قبل عشر سنوات، أطلقت وزارة التربية والتعليم في المملكة العربية السعودية مشروعاً هو الأول من نوعه في الوطن العربي، يهدف إلى دمج الأطفال ذوي الاحتياجات التربوية الخاصة بمدارس التعليم العام. المشرف العام على التربية الخاصة في الوزارة، الدكتور ناصر ابن علي موسى يسلط الضوء على جوانب هذه التجربة التي باتت دول عربية عديدة ترغب في الاستفادة منها، وميزاتها وما اعترضها من عقبات.
بدأ تعليم الأطفال المعوقين في العالم العربي بما في ذلك المملكة العربية السعودية في المدارس العادية، ثم تحول منها إلى مدارس نهارية منفصلة عند ظهور معاهد التربية الخاصة، ثم أخذ معظم هذه المعاهد يتحول إلى مدارس داخلية، والآن بدأ يعود تعليم هؤلاء الأطفال إلى المدرسة العادية من جديد، ولكن هذه العودة تقوم اليوم على أساس نظام مساند قوي.
تعد المملكة العربية السعودية أولى الدول العربية التي تعمل على تطبيق الدمج التربوي في مدارسها على أسس علمية، حيث بدأت التجارب الأولى للدمج في مدينة الهفوف بالمنطقة الشرقية للمملكة عام 1984م. وفي عام 1989م، فتحت رياض الأطفال التابعة لجامعة الملك سعود بالرياض أبوابها للأطفال ذوي الاحتياجات التربوية الخاصة. وفي العام التالي بدأت وزارة التربية والتعليم في تطبيق الدمج في مدارسها، ولكن على نطاق ضيق جداً وبطريقة الدمج الجزئي، أما التوسع الكبير في تطبيق الدمج التربوي بمفهومه الشامل في مدارس المملكة العربية السعودية فقد جاء في عام 1996م، عندما وضعت وزارة التربية والتعليم استراتيجية تربوية تقوم على عشرة محاور، نص الأول منها على تفعيل دور المدارس العادية في مجال تربية وتعليم الأطفال غير العاديين، وهو ما يعرف بالدمج التربوي.
ما هو الدمج التربوي؟
تعرّف القواعد التنظيمية لمعاهد وبرامج التربية الخاصة بوزارة التربية والتعليم الصادرة في عام 1422هـ الدمج التربوي بأنه تربية وتعليم الأطفال ذوي الاحتياجات التربوية الخاصة في مدارس التعليم العام مع تزويدهم بخدمات التربية الخاصة. ويهدف الدمج التربوي إلى تحقيق جملة فوائد من خلال مجموعة خصائص وميزات أهمها:
–
أن الدمج التربوي يتيح للأطفال ذوي الاحتياجات التربوية الخاصة فرصة البقاء في منازلهم مع أسرهم طوال حياتهم الدراسية، الأمر الذي يمكنّهم من أن يكونوا أعضاء عاملين في أسرهم وبيئاتهم الاجتماعية، كما يُمكّن هذه الأسر والبيئات الاجتماعية من القيام بالتزاماتها تجاه أولئك الأطفال.
–
يعمل الدمج التربوي على الحد من المركزية في عملية تقديم البرامج التعليمية، وهذا يهيئ الأرضية التي تُمكّن المجتمعات المحلية من التأثير في مجريات عملية تربية أبنائهم ذوي الاحتياجات التربوية الخاصة، كما يتيح الفرصة أيضاً للمؤسسات التعليمية المحلية المختلفة أن تستفيد من تجربة تربية هؤلاء الأبناء.
–
أن الدمج التربوي يُشكّل وسيلة تعليمية مرنة، يمكن من خلالها زيادة وتطوير وتنويع البرامج التربوية المقدمة للتلاميذ ذوي الاحتياجات التربوية الخاصة.
–
أن البيئة الاندماجية تعمل على زيادة التقبل الاجتماعي للأطفال المعوقين من قِبل أقرانهم غير المعوقين، ومن ثمّ فإن تدريسهم في الفصول العادية يُمكّنهم من محاكاة وتقليد سلوك الأطفال العاديين، فيزداد التواصل والتفاعل الاجتماعي معهم.
–
إن احتكاك الأطفال المعوقين بأقرانهم غير المعوقين في سن مبكرة يُسهم كثيراً في تحسين اتجاهات الأطفال غير المعوقين نحو أقرانهم المعوقين، كما يُسهم أيضاً في تحسين اتجاهات الأطفال المعوقين نحو أقرانهم غير المعوقين.
–
أن من شأن الدمج التربوي أن يعمل على إيجاد بيئة اجتماعية يتمكن فيها الأطفال غير المعوقين من التعرف -بشكل مباشر- على نقاط القوة والضعف عند أقرانهم المعوقين، مما يؤدي إلى الحد، أو التخلص من أية مفاهيم خاطئة قد تكون موجودة لديهم.
–
ومن شأن الدمج التربوي أيضاً أن يعمل على إيجاد بيئة تعليمية تُشجع على التنافس الأكاديمي بين جميع التلاميذ، الأمر الذي يُسهم في رفع مستوى الأداء الأكاديمي لدى الأطفال ذوي الاحتياجات التربوية الخاصة.
–
ويعمل الدمج التربوي على إيجاد بيئة واقعية، يتعرض فيها الأطفال ذوو الاحتياجات التربوية الخاصة إلى خبرات متنوعة، ومؤثرات مختلفة من شأنها أن تمكنهم من تكوين مفاهيم صحيحة واقعية عن العالم الذي يعيشون فيه.
–
ويساعد الدمج التربوي على تعميق فهم المربين للفروق الفردية بين الأطفال، كما يظهر للمتخصصين وغير المتخصصين على حد سواء، أن أوجه التشابه بين التلاميذ العاديين وأقرانهم غير العاديين أكبر من أوجه الاختلاف.
طرق تنفيذه
ويتم تنفيذ الدمج التربوي في المملكة العربية السعودية على طريقتين هما:
1 –
طريقة الدمج الجزئي: وتتحقق من خلال استحداث برامج فصول خاصة ملحقة بالمدارس العادية، وهذا النمط من الخدمة يتضمن إلحاق الأطفال ذوي الاحتياجات التربوية الخاصة بفصل خاص بهم بالمدرسة العادية، حيث يتلقون الرعاية التربوية والتعليمية الخاصة بهم مع بعضهم في ذلك الفصل، مع العمل على إتاحة الفرصة لهم للاندماج مع أقرانهم العاديين في بعض الأنشطة الصفية، والأنشطة اللاصفية، وفي مرافق المدرسة.
2 –
طريقة الدمج الكلي: وتتم عن طريق استخدام الأساليب التربوية الحديثة مثل: برامج غرف المصادر، وبرامج المعلم المتجول، وبرامج المعلم المستشار.
وتمكِّن هذه البرامج التلاميذ ذوي الاحتياجات التربوية الخاصة من تلقي الرعاية التربوية والتعليمية مع أقرانهم العاديين في الصفوف العادية، مع إتاحة الفرصة لهم بالخروج من الصفوف العادية في أوقات محددة للاستفادة من خدمات التربية الخاصة من خلال البرامج المذكورة آنفاً.
ويستهدف الدمج في المملكة العربية السعودية فئتين: فئة موجودة أصلاً في المدارس العادية تستفيد فعلاً من برامجها التربوية، لكنها في حاجة إلى برامج التربية الخاصة مثل: فئة الموهوبين والمتفوقين، وفئة ذوي صعوبات التعلم، وفئة المعوقين جسمياً وحركياً، وفئة ضعاف البصر، وفئة المضطربين سلوكياً وانفعالياً، وفئة المضطربين تواصلياً. أما الفئة الثانية: فتدرس تقليدياً في معاهد التربية الخاصة، أو برامج الفصول الخاصة الملحقة بالمدارس العادية، لكنها في حاجة إلى الاندماج التام مع أقرانها في المدارس العادية مثل فئة المكفوفين وفئة ضعاف السمع.
النقلة الكبيرة
مكفوفون يتفوقون على مبصرين
ونظراً لما لأسلوب الدمج من فاعلية تربوية واجتماعية ونفسية واقتصادية، فقد أحدث نقلة كمية ونوعية هائلة في مجال تربية وتعليم الأطفال ذوي الاحتياجات التربوية الخاصة في المملكة.
فمن حيث النمو الكمي ارتفع عدد معاهد وبرامج التربية الخاصة من 66 معهداً وبرنامجاً للبنين والبنات في العام الدراسي 1415/1416هـ إلى 1952 معهداً وبرنامجاً للبنين والبنات حالياً. كما ارتفع عدد طلاب هذه المعاهد والبرامج من 7725 طالباً وطالبة في العام الدراسي 1415/1416هـ إلى أكثر من 40,000 طالب وطالبة.
ولا تعود الزيادة في عدد الطلاب والطالبات في هذه المعاهد والبرامج إلى ارتفاع نسبة الإعاقة في المملكة -لا سمح الله- وإنما تعود إلى التوسع في تقديم خدمات التربية الخاصة إلى فئات لم تكن تخدم من قبل.
أما التطور النوعي فيتمثل في أن الزيادة المشار إليها آنفاً في عدد المعاهد والبرامج لصالح البرامج المستحدثة في مدارس التعليم العام، قد جاءت على حساب المعاهد. إذ كان عدد المعاهد في العام الدراسي 1415/1416هـ 54 معهداً للبنين والبنات، وكان عدد البرامج في ذلك العام 12 برنامجاً للبنين، بينما أصبح عدد المعاهد في العام الدراسي الحالي 66 معهداً للبنين والبنات، وأصبح عدد البرامج 1886 برنامجاً للبنين والبنات.
ونتيجة لذلك، أصبحت أعداد التلاميذ الذين يتلقون خدمات التربية الخاصة في مدارس التعليم العام تفوق كثيراً أعداد أقرانهم الذين يتلقون تلك الخدمات في المعاهد والبرامج التابعة لها، حيث شكل التلاميذ ذوو الاحتياجات التربوية الخاصة المدمجون في مدارس التعليم العام في العام الدراسي الحالي نسبة تزيد على %80 من إجمالي تلاميذ وتلميذات التربية الخاصة.
ولم تعد التربية الخاصة تتركز في المدن ذات الكثافة السكانية فحسب، وإنما أخذت تتسع ببرامجها لتشمل المدن الأقل كثافة، بل وحتى القرى والأرياف في مملكتنا مترامية الأطراف. كما لم تعد التربية الخاصة مقصورة على فئات المعوقين التقليدية المعروفة وهي: المكفوفون، والصم، والمتخلفون عقلياً، بل امتدت لتشمل فئات أخرى كثيرة مثل: الموهوبين، وضعاف البصر، وضعاف السمع، وذوي صعوبات التعلم، والمعوقين جسمياً وحركياً، والتوحديين، ومتعددي العوق. والعمل جار على استحداث برامج جديدة لاستيعاب جميع الفئات التي تندرج في نطاق المفهوم الشامل الحديث للتربية الخاصة.
إضافة إلى ذلك تعددت أنماط تقديم خدمات التربية الخاصة في المملكة. فقد أصبحت تضم معاهد داخلية، ومعاهد نهارية، وفصولاً خاصة ملحقة بالمدارس العادية، وبرامج غرف مصادر، وبرامج معلم متجول، وبرامج معلم مستشار، مما أدى إلى تلبية احتياجات الأطفال غير العاديين على اختلاف فئاتهم.
وأظهرت نتائج الاختبارات التحصيلية في العام الدراسي الماضي تفوق التلاميذ المكفوفين المدموجين على أقرانهم المبصرين في بعض مدارس المملكة مثل: ثانوية عرفات بجدة، وثانوية أبي أيوب الأنصاري في بريدة، وابتدائية طارق بن زياد في جازان.
عقبات يتم تجاوزها
ودول ترغب في الاستفادة من التجربة
ويندر أن يوجد أي مشروع عملاق مثل مشروع الدمج الذي تطبقه وزارة التربية والتعليم من دون بعض السلبيات، ومن أبرز السلبيات التي برزت في تطبيق هذا المشروع:
1 –
تخوف أولياء أمور التلاميذ ذوي الاحتياجات التربوية الخاصة من عملية الدمج.
2 –
وجود بعض الاتجاهات السلبية لدى بعض شرائح المجتمع نحو ذوي الاحتياجات التربوية الخاصة.
3 –
عدم تهيئة مباني مدارس التعليم العام لتلبية احتياجات جميع فئات الأطفال غير العاديين.
ومما يبعث على الراحة والاطمئنان أن هذه السلبيات جميعها من النوع الذي يمكن التصدي له والتغلب عليه. إذ إنها لا تعود في أساسها إلى صحة المبدأ وسلامة المسار الذي تقوم عليه عملية الدمج، بل إنها ترتبط -مباشرة- بعملية التطبيق. وقد تعاملت معها وزارة التربية والتعليم من خلال خططها طويلة وقصيرة المدى. فلم يتم تطبيق مشروع الدمج من قِبل الوزارة ممثلة في الأمانة العامة للتربية الخاصة إلا بعد دراسة مستفيضة وتخطيط مبكر وإعداد استراتيجية تربوية تتضمن الأهداف والآليات الكفيلة بالتغلب على أية عقبات عند ظهورها.
فبالنسبة لمشكلة تخوف أولياء أمور التلاميذ ذوي الاحتياجات التربوية الخاصة من عملية الدمج، فإنها سرعان ما تتلاشى عندما يرون النتائج المبهرة لنجاح عملية الدمج، الذي يُعد أكثر الأساليب فاعلية في التغلب على المشكلة الثانية المتمثلة في الاتجاهات السلبية نحو ذوي الاحتياجات الخاصة. ذلك أن المدرسة العادية هي المكان الطبيعي لتنمية المفاهيم الصحيحة عن إمكانات وقدرات الأطفال جميعاً عاديين وغير عاديين، الأمر الذي يتم بموجبه تكوين اتجاهات إيجابية تجاه أطراف الدمج المختلفة. وعلى هذا الأساس فإن الدمج التربوي يُعد أفضل الوسائل لتحقيق الدمج الاجتماعي الذي تنشده شعوب العالم.
وفيما يتعلق بالمباني المدرسية، فقد تنبهت لها الوزارة في وقت مبكر وأدرجت احتياجات هذه الفئة ضمن مواصفات إنشاء المباني الجديدة بما يتناسب واحتياجات المعوقين على اختلاف فئاتهم. أما بالنسبة للمباني الحالية، فإن الوزارة تسعى جاهدة إلى إجراء التعديلات الممكنة لتلبي احتياجات التلاميذ ذوي الاحتياجات التربوية الخاصة مثل الممرات ودورات المياه. وقد حددت القواعد التنظيمية لمعاهد وبرامج التربية الخاصة بوزارة التربية والتعليم الأطر التي تنظِّم المستلزمات المكانية والتجهيزية والبشرية التي تتطلبها كل فئة من فئات ذوي الاحتياجات التربوية الخاصة.
وتعتمد عملية تقويم برامج التربية الخاصة في المدارس العادية اعتماداً كبيراً على نتائج الجولات الميدانية التي يقوم بها المشرفون التربويون والمشرفات التربويات بشكل منظم، ويقدمون من خلالها تقارير مفصلة تشتمل على معلومات قيمة مثل: طبيعة سير العمل في البرامج، نقاط القوة والضعف في البرامج، المشكلات التي تواجه البرامج، التوصيات والمقترحات والحلول المناسبة للمشكلات.
وفوق هذا كله فقد أوشك فريق علمي متخصص – من داخل الوزارة وخارجها – من الانتهاء من مشروع وطني يهدف إلى تقييم هذه التجربة علمياً وتوثيقها أكاديمياً بغرض التعرف إلى نقاط القوة فيها ليمكن تعميمها، والتعرف إلى نقاط الضعف ليمكن تلافيها، بالإضافة إلى إمكانية نقلها إلى الدول العربية في ظل تزايد الطلبات الواردة من تلك الدول الراغبة في الاستفادة منها.