاف الوظائف الأخرى. وفرض نفسه على معظم ما ابتكرته الإنسانية في طريقها إلى يومنا هذا. فصار حاضراً في الأدوات المنزلية والمفروشات والسيارات والمكاتب والأجهزة الإلكترونية وصناعات حفظ الأطعمة والسوائل، وصولاً إلى النظارات حيث يسمح للكثيرين برؤية أفضل للعالم من خلال الزجاج.
تاريخ الزجاج
نظراً لاتساعه الكبير، لا يمكن للحديث عن تاريخ الزجاج إلا أن يقتصر على بعض محطاته الكبرى، وأولاها تغرق في غياهب الماضي السحيق.
يرجِّح علماء الآثار أن اكتشاف صناعة الزجاج تعود إما إلى بلاد ما بين النهرين وإما إلى الساحل السوري وإما إلى مصر الفرعونية. وإن كانت أقدم قطع الزجاج التي وصلت إلينا، وهي عبارة عن حبيبات كروية استخدمت للزينة، وتعود إلى منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، قد عُثر عليها في مصر، فذلك يعود إلى أن البيئة الطبيعية في مصر تسمح أكثر من غيرها بحفظ الزجاج في باطنها.
المؤكد أنه في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، كانت هناك صناعة زجاج مزدهرة جداً على الساحل الشرقي للمتوسط، أما أول وثيقة مكتوبة وصلت إلينا فتعود إلى حوالي العام 650 قبل الميلاد، وهي عبارة عن لويحات مسمارية عُثر عليها في مكتبة الملك الآشوري أشوربانيبال، وتتضمن وصفاً لطريقة صناعة الزجاج.
ومن المرجَّح أيضاً، أن اكتشاف الزجاج قد تم بالصدفة خلال صناعة الخزف. إذ يتكوَّن الزجاج من الرمل المسمَّى سيليكا ومادة قلوية قد تكون البوتاس أو كربونات الصوديوم. ومن السهل جداً أن يقع خطأ خلال صناعة الخزف، إذا كانت التربة الصلصالية غنية بالسيليكا واختلطت بكربونات الصوديوم الموجودة بكثرة في رماد عديد من النباتات التي كانت تُستخدم كوقود.
كان الزجاج القديم يفتقر إلى الشفافية، وإن نجح الفينيقيون في تلوينه بألوان عديدة لصناعة التماثيل الصغيرة والحلي.. ولكن الإغريق الذين عرفوا الزجاج أولاً عن طريق التجار الفينيقيين استناداً إلى المؤرخ الروماني بلينوس، طوَّروا أشكال صناعته، بحيث تمكنوا من زيادة شفافيته بعض الشيء.
إلا أن التطور الأكبر كان في القرن الأول قبل الميلاد وعلى الساحل السوري تحديداً حيث اكتشفت طريقة النفخ التي صارت تسمح بصناعة أكواب وقوارير قليلة السماكة، كانت ميزتها الكبرى في قدرتها على حفظ السوائل من التسرب والتبخر.. وبوصول المنتجات الجديدة إلى الإمبراطورية الرومانية، أصبحت صناعة الزجاج صناعة عالمية.. فما من مجتمع تعرَّف على المنتجات الزجاجية إلا وأقدم على اعتمادها، وأضاف إليها، وأوجد لها مجالات استعمال جديدة.
الزجاج في قلب الحضارة
تبدَّلت مراكز الثقل في إنتاج الزجاج خلال التاريخ بتبدل مراكز الثقل السياسية والاقتصادية. فعندما انتقلت العاصمة الرومانية إلى بيزنطية في القرن الخامس الميلادي، لم تنتقل معها صناعة الزجاج فحسب، بل أصبح كل الزجاج الروماني يسمَّى «زجاجاً بيزنطياً».
وبدءاً من القرن السابع الميلادي، بدأت نهضة فن الزجاج الإسلامي، وتطوير تقنيات النفخ لإنتاج قوارير ومشكاوات وأدوات تزيينية مختلفة بالغة الدقة والرقة. وقد وضع العالم جابر بن حيان كتاباً يعرض فيه 46 وصفة مختلفة لصناعة الزجاج. إلا أن ذروة تطور فن الزجاج الإسلامي كانت ما بين القرنين الحادي عشر والرابع عشر، عندما تمكَّن العرب من صناعة مرايا عديمة اللون في الأندلس، وبلغ فن الزخرفة على الزجاج ذروته في دولة المماليك في بلاد الشام ومصر.
بعد تدمير القسطنطينية على أيدي الصليبيين في القرن الثالث عشر، تحوَّلت البندقية إلى عاصمة صناعة الزجاج في أوروبا. كانت هذه الصناعة قد تأسست في المدينة المتوسطية منذ القرن الثامن أو التاسع، ولكن بسبب توسع مكانتها التجارية خاصة مع دولة المماليك وتبادل الخبرات مع الحِرَفيين المسلمين، فقد تمكنت من استعادة دورها في صناعة الزجاج. ولأن معظم مباني البندقية كانت من الخشب، خشيت سلطات المدينة من أن تمتد نيران أفران الزجاج الكثيرة إلى المنازل، فأمرت صُنَّاع الزجاج في عام 1291م بالانتقال إلى جزيرة مورانو المقابلة للمدينة. ومنذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا، لايزال اسم «مورانو» مرتبطاً بإنتاج أجمل الأعمال من الزجاج في العالم.
ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم، كانت هذه الجزيرة الإيطالية الصغيرة، موطن نحو نصف الابتكارات التي طرأت على صناعة الزجاج، خاصة في الجانب الفني والجمالي، في حين تبعثر النصف الآخر من الابتكارات على صعيد التقنيات والنوعيات على معظم بلدان العالم. فساهمت النمسا وفرنسا وبريطانيا وبلجيكا في أوقات لاحقة في تطوير هذه الصناعة، سواء أكان ذلك في ما يتعلَّق بطرق الإنتاج، أم بالمواصفات.. وكان كل تطوّر يفتح أمام الزجاج مجالات استعمال جديدة.. بحيث بات تعدادها كلها مستحيلاً.
ما بين التطور والاستعمال..
علاقة تبادلية
فلو قفزنا من الماضي إلى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لمعاينة ما يطرأ على صناعة الزجاج من تطورات، لوجدنا أن هذا العقد شهد عدداً كبيراً من التطورات التي ما كانت تخطر على البال قبله. ففي العام 2001م، تم اختراع الزجاج الذي ينظِّف نفسه (وذلك من خلال تغطيته بطبقة من أوكسيد التيتانيوم لا تزيد سماكتها على بضعة نانومترات)، وفي العام 2004م، تم ابتكار الزجاج المفرَّغ من الهواء للعزل الحراري، وهو يتألف من لوحين من زجاج يُجمعان إلى بعضهما بواسطة لاصق زجاجي في مكان مفرَّغ من الهواء. وحتى اليوم لا تزال اليابان والصين تحتكران صناعة هذا النوع من الزجاج. وبعدما كان أكبر لوح زجاجي للاستخدام في البناء يمكن للمصانع أن تنتجه في العام 2009م، لا يتجاوز في طوله تسعة أمتار، شهد العام 2010م إنتاج لوح من الزجاج يصل طوله إلى 18 متراً، استطاع 35 رجلاً الجلوس على حافته من دون أن ينكسر.. أما نقل هذا اللوح من المصنع إلى ورش البناء فمسألة قد تكون أكثر تعقيداً من إنتاجه.
فإن كان الزجاج قد زجَّ بنفسه في قطاعات جديدة مثل التكنولوجيا الحديثة والبناء، فإن هذه القطاعات تأتي إلى عالم الزجاج بشروط ومتطلبات جديدة تحتِّم تطويره ليتمكن من الاستجابة لها، فيما يشبه العلاقة التبادلية ما بين الحداثة ككل من جهة وعالم الزجاج من جهة أخرى، حيث يغذِّي كل منهما الآخر، ويفتح أمامه مزيداً من الآفاق.
عصر البناء بالزجاج
قبل نحو ألفي سنة، كانت صناعة الزجاج قد تطورت إلى درجة باتت تسمح بصناعة ألواح مسطَّحة وشفافة ذات مقاييس تسمح باستخدامها في النوافذ (تقاس بسنتيمترات معدودة).
وظل استخدام الزجاج في البناء يتطور ببطء بتطور فن العمارة. ففي العصر الإسلامي والقرون الوسطى في أوروبا، اتسعت النوافذ، ولكن لأن القدرة على إنتاج ألواح كبيرة من الزجاج كانت محدودة، ابتكرت طريقة لجمع الألواح الصغيرة إلى بعضها فيما صار يُعرف باسم الزجاج المعشَّق. وكان على الزجاج أن ينتظر نصيبه من التطور بنضوج النهضة الصناعية في القرن التاسع عشر ليبدأ هجومه على فن البناء، هذا الهجوم الذي لم يتوقف عن التقدم حتى يومنا هذا.
ففي العام 1851م، أنشئ مبنى «الكريستال بالاس» في لندن، لاستضافة «المعرض الدولي» الذي أقيم فيه آنذاك. ومصممه المعماري هو جوزف باكستون الذي كان يعمل سابقاً مهندس حدائق وبنَّاء بيوت زجاجية، فوضع تصميماً طليعياً لمبنى المعرض مؤلَّف أساساً من هيكل معدني وألواح زجاجية بحيث يغرق كل ما في داخله بضوء النهار. وبسبب النجاح الذي لقيه هذا المبنى، انتقلت العدوى بسرعة إلى فرنسا، فبدأ في العام 1897م بناء القصر الكبير لاستضافة «المعرض الكوني 1900»، وصمم كل سطح هذا القصر بألواح من زجاج على غرار النموذج اللندني. ومنذ ذلك الحين بدأت المساحة التي يحتلها الزجاج في الهندسة المعمارية تكبر باستمرار متكلَّة على تطور هندسة الهياكل الحديد، وأيضاً على فلسفة جديدة طرأت على عالم الإدارة والأعمال وتولي الشفافية والاستقامة أهمية متعاظمة.
في العام 1911م، أنشئ «مبنى فاغوس» في ألمانيا من هيكل فولاذي دقيق وواجهة مبنية بأكملها من الزجاج، فكان الأول من نوعه في العالم، وفتحاً لآفاق شاسعة أمام الهندسة المعمارية في القرن العشرين.
وإن بدأ الزجاج ينافس الأسمنت منذ النصف الأول من القرن العشرين، على احتلال واجهات المباني، فقد كان عليه أن ينتظر النصف الثاني ليحقَّق انتصاره بفعل تطور هندسة الهياكل الحديدية ومن أكبر روادها في هذا المجال المهندس البنغلاديشي الشهير فضل الرحمن خان، الذي يُعد مؤسس «معمار التقنية المتطورة»، الذي سمحت إنجازاته بإنشاء ناطحات سحاب كاملة قائمة أساساً على هياكل فولاذية وذات جدران خارجية مبنية بالكامل من الزجاج. فمنذ ستينيات القرن الماضي، عندما أنشئ «برج مانهاتن» في ضاحية «الديفانس» الباريسية، راحت الأبراج الزجاجية تتكاثر أينما كان، دون أي استثناء لأية مدينة كبيرة أو عاصمة في العالم.
وإن اقتصرت الجدران الخارجية الزجاجية أولاً على مباني الشركات والمكاتب الإدارية (لقدرتها على تحمل أعباء تكلفة الطاقة اللازمة للتبريد والتهوئة، بسبب ضعف العزل الحراري في الزجاج)، فإن صناعة الزجاج العازل، لم تعزِّز مكانته في مباني الشركات فحسب، بل أوصلته إلى البيوت، التي راحت توسع المساحات المفتوحة على الخارج من خلال الواجهات الزجاجية العريضة للاستفادة من منظر الطبيعة المحيطة بها حيثما كان ذلك متوافراً أو ممكناً، حتى سقط الجدار الإسمنتي أو الحجري نهائياً في بعض المواضع أمام جدران مصنوعة بأكملها من الزجاج.
بين العتمة والنور..
وعلى إثر دخول الزجاج بقوة إلى عالم البناء والمعمار، ظهرت الستائر بأنواعها من المخملي الكثيف والخشبي الداكن إلى الخفيف من قماش الشيفون والدانتيل ليزيّن النافذة الزجاجية أو الأبواب الفرعية في القصور والمنازل الكبيرة المساحات.. فأصبح حضور الزجاج رئيساً كجسد مرمري يرتدي لباساً رقيقاً يزيد محيط زجاج النوافذ رونقاً وأناقة، ومن المثير أن يتسلل الضوء المشع إلى داخل المنازل من خلال غلالة الستائر فيحجب ما نريد ويستر ما ينبغي ستره دون الحاجة للمساس بجمالية الجدار. فبرزت صناعة فنية جديدة أخرى وهي اختيار الإطار المناسب للنوافذ الزجاجية وتنوعت بين الخشب والألمنيوم والأعمدة الجبسية المزخرفة، مما يؤكد على أهمية الزجاج واستحقاقه أن يظهر في أجمل حلة وأبهى زينة.
خيمة قصر طويق
ولم يغب الزجاج المعشَّق عن العمارة الحديثة في بلادنا حتى يومنا هذا، لا بل تطورت تقنيات تركيبه واستخداماته حتى بدأت بالابتعاد قليلاً عن تجديده التقليدي. ومن أجمل الأمثلة التي يمكننا أن نذكرها في هذا المجال، الخيمة الزجاجية التي تتوسط الحديقة الداخلية في قصر طويق بالرياض.
فقد بُنيت هذه الخيمة من كابلات الفولاذ التي تحمل غطاءً مؤلفاً من عدد هائل من اللويحات الزجاجية الملونة نفَّذتها الفنانة الألمانية بيتينا فراي، التي رسمت ولوَّنت كل لوحة زجاجية على حدة بأسلوب يكاد أن يكون تجريدياً، مستوحياً بوضوح من الحياة النباتية والحيوانية. وجمعتها في هذه الخيمة وفق طغيان اللون الواحد على كل منها، بحيث تؤلف مجتمعة قوس قزح عملاقاً يظلِّل من هم تحته.
الزجاج وحاسة البصر
المكانة الكبرى التي يحتلها الزجاج تقع في مكان قلَّما يثير الانتباه إليه، وهو في ملاصقة حاسة البصر. فمن النظارات على الأعين إلى عدسات آلات التصوير وأجهزة التلسكوب والميكروسكوب والتلفزيون والكمبيوتر، يُعد الزجاج بشفافيته عنصراً لا بد منه لكي تصبح الرؤية ممكنة.
ولعل السائل في العين بين العدسة والشبكية الذي يُعد وسطاً ملائماً لمرور الضوء إلى الشبكية سُمي بالماء الزجاجي لإسهامه في جعل الرؤية واضحة. إن أيّ خلل في هذا السائل الزجاجي يسبب عتمة على العين، مما يقلل من مستوى الرؤية. تماماً، مثل النافذة الزجاجية عندما تتسخ، أو تتلطخ بالأصباغ، فتقل الرؤية من خلالها، أو تنعدم! لذا وجب إزالة كل ما يشوب هذا السائل الزجاجي في العين، والحفاظ على ماء زجاج العيون سليماً لا يخلطه ماء أزرق أو ماء أبيض.
ومن السائل الزجاجي إلى العين الزجاجية. لقد ظهرت العيون الزجاجية في الجزء الأخير من القرن السادس عشر في مدينة البندقية الإيطالية بعدما كان البديل عنها من الذهب أو الخرق! ولم تُعرف هذه العين خارج البندقية إلاّ في القرن الثامن عشر عندما تولى الباريسيون أمر صناعتها. وعلى الرغم من أن العين الزجاجية كائن جامد لا يسهم في الرؤية، إلاّ أنها كانت بديلاً رائعاً للعين المفقودة أو المفقوءة، حيث يسهل تلوينها لإعطائها الشكل الشبيه بالعين الأخرى.
تعد ألمانيا بلداً منتجاً لأفضل العيون الزجاجية في العالم، إذ أسس مشغل لهذه الصناعة عام 1923م في مدينة كولن، وتفوق الألمان على الباريسيون في هذه الصنعة التي كانت حكراً عليهم منذ القرن الثامن عشر. وازدهرت صناعة العيون الزجاجية بعد أن زاد الطلب عليها، غداة الحرب العالمية الأولى وما خلفته من عاهات، كان من ضمنها العيون المفقوءة، فانتشرت مشاغل العيون الزجاجية في مختلف مدن ألمانيا. من الأشخاص الذي ينظرون إليك بعين واحدة مبصرة، بينما الأخرى زجاجية تجميلية الممثل الأمريكي الراحل بيتر فولك الذي أدى شخصية المحقق كولمبو، وأيضاً رئيس وزراء بريطانيا السابق غوردن براون.
هل هناك زجاج ضد الكسر؟!
كثيراً ما نطرح هذا السؤال عندما نمسك بكأس أو آنية زجاجية مكتوب عليها «زجاج ضد الكسر» فما هي حقيقة هذا الزجاج؟! وهل يعني ذلك أننا سنحتفظ بالآنية، وتبقى مدى العمر سليمة من الكسر والخدش؟!
إن الحقيقة ليست كما نعتقد بخصوص هذه الأواني والكؤوس. فمادة الزجاج المصنوعة منها تتكسر، ولكن بطريقة آمنة. يعود الفضل في ذلك للعالِمْ الفرنسي إدوارد بينيدكتس عام 1903م، وذلك عندما ترسبت مادة نترات السيلولوز على جدران دورق زجاجي كان يستخدمه أثناء إجراء تجاربه، ولم يكتشف فضل هذه المادة «نترات السيلولوز» إلاّ عندما تحطم الدورق الزجاجي الذي كان تكسّره مميزاً وغريباً، فلم تتناثر قطع الزجاج الحادة، بل ظل متماسكاً رغم تكسره، وكأنه ملتصق بمادة صمغية أو بلاستيكية.
صاغ بينيدكتس هذه الفكرة وصنع زجاجاً من طبقتين وجعل بينهما مادة نترات السيلولوز البلاستيكية، وحاز على براءة اختراع لهذا الزجاج الآمن عام 1909م. وعلى الرغم من أن النصف الأخير من القرن العشرين شهد عمليات تمتين للزجاج من خلال طرق عديدة مثل تسليحه بأسلاك معدنية، أو تشكيله من عدة طبقات (ليكون مضاداً للرصاص)، أو اعتماد التقوية الكيميائية في تركيبته، ففي الحقيقة لا يوجد زجاج ضد الكسر بالمعنى الحرفي، ولكنْ هناك زجاج آمن عندما يتكسر، فلا يلحق الأذى بالآخرين. وكل الزجاج يتكسَّر إذا ما تعرَّض لضغوط كبيرة أو إجهاد كبير.
فضل الشظايا على الأدب
إذا كان التشظي حالة من حالات تكسّر الزجاج المتناهية في الصغر، فإن البعثرة والتيه في أبعاد التشظي هي من أوائل الحالات الانفعالية التي قد يمرّ بها الإنسان، وهي من أكثر الحالات التي ركّز عليها الأدب لتحليل عرى النفس البشرية وما يعتريها من تقلبات يعجز أكثر أطباء علم النفس مهارة عن تفسيرها، وركز الأدب أيضاً على كيفية تطويق أنواع الجنون والأفكار الغرائبية التي قد تحكم سلوكيات شخص دون آخر، ومع ذلك يبقى متسماً بالاتزان والعقلانية في محفل دون آخر!
من هؤلاء المشتغلين على رصد حالات التشظي في الأدب الغربي الروائي الأمريكي «ج. روبرت لينون» الذي أصدر روايته الأخيرة بعنوان «مألوف» ليخرج بالتشظي من كونه حالة نفسية إلى كونه أسلوباً أدبياً عصرياً! بمعنى أن تعكس الكتابة حالة التشوّش الذهني الذي يعانيه الكاتب مع أبطال روايته في ذاتها ولغتها وهيامها في عوالم سريالية، وما تشوّش الرؤية إلا سمة من سمات القرن الحادي والعشرين.. وسمة للزجاج حين تكسوه الشوائب.
صنيعة الأديب العربي كصنيعة الزجّاج (أي الصانع) الفنان الذي يلتقط بملقاطه قطع الزجاج الصغيرة وهو لا يخشى رائحة الدم ولا لون الغربة! وكما صبّ الأخير الزجاج بألوان عدة.. جعل الأديب العربي للتشظي أنواعاً وأنماطاً.. تشظي الروح.. التشظي من خلال السرد.. تشظي اللغة.. تشظي التناص.. تشظي الصوت الشعري الأول.. وجميع الحالات هي نقيض الالتئام! ويقال في أشهر الأمثال الشعبية تفاؤلاً «اللي انكسر يتصلح».. والزجاج لا يلتئم ولا «يتصلح».. ومهما كان المعالج حذقاً، فإن الندوب ستبقى تعلن عن آثار الكسر ولو بعد حين!
الروائية السعودية عائشة الحشر تحاكي في روايتها «التشظي» أحد أطوار عودة الزجاج إلى مؤلفاته الأصلية وجذوره التي هرب منها، كالإنسان في «أرشد» حالاته حين يبلغ من العمر عتياً وهو هائم بين ثقافة مجتمعية مكرّسة وبين رؤاه وصوت ضميره.. وبذلك نصبح جميعنا بين الشظايا والتشظي.. سواء.
زجاج القوارير شعراً
جمعت الأديبة المغربية د. صالحة رحوتي – رحمها الله – عدداً من القصص بين دفتيّ كتاب سمته «خدوش على جداريات القوارير» وضمت إلى هامشه رسالة شعرية طويلة للشاعر المغربي جلال دكداك أهداها إلى زوجته وإلى كل النساء المسلمات بعنوان «رفقاً بالقوارير» جاء في مقطعها الرابع:
قارورتي أنت التي قرت بحبك أعيني
وعرفتُ فيك العزم والصبر الجميلْ
ما مسَّ قلبك من عناء مسَّني
لكنني عُلِّمتُ منكِ بأنَّ عَتْبَكِ ردَّني
ردّاً جميلاً للصَّوابْ
إني سأفتح ألف بابْ
من كل باب تدخلين بلا عتابْ
بوَّابُكِ الحبُّ الذي برهنتِ أنَّكِ أهلُهُ
فضلي وفضلكِ فضلُهُ
فلتحفظي هذا الجوابْ
في حين استخدمت القوارير كثيمة ثابتة يُستدل بها على ضعف النساء ومحاصرتهن -إن صح القول- بمشاعر الخوف ووصايا الحماية من الخدوش، استخدمت أيضاً المفردة ذاتها لتحريض المرأة على الفكاك من الأسر والاستعباد في الديوان الأهم للشاعر الفلسطيني الراحل ميشيل حداد الذي أهداه لكل نساء الأرض بغية تقدير نضالهن وكفاحهن من أجل حياة عادلة كريمة.. فجاء الديوان بعنوان «قوارير» قبيل وفاته بفترة قصيرة جداً لينبذ عن كل النساء اليأس والهوان والشعور بالخطيئة.
الزجاج.. بخلاف ما هي
سائر الأشياءِ
على جانب آخر، نجد الشاعر نزار قباني يصب جام غضبه على امرأة اتخذت من الخداع والتلوّن ساتراً لها في قصيدة بعنوان «امرأة من زجاج»، وبناءً عليه، فالزجاج هنا لا هوية له ولا قالب بل متحوَلٌ متغيّر، حسب ظروف الحبيب وعوامل تتسلط عليه خارجياً..
جاء في القصيدة:
يا آخر امرأةٍ.. تحاول
أن تسد طريق مجدي
جدران بيتك من زجاجٍ
فاحذري أن تستبدي!
سنرى غداً.. سنرى غداً
من أنت بعد ذبول وردي
ولا ندري هل ألبس الشاعر الزجاج تهمة التلون.. أم التلون صفة تقابل الدهاء في النساء! أو ربما التبس عليه الأمر فأسبغ على المرأة هنا ضعف مناعة الحصون وانشقاق الصف.. وبذلك يهوي بالزجاج إلى رؤية غير مسبوقة في سهولة الاختراق والتفتيت والفناء..
أما الشاعر السوري عبدالغني النابلسي فيرى الزجاج بصورة مغايرة تماماً.. أو كما قال «بخلاف ما هي سائر الأشياءِ»! ويبدو أن الزجاج تحديداً دون كل كنوز الأرض العظيمة استطاع بقدرة فائقة على التشكل والطواعية وبقدرة الإنسان على الإبداع، استطاع أن يعكس حجم التناقض الرهيب الذي تكتنزه النفس البشرية، حيث يتمزق الإنسان بين رغبة في الشفافية والوضوح والصدق من جهة، وأسباب تدفعه إرادياً للتملق والكذب والتلون وفقاً للمواقف من جهة أخرى.. الأمر يشبه تماماً التحدي الذي واجه الإنسان في صقل الزجاج وتسويته ليصبح ناعم السطح كالورقة، وفي الوقت نفسه سعي كبريات المصانع والزجّاجين الدؤوب إلى اختراع زجاج متشقق كالحجر وآخر متموج كالبحر وعنبري بلون العنبر ولؤلؤي في بهاء أخف حدة من البياض!
إن الزجاج عبر للرائي
فانظر بها بالباء بعد الراء
وتأمل الأكوان حيث تنوعت
لك تنجلي في بهجة وبهاء
في حمرة في صفرة في خضرة
بخلاف ما هي سائر الأشياء
وكذلك الدنيا وما فيها فلا
يغتر راء بالذي هو رائي
سر التلون في الزجاجة فاعتبر
هذا بنفس داخل الأحشاء
إن النفوس هي الزجاجات التي
طبعت على سعد لها وشقاء
وبها يرى الرائي فيكشف مقتضى
ما عندها بتأمل وتراء
والحكم منه على الذي هو ظاهر
حكم علي بلبسه وخفاء
فإذا تحقق كان أنصف حاكم
فيما رأى واختص بالنعماء
والقلب أذعن منه في إيمانه
بالغيب عن قطع بغير مراء
في الشفافية
سأقذفُ جواربي إلى السماءِ
تضامناً مع مَنْ لا يملكون الأحذيةَ
وأمشي حافياً
ألامسُ وحولَ الشوارعِ بباطنِ قدمي
محدقاً في وجوهِ المتخمين وراءَ زجاجِ مكاتبهم
آه..
لو كانتِ الأمعاءُ البشريةُ من زجاجٍ
لرأينا كمْ سرقوا من رغيفنا
عدنان الصايغ
في النصاعة
فمٌ تتناسقُ الأسنانُ فيهِ
كحَبّاتِ الزُجاج إذا تلالا
«وحيد خيون» من قصيدة حبات الزجاج
في العمق
الراح كالنار في زجاج
تضيء في باطن اللبيب
وهي إذا الجاهل احتساها
تبدو دخاناً بلا لهيب
المكزون السنجاري
في الحيادية
بيننا صمتُ زجاج
ومجرَّات حنين
ويدٌ غصَّ بها الدمع
وما كنتُ حزين
يا شبيه الوجه مني
لو أخذت الطبع عني
ربما أبكاك وجهي
وأنا أستر دمعاً كل حين
كريم معتوق
الفسيفساء.. تاريخ يعكس التاريخ
ظهرت الفسيفساء أول ما ظهرت لدى الإغريق في القرنين الثالث والرابع الميلادي، عندما استخدموا الحجر المطحون والأقلام والمسامير لإحداث دوائر زخرفية ملونة في جدران من الطوب المشوي. والتحق الرخام والقرميد والزجاج لاحقاً بصناعة الفسيفساء عندما طوّرت الإمبراطورية الرومانية هذا الفن ليصبح سجلاً حافلاً بالقصص الناطقة على جدران القصور والحدائق والنوافير، ناقلين بذلك حضارتهم موثقينها في لوحات جدارية ضخمة إلى سوريا وحوض البحر الأبيض المتوسط وشمال إفريقيا. واقتبس الفنان المسلم هذا الفن الدقيق ورسم هوية بلاده وتاريخها العريق فبلغ ذروة الإبداع والريادة على القباب والقصور والأحواض المائية والمساجد، والتي من أشهرها قبة الصخرة بالقدس والجامع الأموي بدمشق.
ومؤخراً أنجز د. أكمل عبدالرحمن أستاذ بكلية الفنون التطبيقية في جامعة حلوان بالقاهرة لوحة جدارية بحجم مترين وربع المتر تقريباً، تعكس صفحتين من المصحف الشريف تضمان الفاتحة وأوائل سورة البقرة كما تظهران تماماً في طبعة المصحف بالمدينة المنورة، وقد استخدم الزجاج الفرنسي والإيطالي والأمريكي المضاد لكافة عوامل التغير الطبيعية من رطوبة وشمس مصممة بطريقة يسهل معها نقل العمل إلى المعارض العالمية في أي مكان من العالم. وجاء تزامناً مع منح خادم الحرمين الشريفين جائزة الشفافية والنزاهة لعام 2011م من مؤسسة سعفة القدوة الحسنة دخول لوحة الفنانة عائشة الموسى موسوعة جينيس كأكبر لوحة مصنوعة من الكريستال والفسيفساء استخدمت فيها أكثر من نصف مليون قطعة كريستال و1500 ساعة عمل، لتأتي شفافية الزجاج شاهدة على شفافية الجائزة والحائز عليها.
ومن أبرز تجليات هذا الفن في عصرنا الحاضر، الفسيفساء في المغرب العربي وإصرار هذه المنطقة الثرية على الاحتفاظ بتراثها وعراقتها عبر الرسوم الجدارية واللوحات العريضة في القصور والساحات الشاسعة، لتشرع الآفاق نحو رسوخ الفن في دماء العرب والمسلمين وتبني جسوراً بين الحاضر والماضي السحيق الذي أسس لحضارة أمة بأكملها. وفي المغرب العربي يسمونه «الزلّيج البلدي» والذي اشتهرت به مدينتا فاس ومكناس منذ القرن العاشر الميلادي بلونين فقط هما البني والأبيض. وربما لصعوبة طلاء الزجاج حينذاك نظراً لمحدودية الأدوات والوسائل التقنية الحديثة. ثم تعاقبت الألوان على الزلّيج المغربي في القرن السابع عشر بين الأخضر والأحمر والأصفر والأزرق، ولم تضف ألوان جديدة إلى القائمة حتى مطلع القرن العشرين، حيث لم تتنوع الألوان فحسب بل تنوعت الأشكال كذلك، إذ كان صبّ الزجاج على الأغلب يأخذ شكل المربعات المتفاوتة القياسات لتنتهي بتناسقها وتضادها في تغطية لوحة جدارية ببراعة واتقان، إلى أن أضيفت النجمة والزليج ذو الثماني زوايا كالمسمار المزخرف الرأس.
يُنجز هذا العمل بفخر واعتداد على أيدي حرفيين مهرة وصناع عباقرة يستعيدون به إلى وقتنا الحاضر جماليات التراث والأصالة، كفن قائم حتى اليوم يتطلب صبراً وتأملاً وعمقاً بمستويات خارقة للعادة حيث تتجلى به القدرات الوجدانية والروحانية لدى الإنسان المغاربي الذي لا يفتأ يعبِّر عن كنوز وطنه ومخزونه الثقافي عبر تجذير الفسيفيساء المغربي الأندلسي في الديكور المغاربي العصري بدءاً من جدران الحدائق والنوافير والصالونات والمداخل إلى غرف النوم. إلا أن نصيب الأسد يشمل بلاط الحمامات وأحواض السباحة والجدران الداخلية والخارجية للمنازل، فأضيف ماء الذهب والفضة والكريستال. لم يُفسح المجال أمام التقنية أن تقضي على رأسمال المغاربة من رمزية الأصالة وأهم العلامات الجمالية المميزة للمغرب، فطوّعوا التقنية لخدمة التراث ودارت المصانع وظهرت رسومات وخامات مختلفة بجودة عالية وملمساً مسطحاً خالياً من البروز ولمعان يلفت الأنظار ويضفي لمسة فخامة وذوقاً رفيعاً، ومع ذلك لا يزالون يطلقون عليه «الزليج».
محطات في تاريخ الزجاج
3000 B.C
صناعة حبيبات كروية للزينة (عُثر عليها في مصر).
2500 B.C
ازدهار صناعة الزجاج على الساحل الفينيقي.
700 B.C
أول كتاب آشوري يصف صناعة الزجاج. وبداية صناعة الزجاج في اليونان.
100 B.C
اكتشاف طريقة نفخ الزجاج ووصول صناعته إلى روما.
500 A.D
نقل العاصمة الرومانية إلى بيزنطية، والزجاج الروماني صار يْعرف بـ «الزجاج البيزنطي».
700 A.D
بدأت نهضة فن الزجاج الإسلامي.
800 A.D
جابر بن حيان يقدِّم 46 وصفة لصناعة الزجاج في «كتاب الدرة المكنونة».
1000 A.D
بدأت صناعة الزجاج في البندقية عام 982م.
1100 A.D
ذروة التطور في فن الزجاج الإسلامي. صناعة مرايا عديمة اللون في الأندلس.
1300 A.D
تدمير القسطنطينية وتحول البندقية إلى عاصمة صناعة الزجاج في الغرب. (نقل مصانع البندقية إلى جزيرة مورانو عام 1291م).
1500 A.D
إنتاج زجاج شفاف في مورانو بالألوان: الأخضر والأزرق والبنفسجي.
1620 A.D
اختراع زجاج «الأفانتورين» لتقليد الحجر الكريم الذي يحمل الاسم نفسه.
1690 A.D
اختراع الزجاج ذي المظهر الحليبي المعروف باسم «الأوبالين».
1730 A.D
الألماني جورج فريدريك ستراس يصنع زجاجاً شديد البريق لاستخدامه بديلاً عن الألماس في الجواهر.
1820-30 A.D
نهضة صناعة الزجاج في بوهيميا.
1831 A.D
بدء الحفر على الكريستال.
1849 A.D
اختراع الزجاج «المفضض» (باستخدام الزئبق).
1850 A.D
حفر الزجاج بواسطة الأحماض.
1861 A.D
تأسيس متحف الزجاج في جزيرة مورانو.
1865 A.D
اختراع آلة لتشطيب الزجاج هندسياً.
1878 A.D
تأسيس مصنع «دوم» في فرنسا الذي عُرف باسم «استديو دوم». وبدأ إنتاج البلور الصخري صناعياً.
1879 A.D
إميل غاليه يؤسس مصنعه لإنتاج الزجاج التزييني.
1895 A.D
تأسيس شركة الكريستال زواروفسكي في النمسا.
1900 A.D
العالِمْ النمساوي رودلف سايدن يسجِّل براءة اختراع «الزجاج المقوَّى» المعروف بزجاج السلامة.
1903 A.D
الفرنسي إدوار بنديكتوس يخترع «الزجاج المغلَّف» الذي يبقى متماسكاً عند تحطمه.
1966 A.D
تسجيل براءة اختراع الألياف البصرية لنقل المعلومات.
2001 A.D
اختراع الزجاج الذي ينظِّف نفسه.
2004 A.D
اختراع الزجاج المفرَّغ لاستخدامه في العزل الحراري.
2010 A.D
تصنيع لوح من زجاج البناء يصل طوله إلى 18 متراً، وهو أطول بمرتين تقريباً من أكبر لوح زجاج كان من الممكن إنتاجه حتى آنذاك.
مسجد.. تحفة من الزجاج
يجسِّد تصميم المسجد الزجاجي في المركز الإسلامي ببلدة بنسبرج الألمانية أسمى معاني الشفافية والروحانية، ويعزّز قيمة الصدق مع الخالق ثم الصدق مع النفس باستعمال الزجاج بعدة أنواع في الجدران الخارجية، وديكور المنبر والأعمدة الداخلية. معان كثيرة يمكن ترسيخها من خلال هذا التصميم الفريد، ويكفينا أن نستشعر أن المسجد مهوى للجمال وموضع للراحة والتأمل يجب أن يجذب المصلين بطرازه المعماري الأنيق وتفاصيله الصغيرة. أنشأت المركز شركتان إحداهما إماراتية والأخرى ألمانية، وتشرف عليه الأمانة العامة للأوقاف بالشارقة.
تحفة أخرى من الكريستال الخالص، مسجد يقع على بحيرة بوترا جايا في مدينة كوالا تيرينغانو في الشمال الشرقي من ماليزيا، تم افتتاحه عام 2008م، ويقال إنه من أجمل المساجد في العالم ويتسع لأكثر من خمسة عشر ألف مصل.
الزجاج المعشَّق
تلتبس تسمية الزجاج المعشق على الكثيرين، فيظنون أن المقصود به هو الزجاج الملوَّن. إذ ليس كل زجاج ملوَّن هو بالضرورة معشَّق، بينما لا بد أن يكون الزجاج المعشَّق ملوناً.
و«العاشق والمعشوق» في الزجاج يجمعهما شريط من الرصاص أو الزنك أو النحاس هو بمثابة اللحام بينهما. فالعاشق لون من الزجاج والمعشوق لون آخر. هذا هو الزجاج المعشق الذي أسر منظره الجمالي العرب، وكان ضمن فنون عمارتهم الإسلامية. فزينوا به زجاج نوافذ قصورهم، وقباب مساجدهم. وتعمَّدوا أن يكون الزجاج في أكثر الجهات تعرضاً لضوء الشمس ليبرز جمال التعشيق والتلوين.
يطلق على هذا الفن أيضاً اسم «الفتراج»، المشتق من الفرنسية، حيث يقوم الحِرَفيون بتلوينه أثناء تصنيعه، وذلك بإضافة بعض الأكاسيد الملونة إليه، وليس كما يظن البعض أنه يلوَّن بعد التصنيع.. إن أسلوب الفتراج يجعل اللون جزءاً لا يتجزأ من الزجاج ويظهر جمال اللون أكثر من مجرد إضافة طبقة سطحية ملونة فوقه.
أتقن العرب صناعة الزجاج وفن التعشيق منذ بداية القرن الرابع عشر الميلادي. واشتهر هذا الفن في مصر ودول المغرب العربي.. حيث صناعة الزجاج تلقى رواجاً كبيراً، بالإضافة إلى وجود معلمين محترفين لهذه الصنعة التي توارثها الأجيال أباً عن جد. وأصبح التعشيق بألوانه وبروعة أشكاله الهندسية من خماسية وسداسية فناً إسلامياً بامتياز، سمي العاشق والمعشوق، لكن التسمية مرت بمراحل وصلت فيها إلى التسمية بـ «الزجاج المعُشّق».
عندما قاد الزجاج باقي الفنون
تُعد العقود الأخيرة من القرن التاسع، العصر الذهبي للزجاج في أوروبا، وذلك ليس فقط لبدء استخدامه في البناء وتطور تقنيات صناعته، بل أيضاً لأنه خلال تلك الفترة بالذات، استطاع فن الزجاج أن يقود الحركات الفنية بشكل عام، فكان الرائد المؤسس لما نعرفه اليوم باسم «الفن الجديد».
يعود هذا التطور بشكل رئيس إلى شخصين فرنسيين هما إميل غاليه وأنطوان دوم. فقد درس غاليه في شبابه الفلسفة وعلم النبات ومن ثم صناعة الزجاج. وبسرعة بلور شخصية فنية في حرفته هذه تمثَّلت بصناعة آنية تزيينية من زجاج سميك قليل الشفافية وغالباً بلونين أو ثلاثة، معتمداً كمواضيع على العناصر النباتية والحيوانية والحشرات بشكل خاص. وبسبب النجاح الكبير الذي لقيته أعماله منذ البداية وحصوله على عدة جوائز في المعارض الدولية في ثمانينيات القرن التاسع عشر، أنشأ مصنعاً ضم نحو 300 عامل لكي ينتج بالجملة نماذج من أعماله الأصلية، وظل هذا المعمل ناشطاً حتى العام 1936م.
وبموازاة غاليه هذا، كان فرنسي آخر يُدعى جان دوم قد أسس في العام 1878م مصنعاً أسماه «استديو دوم» لإنتاج الأدوات التزيينية من مزهريات وآنية طعام وحتى النوافذ. ولاحقاً أشرف ابناه أوغست وأنطونان على هذا المصنع، ولمع اسم هذا الأخير بشكل خاص كمنافس لغاليه استخدم المواضيع النباتية والحيوانية وبأسلوب مشابه جداً لأسلوب غاليه المتميز بانتصار الخطوط المنحنية والمتعرجة وفق مخطط متناسق هندسياً أو يكاد، تتخللها عناصر عضوية موزَّعة بشكل شبه عشوائي.
وبسرعة، انتشر هذا الأسلوب المميز في التصميم انتشار النار في الهشيم، وراح يطال صناعة المفروشات الخشبية، والرسم الزيتي، والزخارف المعدنية في الأبواب والنوافذ، ليكتسح لاحقاً فن العمارة، وهو ما يُعرف باسم «الفن الجديد» أو «مدرسة نانسي» نسبة إلى المدينة الفرنسية التي نشأ فيها، بفعل التفاف بعض كبار الفنانين حول غاليه ودوم مثل لويس ماجوريل وفيكتور بروفيه وغيرهما…
أقفل مصنع غاليه أبوابه في العام 1936م. ولكن ورش حِرَفية قامت في أماكن كثيرة لتقليد أعماله. وفي العام الماضي 2012م، بيعت إحدى المزهريات الأصلية التي تحمل توقيعه بأكثر من 200 ألف دولار، علماً أن ارتفاعها لا يزيد عن سبعة إنشات. أما مصنع دوم فيستمر حتى اليوم كواحد من أرقى مصانع العالم لصناعة الزجاج التزييني.
مان راي.. والدموع الزجاجية
قيل إن طعم دموع الحزن مالحة، بينما دموع الفرح حلوة، ولكنَّ هناك دموع لا طعم لها، ونالت من الشهرة مالم تنله أي دموع. إنها اللقطة الشهيرة للمصور الفوتوغرافي الطليعي مان راي 1890 – 1975م، المعروفة باسم «دموع زجاجية»، وقد قام بتصويرها في الأستديو الخاص به في باريس عام 1938م. لقد استعان راي لإنجاح هذه اللقطة بأربع كرات صغيرة من الزجاج لتكون بمثابة الدموع على وجه العارضة الفرنسية التي انتقاها لتمثل مشهداً ربما كان قابلاً للكسر، فهذه الدموع الزجاجية علىالرغم من جمالها إلاّ أنها كاذبة. لقد أوحت خيانة حبيبته له بهذا التكوين المؤلم والجميل في الوقت نفسه، وكأن اللقطة التي تُعد اليوم ضمن مجموعة راندي وبوب فيشر، تحمل رسالة حول الدموع الشبيهة بالزجاج.. بأنها كاذبة.. جميلة.. لاتجف أبد الدهر، كما قال أحدهم. وربما أراد راي أن يقول إن بإمكانه كسر هذه الدموع، وكسر قلبها أيضاً، إذا سنحت له الفرصة.
الزجاج رمزاً للنور السماوي
ذُكر الزجاج في القرآن الكريم في عدة مواضع، منها قوله تعالى: }قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{ سورة النمل، الآية: 44.
تمتلئ سورة النمل بالمواقف الخارقة فالصرح، وهو الساحة من القصر أو صحن الدار، قد شُيّد من زجاج تحته ماء أرسله سليمان وألقى فيه السمك ليزيد استعظاماً لأمره وتحققاً لنبوته. أما ممرّد فهو الرقيق الملمس، مما يشير إلى أن لشدة شفافية سطح الزجاج المنبسط تحت قدميها لم تفطن بلقيس إلى وجود العازل وظنّت أنها تعبر الماء!
}اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{ سورة النور، الآية: 35.
ينتقل الترتيب هنا من المحتوي إلى المحتوى والإدراك البصري الواسع يرى هالة الأشياء قبل الأشياء في ذاتها، وما يهمنا هنا هو الوظيفة الدلالية المزدوجة لوسيط اسمه: الزجاجة! فهي تحفظ المصباح لكن لا تعرقل انبثاق الضوء ولا انتشاره، بل آخذة في التوقد كالكوكب الدريّ لتبرز ثلاث دلالات لنور الله عز وجل – كما جاء به المفسرون- نور محفوظ، ونور ساطع ونور خالص. وإذا كان المصباح هنا هو السراج، والزجاجة هي القنديل فجميعها من زجاج! ومنذ هذه الآية النورانية اُعتبرت المشكاة رمزاً للفن الإسلامي، فرسمت على سجاجيد الصلاة، وفي المساجد والمتاحف والقصور. كما ضم متحف الفن الإسلامي بمصر عديداً من المشكوات التاريخية التي تحمل نقوشاً مذهبة من المينا بأسماء سلاطين المماليك وأبنائهم.
القوارير وصية وبلاغة:
تأتي سرعة الكسر لرقة الزجاج تمييزاً له عن الحديد أو الحجر وليس عيباً فيه، وهذا يفسّر قول النبي (صلى الله عليه وسلم) للحادي «رويدك يا أنجشه.. رفقاً بالقوارير» رواه البخاري ومسلم، إذ خشي على نسائه من تسارع خطى البعير عند سماعها الحداء الطارد لخمولها، ومن القول البليغ أن جاء تشبيه النساء بالقوارير وليس بالزجاج، فلم يأت التشبيه مباشراً ولا سطحياً، إذ إن القارورة وعاء عميق يقرّ بداخلها السائل ويطفو الصافي منه. فأخذت التسمية بُعداً ثقافياً للفت الأنظار إلى مراعاة الكائن الرقيق الذي يحتمل خدوش الآلآم لكنه لا يعود إلى هيئته الأولى إذا وقع عليه ظلم كاسر.
متاحف الزجاج
كما هو حال كل الفنون الراقية والإبداعات الإنسانية، حظي الزجاج بمتاحف خاصة به، حيث لا تنافسه أية فنون أخرى في إبهار الزوار. وواحد من أعرق هذه المتاحف هو «متحف الزجاج» في جزيرة مورانو الإيطالية، الذي أنشئ في القرن التاسع عشر، والمخصص بالكامل لتاريخ صناعة الزجاج في البندقية. أما «متحف مدينة لييج لصناعة الزجاج» في بلجيكا، فهو متحف موسوعي، أنشئ عام 1959م، ويحتوي على أكثر من عشرة آلاف تحفة من الزجاج العائدة إلى مختلف العصور وحضارات الأرض، بحيث يصنَّف كأفضل مؤسسة في العالم لجهة التعبير عن صناعة الزجاج بكل أبعادها، وعلى المستوى الكوني.
وفي مدينة تاكوها الأمريكية ثمة متحف للزجاج يتميَّز عن غيره بتفاعله الكبير مع الزوار. فهو يحتوي على ستوديو مخروطي الشكل يرتفع 90 قدماً ويضم 138 مقعداً إلى جانب إمكانية الإطلال على داخله من شرفات مرتفعة. وهو ليس حكراً على الفنانين وإنما يستقبل المتدربين والراغبين في تعلم كيفية تسخين الزجاج وتطويعه بالنفخ وتشكيله، لتقسم المجموعات إلى فرق، مما يدعم اكتشاف المواهب وهي تجربة مدهشة لا تُنسى تسهم في اكتشاف الإنسان لذاته وقدراته الخفية. كما تقام فيه ورش عمل دورية للكبار والصغار مقابل رسوم، وبرامج خاصة بالمدارس تروِّج للزجاج كمادة مغرية لإنتاج أعمال فنية.
جوهرة الكون.. هدية إلى الكون
كريس تشامبرلين مبرمج كمبيوتر بريطاني من أصل صيني، يتفاعل مع كل ما يحيط به في العالم، ويصحو يومياً على الإحساس بأنه مسؤول عن هذه البشرية.. وأن على كل منا أن يخدم الإنسانية بطريقته.. فقرر ذات يوم القيام بالعمل العظيم الذي استغرق إنجازه عامين كاملين، وهو صناعة خريطة للعالم باستخدامه شظايا الزجاج الصغيرة. وقد قام بتخصيص حجر كريم لكل مدينة في العالم، فاستعمل الياقوت والزمرد للإشارة إلى المواقع التي تحتل مكانة روحية مقدسة في مشرق الأرض ومغاربها، مثل مكة والقدس. بينما استعمل آلاف القطع الدقيقة التي يقال إنها بلغت حجم حبة الأرز باللون الفيروزي للدلالة على الأنهار والبحيرات الشهيرة في جميع أنحاء العالم مثل النيل والجانج والميسيسيبي.
تحتوي خريطة العالم هذه على 330,000 قطعة زجاجية مصبوغة ومقصوصة يدوياً، مع العلم بأن %97 من هذه القطع تم قصها وتشذيبها من قبل الفنان نفسه. كما أنها تحتوي على 260 قيراطاً من الجواهر الطبيعية كالياقوت والزيركون وألماسة واحدة. أما دافعه الأساسي فهو أن الكون جميل والحياة على هذا الكوكب أجمل، وهو يقدِّم هذا العمل الإبداعي كهدية امتنان، وعرضها للبيع بسعر 380 ألف دولار، ليتبرع بنسبة من ثمنها لإحدى المدارس في سيراليون.
الألياف الزجاجية
حين يتعرَّض الزجاج لدرجات حرارة مرتفعة جداً يمكن تطويعه في شكل ألياف ناعمة كالحرير. وقد اضطلعت شركتان أمريكيتان وعبر تجارب أجريت من عام 1931م إلى عام 1939م، هما شركة زجاج إيلينوي أوينز وشركة كورننج للأعمال الزجاجية من تطوير طرق عملية لصناعة الألياف الزجاجية بكميات تجارية. وعلى الرغم من كونها زجاجاً – سهل الكسر كما هي الصورة النمطية للزجاج – إلا أن المرن منها أقوى من الصلب حيث لا ينكسر بل ينحني ويميل! ويمكن لفها على شكل كرات الصوف والحبال.. وأصبح بالإمكان حياكة شعيرات من نسيج الألياف الزجاجية الملونة في السجاد وصناعة هياكل السيارات والمركبات الفضائية وإطارات النوافذ والبيوت الزجاجية وأقمشة الستائر أيضاً.. من كان يصدق ذلك!
شواطئ الزجاج.. من بقايا
النفايات إلى نقاء البدايات
يقع شاطئ الزجاج Glass Beach في حديقة مكاريتشر ستيت في مدينة فورت براغ بولاية كاليفورنيا، وسمي الشاطئ بهذا الاسم لأنه بعد الحرب العالمية الثانية تم استخدامه كمكان آمن لدفن جميع النفايات في الفترة الواقعة ما بين 1949م وحتى 1967م، حين أوقفت الحكومة الأمريكية ذلك. وبمرور الوقت أدى احتكاك الأمواج المتعاقبة إلى تآكل البقايا الزجاجية للنفايات وانتشارها بوداعة على صفحة الشاطئ لتحوله ببريقها الساحر إلى شاطئ خلاب لا مثيل له، وليصبح مَعْلماً سياحياً شهيراً ووجهة لآلاف الزوار من كافة أنحاء العالم. وفي الحقيقة فإن المدينة تضم بين جنباتها ثلاثة شواطئ زجاجية كل واحد منها أكثر جاذبية من الآخر.
ولحماية البيئة! يُحذَّر السائح من ملء جيوبه من جواهر الزجاج الأحمر القاني، ويوصونه بإلقاء النظر وتسريح البصر فقط حتى يتسنى لمن يأتي لاحقاً الاستمتاع بالمشهد الرائع..