العالم بأسره يذكر الضجيج والانبهار اللذين أثارهما اعتماد الإنسان الآلي (الروبوت) في صناعة السيارات اليابانية قبل ثلاثة عقود من الزمن، عندما تأكد من إمكانية حلول الذراع المعدنية المبرمجة محل أيدي العمال الآدميين. ومنذ ذلك الحين لم تهدأ حركة تطوير الإنسان الآلي، وصناعة نماذج أكثر تطوراً من سابقاتها.
الأستاذ أشرف إحسان فقيه* يعرض آخر ما توصلت إليه الأبحاث في مجال صناعة الإنسان الآلي، وأيضاً آخر ما تطمح إليه هذه الأبحاث مع الأسئلة المقلقة – إذا جاز التعبير – التي يمكن أن تثيرها مشروعات أنسنة الآلة، وفوائدها التي لا تحصى في الوقت ذاته.
ظهر مصطلح (الروبوت – Robot) للمرة الأولى في مسرحية للكاتب التشيكي كارل تشوبئك عام 1921م. وكانت القصة حول آلات مُسخرّة للقيام بالمهام الشاقة عوضاً عن أسيادها البشر، واللفظة كانت مشتقة من الكلمة التشيكية (Robota) والتي تعني (عامل السخرة) أو (المُستعبد). ولاحقاً، التقط عظيم أدب الخيال العلمي (إسحاق عظيموف) الفكرة والمصطلح، وصيّرت أعماله القصصية من كلمة (روبوت) مصطلحاً دارجاً وحلماً تحمس العلماء ليأتوا به من عالم الخيال المستقبلي.
في العربية، ظهرت ترجمات عدة للكلمة لعل أشهرها عبارة (الإنسان الآلي) والتي نحتت منها لفظة (الإنسالة) للتعريف بالآلة التي تمتلك هيئة وخصائص إنسانية وهو ما يعرف تحديداً بالـهيومنويد (Humanoid). وتُعرَّف (الإنسالة) في صورتها النهائية بكونها آلة ذاتية التشغيل آدمية الهيئة تتمتع بالذكاء وذات قدرة على الاستجابة للأوامر بتجرد من الشعور.
إلا أن مشروع الإنسالات ما زال يعاني فشلاً يتجرع الوسط العلمي مرارته. ويتحمل تخصص (الذكاء الصناعي) تحديداً مسؤولية تأخر إنجاز مشروع الإنسالة حتى الآن. فعلى الرغم من البدايات المشجعة في تصنيع الأجزاء الميكانيكية للإنسالة كالأذرع والمفاصل واستغلالها في تطبيقات صناعية جمة، إلا أن محاكاة الذكاء البشري والقدرة على تزويد الآلة (بعقليتها) المستقلة لم تزل أحلاماً مقيدة بالتطور المحدود في هندسة الحاسبات وبرمجيات الذكاء الصناعي. ويقر العلماء بعجز الرياضيات الحديثة عن تكوين فهم قاطع للذكاء البشري مع التفوق المحدود لتطبيقات الذكاء الصناعي الموجودة حالياً على العقل الآدمي في بعض مجالات أنشطة الدماغ. وهي لا تزال أبعد ما تكون عن القدرة على مسايرة العقلية البشرية في التحليل والاستنباط و سعة الذاكرة وحسن التقدير. لكن العلماء يتوقعون، قياساً على مدى التطور الحالي الذي تعيشه صناعة الحاسبات، ظهور أول إنسان آلي مستقل التفكير والتوجيه خلال الأربعين عاماً القادمة بهدف تزويد البشرية بخدم آليين ينظفون البيوت وينقلون البريد ويعملون في المناجم ويجهزون العشاء على ضوء الشموع لأن “السيد يحب ذلك”!
(آزمو).. خطوة على الطريق
يمثل الإنسان الآلي آزمو (ASIMO) أبرز نتائج جهود تطوير الإنسالة الذكية. وهو يعتبر أول إنسان آلي يستطيع السير على قدمين كما البشر على نحو حر كميزة أدخلته التاريخ واشتق منها اسمه الذي يمثل عبارة: (Advanced Step in Innovative Mobility) أو ما يمكن ترجمته إلى (خطوة متقدمة في أساليب التنقل الرائدة).
ويحمل آزمو شعار شركة هوندا اليابانية الشهيرة التي باتت تتفاخر بتعدي مجالات إبداعها نطاق السيارات. فقد ظهرت أول نماذج هذا المشروع عام 1986م، ثم كان أول ظهور علني لإنسالة هوندا هذه عام 1993م فأثار ضجة عالمية وإبهاراً بسبب قدرة الآلة على السير وصعود السلالم لوحدها، الأمر الذي عد وقتها قفزة في مجال التطور الميكانيكي للإنسالات. إلا أن آزمو لم يزل يبهر الجمهور منذ ذلك الحين وتتمتع كل نسخة مطورة منه بميزات متفوقة عن سابقتها. ويعود آخر تطوير رئيس حظي به آزمو أواخر عام 2004م عندما تم تزويده بقدرات ذكاء صناعي محدودة تمكنه من التعرف على الوجوه المألوفة وتقبل التعليمات الصوتية من أصحابها. إذ يستطيع آزمو الآن فهم الإشارات الصامتة بالأيدي والأصابع ليتحرك في الاتجاه الذي يشير له (سيده) بإصبعه أو ليرتد على عقبه مبتعداً فيما لو لَوّح له سيده مودعاً. كما يتميز الطراز الأخير من آزمو بكونه أصغر حجماً إذ يصل ارتفاعه إلى 130 سم ووزنه إلى 45 كلغ، وهي نقطة جديرة بالاعتبار فيما لو قدر للآلة بأن تستغل منزلياً أو تطلق بين جموع البشر، وهو ذو تصميم أكثر جاذبية. كما يتميز الشكل الأخير أيضاً بتطوير قدرته على (الركض) بسرعة تصل إلى 3 كلم بالساعة واستغلال أطرافه في عمليات أكثر تعقيداً كركل الكرة واستقبالها، وبسهولة تشغيله.
ويُعد آزمو اليوم شخصية اجتماعية لامعة يتم استدعاؤها غالباً لتدشين المناسبات الرياضية والفنية. وهو بذلك لا يمثل فتحاً تقنياً فحسب وإنما هو يمهد الطريق لتقبل الجمهور لفكرة الإنسان لآلي ويعطي للمهتمين إشارات بالغة الأهمية حول الصورة التي ستتعامل بها العامة مع هذه التقنية الحديثة التي يؤمل أن تقتحم كل بيت يوماً ما.
آيبو: رمز الوفاء.. الإلكتروني
ولا يقتصر الأمر عند الحديث عن الآلة الذكية على محاكاة الصورة الآدمية منها. ففكرة (الحيوان – الآلة) هي الأخرى مطبقة في (الكلب الآلي) الذي انتجته شركة (سوني) عام 1999م وسمته (آيبو – AIBO) بغرض تحقيق مكاسب تسويقية جمة ولتجريب تطبيقات حاسوبية واعدة تم تطويرها مسبقاً.
ولا يزال آيبو -أو الرفيق باليابانية- يتمتع بشعبية ساحقة بين هواة المنتجات التقنية في الغرب و اليابان. وهو يحظى عند الكثيرين بإيثار على الكلاب الحقيقية. وقد طرحت ثلاثة أجيال مختلفة من هذا الكائن الآلي حتى الآن. بيعت جميع نسخ الجيل الثاني منها حول العالم خلال 20 دقيقة من لحظة توافرها بالأسواق. والنسخة الأحدث (ERS-7) متوافرة بسعر 1600 دولار للوحدة. وهي تتميز بقدرات من قبيل التنقل ذاتياً وتفادي العوائق من أثاث وبشر، والتفاعل مع صوت صاحبها تحديداً وتعابير وجهه كذلك، وتنفيذ حركات أكثر تعقيداً وإبهاراً من الجيلين السابقين، مع إمكانية برمجتها لتهاجم الغرباء، وقيامها بذاتها بإعادة شحن بطارياتها عند انخفاض مستوى الطاقة بها عن طريق بحثها ذاتياً على جهاز الشحن الكهربائي وجلوسها عليه حتى تتم إعادة تغذيتها بالطاقة. ويتمتع هذا الحيوان الآلي بقدرات ذكاء صناعية ومميزات تقنية تجعل منه أكثر من مجرد لعبة. وقد تم تزويد الطراز الأحدث من هذه اللعبة بالقدرة على التواصل لاسلكياً مع الأجهزة الأخرى كالحاسبات الآلية والهواتف النقالة مما يعني قدرته على التقاط الصور الرقمية مثلاً وإرسالها لاسلكياً عبر البريد الإلكتروني لحاسوب صاحبه.. أو تنبيه صاحبه في حالة وجود حريق أو طارئ بإرسال رسالة لهاتفه الجوال أو حتى الاتصال بالشرطة عند الضرورة.. مما يضمن مستقبلاً واعداً لهذه (اللعبة) في المهام الأكثر جدية.
كِسمِت: روبوت ذو مشاعر!
إذا كان المثالان السابقان يمثلان حوانب في التطور الذي تعيشه الإنسالات ميكانيكياً، فثمة جانب ثالث بين الاثنين يتناول قدرة الإنسالة على التعبير للإنسان عما تعانيه من (مشاعر) إلكترونية. وهو جانب قد لا بيدع فيه آزمو ولا آيبو لكن تغطيه باقتدار إنسالة طورتها ( سينثيا بريزيل) عام 1997م بمعهد ماساتشوستس للتقنية كأطروحة لنيل الدكتوراة وأعطتها اسم (كِسمِت- Kismet).
تتلقى هذه الإنسالة، وهي مجرد رأس صناعي ذي ملامح هزلية، البيانات عبر آلة تصوير بالعينين وعبر التقاط التعابير اللغوية وملاحظة حالة الطقس أو طبيعة الأثاث في الغرفة وما إلى ذلك، وتقوم بتحليلها عبر عقل إلكتروني مكون من خمسة عشر حاسوباً لتعطي في النهاية تعابير وجه ملائمة للجو المحيط. وتستطيع (كِسمِت) التعبير عن سبع حالات نفسية مختلفة كالسعادة والدهشة والاهتمام والاشمئزاز عبر حركات عينيها وحاجبيها واذنيها وشفاهها الصناعية.
نحو ربط الدماغ بالآلة
لعل درة الإنجاز العلمي في هذا الصدد تتمثل في تحقيق الحلم الذي طالما راود الأطباء والمهندسين في ربط نسيج المخ البشري بالمُعالج الحاسوبي وإنتاج ما يمكن اعتباره وسيلة التحكم. ويعمل الباحثون حالياً على محاكاة الشفرة الوراثية في توليف المعلومات والنبضات الكهربائية أو الضوئية لزيادة طاقة تشغيل الحاسبات ومضاعفة سرعتها مما سيمثل خطوة مهمة في سبيل إيجاد نظام يربط الدماغ البشري بالحاسب الآلي مباشرة، إما عضوياً أو ذهنياً. ويعيش الوسط العلمي حالياً فرحة تجربتين تبشران بنجاح عريض.
ففي التجربة الأولى قام العلماء بإنشاء خط اتصال سلكي مباشر بين المخ الحي والحاسوب مما يتيح تخيل مستقبل يجلس فيه الإنسان إلى حاسوبه ليفكر في كتابة رسالة بالبريد الإلكتروني لصديقه فتنتقل الحروف ذهنياً وبشكل تلقائي دون الحاجة للوحة مفاتيح من المخ إلى شاشة الحاسوب مباشرة. وهو مجرد مثال يوضح شكل الهيمنة الكبيرة التي قد يشكلها هذا التحالف بين العقلين، الآدمي والإلكتروني لتحقيق إنجازات مذهلة من قبيل التحكم بالسيارت والطائرات ذهنياً وتشغيل آليات المستشفيات والمصانع عن بعد واستكشاف أغوار المحيطات والفضاء عن طريق عقول آدمية متصلة لاسلكياً .. وربما نفسياً.. بحواسيب تشغل بدورها مركبات استكشاف غير مأهولة.
وتهتم وكالة الأبحاث العلمية DARPA التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية تحديداً بتمويل هذه البحوث بحوال 24 مليون دولار سنوياً أملاً في نتائج قد تعين جنود المستقبل على تشغيل معداتهم الحربية ذهنياً عن بعد ومن دون أن ينالهم شيء من غبار ميادين المعارك.
أما مجموعة التجارب الثانية فهي تحاول ترجمة إشارات المخ الممثلة للأحاسيس والأفكار الشائعة التي تشكل الذاكرة المشتركة بين الناس إلكترونياً وصياغتها في شكل منطقي يمكن للحاسب فهمه، والهدف هو زرع هذه الذاكرة في الحاسوب لتحقق نوعاً من المعرفة المتبادلة بين الحاسب والإنسان تقوم على الخبرات الجمعية مشتركة بين الاثنين لتضفي مزيداً من السلاسة والألفة في استخدام التطبيقات والبرامج المثبتة على الحاسوب وتجعله يقدم خدماته للمستخدم بشكل أكثر ذكاء. أجريت تجارب في هذا الصدد على نحو منفصل على مجموعات من القردة والفئران في جامعتي (براون – Brown) و(وديوك – Duke). حيث كانت قردة المعامل تجلس أمام الحواسيب وتمارس على شاشتها لعبة تتدحرج فيها الكرة من أعلى إلى أسفل ليتحول أحد المربعات عليها إلى اللون الأحمر مع قفزات الكرة. وقد نجحت القردة في ممارسة هذه اللعبة ذهنياً بدون أن تلمس زراً واحداً.
أجرى الاستناد في تصميم هذه التجربة على أساس أن الناس يفكرون في المكان الذي يريدون أن يضعوا فيه أيديهم عبر جزء من خلايا المخ العصبية التي تقوم بهذه الوظيفة بسرعة فائقة قبل بدء تحريك اليدين، وحينما تمارس هذه الخلايا وظيفتها فإنها تصدر نبضات كهربية ذات خصائص معينة، هذه النبضات ترسم وتحدد في النهاية حركة اليد واتجاهاتها والأماكن التي ستتوجه إليها. ولاختبار هذه الفرضية، قام الفريق بعمل أبحاث مكثفة لتحديد وتوصيف هذه الخلايا المسؤولة عن وظائف الحركة في مخ ثلاثة من القردة، وبعد النجاح في تحديدها قام الباحثون بعمل فتحات محسوبة في جماجم القردة الثلاثة ثم ثبتوا 100 قطب كهربي في الجزء من المخ حيث توجد الخلايا المسؤولة عن السيطرة على الكيفية التي تتحرك بها الأذرع، ثم قاموا بتوصيل هذه الأقطاب الكهربية بأسلاك ومرروها عبر الفتحات التي صنعوها بالجمجمة قبل أن يوصلوا تلك الأسلاك بالحاسوب. كان الباحثون قبل ذلك قد قاموا بتدريب القردة على ممارسة لعبة الكرة والدبابيس حتى تكون جاهزة عند بدء التجربة التي استهدفت إنشاء علاقة مباشرة بين عقل القرد والحاسب. وفي تلك التجربة وجدوا أن المسار البديل الذي تم إنشاؤه بالأسلاك بين مخ القرد وجهاز الحاسب جعل من الممكن أن تتم الحركة المطلوبة دون أن تستعين القردة بأذرعها. وتقوم تجارب مشابهة بجامعة ديوك علىالتقاط نبض أفكار الحيوانات وتسخيرها لتحريك أذرع روربوتية ميكانيكية بنجاح.
أنسنة الحاسوب.. أهي ممكنة؟
هكذا أثبتت التجربة أنه بالإمكان إنشاء خط اتصال سلكي مباشر بين المخ والحاسب بعيداً عن اليدين، وأصبحت هذه الفكرة أكثر نضجاً من الخيال العلمي، و إن كانت تحتاج بحوثاً أعمق. وتجدر الإشارة إلى أن أهم تطبيقات هذه الأبحاث ستعين المشلولين يوماً على استخدام أفكارهم في السيطرة على بعض الوظائف لدى أعضاء الجسم أو من أجل كتابة بريد إلكتروني أو التجول عبر الشبكة العنكبوتية العالمية للاتصالات والمعلومات.
ثمة تجارب أخرى تتعلق بما يعرف بـ (الميموم البشري – Human Memome Project) أو شيفرة الذاكرة البشرية وصاحبها هو دوغ لينات – Doug Lenat عالم الذكاء الصناعي الذي يهدف مشروعه إلى (حوسبة الأحاسيس) عبر تشفير محتوى الذاكرة الإنسانية وزرعها في الحاسب على شكل رموز يمكنه قراءتها. ويطمح (لينات) إلى أن يُنشئ شيفرة خاصة للذاكرة المشتركة بين الناس التي تمثل وعيهم الجمعي المتداول منذ أكثر من 50 ألف عام مضت والتي تتكون من حقائق ومعلومات ومفاهيم مصطلحات تشكل ذاكرة الفرد التي يتعامل بها مع المجتمع من حوله ووضع هذه الشفرة في قاعدة معرفية يمكن للحواسيب التعامل معها لتكون مورداً يُغذي أي تطبيق أو برنامج حاسوبي. ما تحقق حتى الآن في عملية حوسبة الأحاسيس يشمل فهرسة وتشفير ثلاثة ملايين قاعدة أو حقيقة من تلك التي يلم بها الشخص العادي بالإضافة إلى 300 ألف مصطلح من المفاهيم كمفهوم اللقاء الأول أو قاعدة مثل الناس يكونون أكثر تأدباً في اللقاء الأول عنهم في اللقاء التاسع .
ويخطط (لينات) لأن تصبح القاعدة المعرفية للميموم البشري متاحة للجميع حول العالم بعد إصداره لنسخة من هذه القاعدة تضم 5 آلاف مفهوم و50 ألف حقيقة من الحقائق الثابتة حول هذه المفاهيم. كما يتيح موقع على (الإنترت) وضع ما لدى الناس من معارف وحقائق تساعد في بناء الذاكرة البشرية عن العالم من حولهم في شتى المجالات. ويتوقع أن توفر الإضافات التي سيتلقاها مشروع الميموم البشري أكثر من مائة مليون حقيقة ومعلومة وإحساس في غضون سنوات خمس.
تساؤلات حول الحياة الآلية
بالرغم من الإثارة التي تطلقها فكرة إنتاج الإنسالة، إلا أن هناك مخاوف مشتركة في نفوس مؤيدي ومعارضي فكرة الإنسالة على حد سواء. فالدافع وراء تصنيع الإنسان الآلي سواء أكان الترف العلمي المحض أو الرغبة الفعلية في تيسير الحياة على بني البشر، فأنه لا ينفي خطورة تزويد آلة صماء بقدر من الذكاء وإطلاقها بين بني البشر لتتعامل معهم وفق النظم الاجتماعية الإنسانية. ومدى قدرة الآلة على (حسن التقدير) مهم لفهم كيفية تعاملها مع العواطف الاصطناعية التي يقتضيها ولا شك وجود عقليتها الآلية. كيف ستتعامل الإنسالة مع ردود الفعل التي تستوجب الحزن أو الغضب؟ هل ستُطور الآلة المُسخرة للعمل مشاعر تمرد ورفض؟ وهل ستكون هناك قصص حب ومصحات نفسية للإنسالات مستقبلاً؟ تلك الأسئلة وإن بدت هزلية في ظاهرها فهي تحمل معانٍ فلسفية عميقة تعكس حيرة الإنسان ذاته في فهم كنه نفسيته هو. وهي أسئلة تناولتها أعمال أدبية وسينمائية شتى.
ماذا لو أمكن تصميم إنسان آلي مزود بوحدة مشاعر بشرية؟ هل يخضع لمواد القوانين البشرية بناءً على ما سيظهره من أخلاقيات بشرية؟ أم يتم اعتباره مجرد مسخ آلي يمكن قطع الطاقة عنه في أي وقت؟ هل يجوز إنهاء آلة ذكية تدرك كينونتها؟ ألا يبرر حفظ حياة الجنود في الحروب وسلامة العمال في المناجم في باطن الأرض والمستكشفين في أعماق البحار وتحقيق أحلام ريادة الفضاء في رحلات قد تستغرق مئات السنين إنتاج مثل هذه الآلات الذكية القادرة على التعبير عن مشاعر بشرية والتصرف بحنكة بشرية؟ ثم هل سيؤدي بنا كل هذا الحماس للدمج بين الذكاء والقوة للانهزام أمام أجيال من الآليات سيقودها ذكاؤها الصناعي لاستنتاج مفاده أنها أولى منا بالسيطرة على هذا الكوكب وأقدر على الحفاظ على موارده بل وصيانة أرواحنا التي نفرط نحن فيها بحروبنا وأطماعنا المادية ونخسرها دون حول لضعفنا أمام الشيخوخة والمرض؟ كل علامات الاستفهام تلك تشكل مقدمة لكتاب الآلة الذكية التي تسعى فرق من العلماء لكتابة سطوره عبر جهود دؤوبة يتم بذلها في أنحاء متفرقة من العالم المتقدم تهدف لفهم سر الذكاء من ناحية.. ولبث وهم الحياة في برودة الحديد من ناحية أخرى.
أعلام سايبرنتية..
وينر و واريك
كل باحث في دراسات الربط ما بين الإنسان والآلة يواجه مصطلحات من قبيل (البيونية) و(الذكاء الصناعي) و(السايبرنتية). والأخيرة مفردة منحوتة عن كلمة (Cybernetics) الإنجليزية تختصر بذاتها كل العلم المعني بأساليب التحكم والاتصال بين النسيج الحي والآلة الصماء بأبعادها الهندسية والرياضية والاجتماعية والنفسية. هذا المصطلح العلمي ثقيل العيار تمت صياغته وتقديمه للمجتمع العلمي من قبل رجل واحد يمثل حالة فريدة في العبقرية وتعدد المواهب هو الفيلسوف والرياضي الأميركي نوربرت وينر (Norbert Wiener).
كالكثيرين من المميزين سواه، دان وينر بمعظم الفضل لوالده الذي كان مهاجراً من أصل روسي اشتغل بتدريس اللغات السلافية مع امتلاكه خلفيات في الطب والهندسة وإلماماً عميقاً بالرياضيات. وقد عمل هذا الوالد على تلقين ابنه نوربرت مستوى عالياً من التعليم المنزلي جعل من الصعب على الصبي أن ينتظم في المدارس العادية نظراً للبون الشاسع في المستوى التحصيلي بينه وبين أقرانه. أهّل مستوى التعليم المنزلي العالي هذا الفتى للالتحاق بإحدى الكليات من دون الحاجة لشهادة مدرسية ليحصل على درجة جامعية في الرياضيات وهو بعد في الرابعة عشرة ثم يلتحق بجامعة هارفارد العريقة ليواصل دراسته العليا هناك. وليحصل منها على الدكتوراة في الفلسفة الرياضية والمنطق عام 1913م وهو لم يتجاوز الثامنة عشرة.
وبعدها واصل الدكتور وينر سعيه للتحصيل فارتحل إلى جامعة كامبريدج البريطانية ليتتلمذ على أساطين الفلسفة وعلم المنطق في ذلك الزمن مثل برتراند رسل الذي حثه على مزيد من التعمق في فهم الرياضيات، لأنها ليست مجرد علم تطبيقي بقدر ماهي فكر تجدر مناقشته وفلسفة حياة.
عاد وينر عقب جولته الأوروبية ليدرّس الفلسفة في هارفارد ثم ينضم إلى شركة جنرال الكتريك قبل أن يعمل لفترة مع طاقم الموسوعة الأمريكية، لكنه في النهاية قبل وظيفة كمدرس للرياضيات في معهد ماساتشوستس للتقنية وهناك قدم أفضل أبحاثه المتعلقة بتحليل النظريات الرياضية المهمة. فكانت كل ورقة علمية يقدمها تقوده لسبر أغوار فرع آخر جديد من الرياضيات لا يلبث أن يبرع فيه ويكشف المزيد من أسراره.
وشملت اهتماماته طيفاً غطى فيزياء الكم ونظريات الاتصال والنظرية السايبرنتية التي ابتكر هو اسمها ابتكاراً مشتقاً إياه من الإغريقية ليعكس ماهية العلم المهتم بتطوير الوظائف الحيوية للكائنات الحية عبر ربطها بالتقنيات الآلية وتحليل جوانب هذا الربط النفسية والاجتماعية والهندسية كذلك. ويمكن اعتبار وينر على هذا الأساس مؤسساً متفرداً لهذا الفرع العلمي عبر بحثه المنشور عام 1948م والذي انكشف لاحقاً عن علم الدراسات البيونية المهتم بتطوير الأعضاء الصناعية وربطها عصبياً بوسائل تحكم حيوية.
تلقى وينر العديد من الجوائز ومظاهر التكريم قبل وفاته عام 1964م، وهناك جائزتان علميتان باسمه تقدمان في مجالي الرياضيات التطبيقية وتسخير تطبيقات الحاسوب لأجل خدمة المجتمع.
وعلى خطى وينر سار كيفن واريك (Kevin Warwick)، الذي يشغل حالياً منصب الأستاذية بقسم العلوم السايبرنتية في جامعة ريدنغ بالمملكة المتحدة. وقد كان لاسمه دوي ووقع في العام 1998م حين أعلن عن قيامه بزرع رقاقة إلكترونية داخل ذراعه اليسرى لتتيح له إمكانية الاتصال اللاسلكي مع بعض الأجهزة الإلكترونية الأخرى في قسمه الجامعي، وليُعد بذلك أول إنسان يطبق فكرة (السايبورغ – Cyborg) أو (الإنسان نصف الآلي) على الإطلاق.
ويعبتر الدكتور واريك منذ ذلك الحين أباً روحياً للمهتمين بفكرة السايبورغ وتطبيقاتها. ويدفعه في تجاربه مزيج من هوسه الشخصي في صناعة نموذج الإنسان- الآلة ومن إدراكه للحاجة الماسة في تطوير التقنيات الطبية للأجهزة التعويضية. وفي تجربته الأولى تم عبر عملية جراحية بسيطة غرس رقاقة سليكون إلكترونية محفوظة داخل انبوب زجاجي دقيق في ذراعه اليسرى. وخلال ثمانية أيام كانت مدة التجربة، أبهر الدكتور واريك المراقبين بتنقله في أرجاء مختبره لتُفتح له الأبواب وتُضاء الأنوار ذاتياً بمجرد اقترابه منها. وقد كان الغرض من التجربة هو تطبيق فكرة وصل جسم الإنسان بهذه الشبكة من الآلات وكأنه واحد منها، من جهة، والتأكد من مستوى التأثيرات الجانبية التي قد تصيب الجسم البشري من جراء ثمة عمليات من جهة أخرى.
وقد عُدت تلك التجربة ناجحة، وأتبعها الفريق العلمي بأخرى في شهر مارس من عام 2002م. تم خلالها زرع رقاقة جديدة بمعصم يده وتم وصل هذه الرقاقة بجهازه العصبي لتتواصل لاسلكياً مع جهاز كمبيوتر خاص. ويؤمل أن تفيد هذه التجربة في تطوير تقنيات لمساعدة ضحايا الشلل من جراء إصابات العمود الفقري عبر توافرها لفهم أعمق لطريقة انتقال الإشارات العصبية. ولا تزال التجربة قيد الدراسة حتى الآن، ويأمل واريك في أن يطورها ليتمكن من التحكم بالآليات الأخرى بواسطة شرائح ألكترونية قد تثبت في دماغه هو أوجهازه العصبي لاحقاً.