إنه مرادف للحياة في كل حضارات العالم. قد يختلف شكله ولونه ومذاقه من مكان إلى آخر، أو حتى في المكان الواحد، إلا أن رمزه يبقى موحداً في التراث والتاريخ والتقاليد الاجتماعية اليوم كما هو عبر آلاف السنين.
جوسلين الدبس وماجد نعمة ونجاح طلعت وأمينة خيري يفتحون هنا ملف الخبز انطلاقاً من تاريخ الرغيف الشرقي والغربي، ويعرضون لعلاقته بتطور المجتمعات والمكانة التي يحتلها في ثقافات الشعوب وأدبها ووجدانها الشعبي.
للخبز قصة تعود إلى عشرة آلاف سنة خلت. فآنذاك أكل الإنسان القديم أول خبز شبيه بالذي نعرفه اليوم، بعدما طحن حبّات القمح ومزج دقيقها بالماء وحمصه على النار.
صحيح أنه يُصنع في كل بقاع الأرض، إلا أن لكل منه شكله الخاص ونوع الحبوب المصنوع منها وطريقة مميزة في تحضيره. وهو مهما اختلف شكلاً ومضموناً يبقى الغذاء الأساس للإنسان وشأناً حياتياً حاضراً أبداً، وقد ينقلب هذا الشأن هماً في ظروف كثيرة، الأمر الذي يرسِّخ مكانته أكثر فأكثر في وجدان الإنسان واهتماماته.
وعلاقة الخبز بالحياة على درجة من المتانة والعمق جعلت الشعوب البدائية تنسج منها أسطورة خرافية تُشبّه العجين برحم المرأة الحامل الذي يكبر شيئاً فشيئاً إلى أن ينضج فيقدم الحياة.. تماماً كما العجين الذي يرتفع بالخميرة إلى أن يصبح جاهزاً ليُخبز ويؤكل. وتتجسد هذه الأسطورة في بعض التقاليد القديمة عند النساء الإيطاليات، على سبيل المثال، اللواتي كنّ يقفن أمام المعجن، ويقلدن أوجاع الولادة وانقباضات الرحم المؤلمة أملاً في أن يرتفع العجين ويتخمر.
أما في البلاد العربية فحمل الخبز اسم عيش دلالة على أن الحياة تتمحور حوله وتتعلق به. وقد جاء بأصناف عديدة وأسماء مختلفة وفق المناطق التي يصنع فيها مثل: العيش البلدي، والرحالي، والتنور، والصاج، والطباقي، والخبر الحَمَر، وغيرها.. ناهيك عن الأنواع الأجنبية التي راج تصنيفها في كل مكان مثل: التوست، الباغيت، البريوش.. الخ.
تاريخه..بدءاً من مصر الفرعونية
يعود تاريخ الرغيف الذي نعرفه اليوم وبشكل تؤكده الوثائق إلى مصر الفرعونية. فاعتباراً من عصر ما قبل الأسرات، كان رغيف الخبز المصنوع من حبوب الغلال هو الطعام الأساس للمصريين. فكان الدقيق يُخلط بالخميرة والحليب والتوابل والملح، ثم يعجن المزيج بالأيدي، ويقطَّع ويطهى في مقلاة.
والمؤكد أيضاً أن المصريين كانوا أول من اكتشف خميرة الخبز في العام 4000 ق.م. وأيضاً أول من انتصر لدقيق القمح على غيره من الحبوب في تحضير الخبز بدءاً من الألف الثالث ق.م.
أما الحضارتان اليونانية والرومانية فقد أسهمتا إسهاماً كبيراً في تطور هذه الصناعة. ففي العام 168 ق.م. وضعت روما دليلاً خاصاً للخبَّازين، شكل قاعدة تحويل صناعة الخبز إلى اختصاص مستقل عن باقي الأعمال. وتم افتتاح معهد للخبَّازين كان تلامذته يمنعون من الانسحاب منه والتحول إلى مهنة أخرى. فهم الحرفيون الأحرار الوحيدون في روما، فيما كان عمال الحرف الأخرى كلهم عبيداً.
إلى ذلك، كان أعضاء المعهد وتلامذته يمنعون من الاختلاط مع الممثلين ومؤدي الألعاب البهلوانية تفادياً لالتقاط أية عدوى من عامة الشعب.
أما الفيلسوف اليوناني أفلاطون فقد أشار منذ العام 400 ق.م. إلى أن الدولة النموذجية هي تلك التي تجعل الإنسان يعيش حياة صحية ضمن بيئة نظيفة، فيأكل خبزه المصنوع من القمح الكامل والمزروع محلياً.
ولكن دولاً عديدة لم تأخذ قديماً بهذه الحكمة، وأدى العمل بعكسها إلى أحداث جسام غيّرت مجرى التاريخ.
الخبز الأبيض والخبز الأسمر
منذ عصر الفراعنة دخل الخبز في صميم التمييز الطبقي والاجتماعي. إذ كان الخبز في مصر الفرعونية ثلاثة أصناف: من دقيق القمح للأغنياء، ومن دقيق الشعير للطبقة المتوسطة، أما الفقراء فكان لهم خبز أسمر من دقيق نوع من الحبوب البرية. واستمر الخبز معلماً من معالم الانقسامات الطبقية في معظم المجتمعات حتى القرن التاسع عشر الميلادي تقريباً.
وفي الحضارتين اليونانية والرومانية كان الخبز الأبيض خاصاً بالطبقات الأرستقراطية والنبيلة. وقد أصدر أحد قياصرة روما قراراً يقضي بسجن كل من يقدم خبزاً أسمر اللون إلى نبيل روماني. أما امتلاك الفقراء للخبز الأبيض فكان جريمة قد تؤدي إلى الإعدام. وخلال القرون الوسطى ظل الخبز موضع انقسام وتقسيم في أوروبا. والطريف أن الاعتقاد ساد آنذاك بأن أمعاء الفلاحين كانت وحدها قادرة على تحمل الخبز الأسمر القاسي، أما أمعاء النبلاء فمرهفة ولا تهضم سوى الخبز الأبيض الخفيف والطري. وعليه، لم يسمح باستهلاك الخبز الأبيض إلا للنبلاء.
وطوال القرنين السابع عشر والثامن عشر، عاشت فرنسا سلسلة من الاضطرابات العنيفة محورها الخبز. فالخميرة التي كان يصنع منها خبز النبلاء كانت تُستورد من بلجيكا، بخلاف خميرة خبز الشعب التي كانت عبارة عن قطعة من عجين سابق. من هنا نشأت بذور صراع أهلي حول الخميرة الغريبة التي تحوّل النبلاء إلى كسولين، قد يكون ولاؤهم السياسي لبلجيكا وليس لوطنهم كما اتهمهم البعض. واحتدم الخلاف في العام 1660م، إلى أن منع معهد باريس للطب إنتاج خبز الخميرة المستوردة، ثم عاد عن قراره بعد سنة مانعاً فقط استعمال الخميرة الأجنبية.
وبقيت الاضطرابات حول الخبز مستمرة لأكثر من 150 سنة بعدها. ففي العام 1775م، أثار خبّاز باع الخبز الأسمر بسعر الخبز الأبيض غضب ربّات المنازل اللواتي هجمن عليه ورمينه في النهر. وانتقلت النسوة في فورة غضبهن إلى قرية مجاورة وهاجمن أحد أفران الخبز، وانفجر الوضع في كل الاتجاهات، وخلال أقل من عشرة أيام تم نهب وتدمير نحو ثلاثمئة فرن في البلاد. وتأزم حال الرغيف في السنوات اللاحقة حتى شكل الشرارة التي أشعلت الثورة الفرنسية الكبرى.
ومن أشهر الحكايات التي تروى في هذا المجال هو أن الملكة ماري أنطوانيت سألت عن سبب تظاهر الشعب غضباً فقيل لها إن الشعب يريد أن يأكل ولا يوجد خبز. فقالت: إذا لم يكن هناك خبز فليأكلوا البسكويت . وعلى الرغم من أن المؤرخين يشككون في صحة هذه الرواية، ويعتبرونها مجرد شائعة شعبية ، إذ لا يعقل أن تكون زوجة لويس السادس عشر على هذا القدر من السذاجة.. فإن هذه الحكاية تلخص تاريخ طبقية الخبز المغمس دائماً بالسياسة.
وإذا كان الخبز الأسمرقد بقي تاريخياً دون الخبز الأبيض من حيث القيمة، فإن الدراسات الحديثة والتحاليل المخبرية ردت إليه اعتباره في العصر الحديث وكشفت عن مزايا فيه تجعله أفضل من الخبز الأبيض فبات يحتل في بعض الموائد اليوم المكانة نفسها، لا بل بات الكثيرون يفضلونه على الأبيض.
الرغيف والقانون والسياسة
وليس انقسام الخبز إلى أبيض وأسمر وحده كان محور اضطرابات. فحال الرغيف أياً كان لونه كان ولا يزال شأناً سياسياً بالغ الحساسية وسريع الاشتعال.
فالتاريخ الإسلامي يؤكد أن السلاطين كانوا يحرصون دائماً على تحديد سعر الخبز، خصوصاً في فترات الحروب والجفاف والكوارث الطبيعية. وبلغ هذا الحرص شأناً عظيماً في دولة المماليك، وخاصة في عصر السلطان بيبرس البندقواري الذي وضع قوانين تحدد نوعية الخبز وأوزانه وأسعاره.. وكانت عقوبة الخباز الذي يتلاعب بالأوزان أو بنوعية الخبز صلبه بالمسامير على باب دكانه.
وفي بريطانيا حرص الملك جون في عام 1202م على تحديد أسعار المواد الأولية للخبز، ومقدار أرباح الخبَّاز. وأجبر قانون في العام 1266م الخبَّاز على وضع توقيعه الخاص على كل قطعة خبز يبيعها كي يمكن التعرف فوراً إلى من تعود إذا لم تكن مطابقة للقانون.
ومن الحوادث التي تروى في هذا المجال أنه في العام 1327م في بريطانيا اكتشف أن أصحاب فرن عمومي استحدثوا فتحة صغيرة في أسفل المعجن لسرقة كمية من عجين النساء اللواتي يقصدنه لطهو خبزهن فيه. فهاجمت النسوة الفرن. وانتهى الشغب بتوقيف أصحابه في الساحة العامة ليُرجموا، فيما أُرسلت النسوة إلى السجن المركزي.
ولم تتغير الأمور كثيراً في عصرنا عمّا كانت عليه في العصور الغابرة. وفي البلاد العربية هناك أكثر من اضطراب وقع في القرن العشرين بسبب الرغيف.
ففي الأربعينيات من القرن الماضي، أدى وزن الرغيف إلى إسقاط حكومة الشيخ تاج في سورية. فيومها كان الرغيف يباع بالوزن ومحدد المواصفات والمعايير. واكتشف أحد المواطنين في حلب أن أصحاب الأفران يزيدون من كمية الماء في العجين ويحرصون على وزن الخبز قبل أن يجف ماؤه تماماً. فانتشر الخبر وعم الغضب واعتبرت الحكومة مسؤولة عن ذلك وسقطت. وفي مصر، لم ينس الكثيرون انتفاضة الخبز التي حصلت عام 1977م حين حاولت الحكومة تقليص دعم الخبز وسلع أخرى. فهاج المواطنون وخرجوا إلى الشوارع في غضبة حقيقية.
مكوّنات الخبز وصناعته
مهما تبدل اسم الخبز من بلد إلى آخر، فإن مكوناته الأربعة تبقى هي نفسها: دقيق القمح (وفي أحيان قليلة الذرة، أو الشعير)، الماء، الخميرة، والملح.
القمح
ولو بدأنا بمادته الأساس أي دقيق القمح لأشرنا إلى أنه يتكون من حبات القمح المطحونة من دون قشرها، ومن دون رشيم بحيث أن حبة واحدة من القمح تعطي عشري ألف جزء من الدقيق. ويتم التخلص من القشرة والرشيم بواسطة المناخل المصنوعة إما من القماش أو المعدن دقيق الثقوب.
يزرع القمح في كل مناطق العالم. وتتفاوت أصنافه وفق مناخ مناطق زراعته. ففي كندا، مثلاً، يفرض الشتاء القاسي زراعة أصناف قمح تنمو بسرعة، وتصبح ناضجة في تسعين يوماً فقط. أما في بلاد الشام فيزرع القمح في سبتمبر ويحصد في يونيو أو يوليو. ولكي يصبح القمح دقيقاً، فلا بد من مطحنة. وإضافة إلى دقيق القمح متنوع المواصفات، هناك أنواع أخرى من الدقيق المستخرج من أنواع مختلفة من الحبوب مثل الذرة، الأرز الأسمر، الفاصولياء، الفول، الشعير، الصويا، الحبوب التسعة، البطاطس… الخ.
مطاحن الحبوب
يعود أقدم حجر لطحن الحبوب إلى 7500 عام ق.م. ومنذ تلك الفترة وحتى اليوم بقي المبدأ هو نفسه: وضع حبات القمح بين حجرين مستديرين، الأول سفلي وثابت، والثاني متحرك ويتولى سحق القمح بدورانه فوقه. ويتم الحصول على دقيق أبيض بفضل نخل الحبوب المطحونة مرات عديدة للتخلص من الشوائب الموجودة فيها، وفي المرحلة الأخيرة من الطحن تستعمل المناخل المصنوعة من قماش الحرير القوي.
وفي مرحلة لاحقة من تاريخ الخبز، تم ابتكار طواحين الماء، ومن ثم طواحين الهواء في منتصف القرن الثاني عشر الميلادي غير أن هذه الأخيرة كانت أقل فاعلية من طواحين الماء، ولكنها تمتاز عنها بإمكانية إنشائها أينما كان بعيداً عن الأنهر.
بقيت طواحين الهواء طوال 700 سنة شبه مخصصة لطحن الذرة والحبوب للحيوانات إلى أن تم ابتكار أول آلة بخارية لطحن الحبوب على يد مهندس سويسري في منتصف القرن التاسع عشر، وراج استعمالها في أوروبا بدءاً من العام 1880م.
وتزامن تطوير المطاحن مع انتشار زراعة حقول القمح الشاسعة في سهول أمريكا الشمالية خلال القرن التاسع عشر، فكثر إنتاجه، وبدأت أسعاره بالانخفاض عالمياً، فانخفض بالتالي سعر الدقيق، ومن ثم الخبز الذي بات في متناول كل الطبقات الاجتماعية لأول مرة في التاريخ.
الخميرة
الخميرة التي عرفها الفراعنة طبيعية وبرية لم تعلن عنصراً مستقلاً في تحضير الخبز إلا عام 1800م.
يقول العلماء إن الخميرة نبتة حية مكونة من خلايا صغيرة جداً جدرانها من السيلولوز وفي داخلها عنصر حي هو البروتوبلازم . وهي تتغذى من سائل سكري يجعلها تنمو وتتكاثر، أو تُقتل بدرجة حرارة قوية. لذا يجب إضافة الماء الفاتر إلى الخميرة كي تنشط. ولكن الماء الساخن جداً يقتلها ويفقدها دورها.
قديماً، وحيثما كان تحضير الخبز عملية روتينية تتكرر أسبوعياً في المنازل، كانت الخميرة هي قطعة من العجين السابق المحفوظ ضمن وعاء من الدقيق، تذوَّب في الماء عند تحضير العجين وتستعمل. أما اليوم، فتباع الخميرة المصنعة في المتاجر في شكل حبيبات صفراء.
العجين
لا تمزج مكونات الخبز الأربعة كيفما كان مع بعضها، بل تتبع مراحل محددة ودقيقة تختلف من مكان إلى آخر. وتقضي إحدى الطرق بتحضير اسفنجة عبر مزج نصف كمية الدقيق مع 7/4 من الماء وكل كمية الخميرة. وتمزج مع بعضها وتترك جانباً في مكان دافئ لتنتفخ. وعندما يتضاعف حجمها، تظهر فقاقيع على سطحها. تضاف حينها كمية الماء المتبقية بعد تذويب الملح فيها. وتمزج المقادير جيداً قبل إضافة الدقيق المتبقي والعجن جيداً للحصول على عجين مطاطي.
وفوق مساحة نظيفة مدهونة بالزيت. تقطع أقسام من العجين وتمدد عليها وتترك لتنتفخ مجدداً مرتين، بحرارة 80 درجة فهرنهايت، على أن يسقط العجين مرتين ويعجن بينهما. حينها، يكون العجين حاضراً، فتستحدث منه الأشكال المطلوبة التي تترك أيضاً ما بين 15 و20 دقيقة ليرتاح العجين قبل أن يدخل أخيراً إلى الفرن.
وهناك طريقة أخرى تقضي بمزج المقادير الأربعة معاً مرة واحدة حتى يصبح المزيج عجيناً مطاطاً. يترك ليرتاح 5 ساعات قبل أن يعجن مرة ثانية. يوضع جانباً 40 دقيقة لينتفخ مرة أخرى قبل أن يعجن ويترك جانباً 20 دقيقة، يصبح بعدها حاضراً ليأخذ الشكل المطلوب قبل أن يترك مرة أخيرة ليتضاعف حجمه، ويدخل الفرن. ويجب بعدها ترك الخبز ليبرد تدريجياً، وإلا يفسد كلياً، قبل أن يعلب ويباع.
حيثما تفوح رائحته الزكية
بقيت أفران الخبز طويلاً مصنوعة من أحجار القرميد التي تحفظ الحرارة جيداً. ولم تتحول هذه الأفران إلى آلية إلا في منتصف القرن الماضي بعدما دخلت الآلة على مختلف الصناعات. ومن القرميد، تحول الفرن إلى العمل على البخار بفضل قساطل من الفولاذ تحتوي على الماء وتسخن بواسطة الفحم أو الغاز أو النفط، إلى أن يتصاعد البخار فيها ويصل إلى درجة 500 درجة فهرنهايت، مما يسمح بخبز العجين بالشكل المناسب.
وقد كان بنجامين فرانكلين أول من ابتكر الفرن الحديدي الذي عرف باسم فرن فرانكلين نحو العام 1728م. وتبعه السويدي فرانز ويلهيم ليندكفيست الذي ابتكر أول فرن يعمل على الكيروزين ولا ينتج دخاناً أسود. أما أول فرن على الفحم الحجري فرأى النور العام 1833م مع جوردان موت الذي اخترع فرناً يتضمن نظام تهوئة ليحترق الفحم بشكل مناسب.
وشهد العام 1826م ولادة أول فرن غاز بفضل البريطاني جيمس شارب، فالعام 1891م الذي شهد أول فرن كهربائي بفضل شركة كاربنتر إلكتريك هيتينغ إلا أن مبتكره ويليام هاداوي لم يحز براءة اختراع عليه إلا في العام 1896م. كما أن المبتكر نفسه اخترع عام 1910م أول توستر صنعته شركة وستنغهاوس لتحميص قطع الخبز الصغيرة. ولم ير المايكروويف النور إلا العام 1946م بعدما اكتشف المهندس الدكتور بيرسي سبنسر بالصدفة تقنية الموجات القصيرة. وبشكل عام، بقيت الأفران الآلية والحديثة شبه منحصرة في المدن والتجمعات السكانية الكبيرة، حيث يوجد عدد كافٍ من الزبائن لاستهلاك كل إنتاجها. أما في المناطق الريفية فلا تزال وسائل صناعة الخبز كما كانت منذ مئات، وربما آلاف السنين. ولعل أشهر وسائلها في بلادنا التنور والصاج.
والتنور كما يعرفه الجميع هو عبارة عن حفرة مستديرة بعمق يبلغ نحو المتر، وجدارها من الطين الصلب. ويحرق الحطب في قاع هذه الحفرة، وفي وقت محدد بعد تحول الحطب إلى جمر مغطى بالرماد، وقبل أن ينطفئ، تلصق أرغفة الخبز على الجدار الداخلي الذي يكون قد أصبح ساخناً حتى الدرجة اللازمة. وينضج الخبز في التنور خلال دقيقة أو دقيقة ونصف، أي نحو نصف الوقت الذي يتطلبه في الميكروويف. أما الصاج، فهو قبة معدنية يبلغ قطرها نحو 70 سم، وتوضع فوق النار مباشرة، ويوضع الرغيف العجين فوق الصاج بعد أن يمسح هذا الأخير لمرة واحدة بقليل جداً من الزيت. وفي حين أن التنور يمكنه أن يستقبل أربعة أرغفة دفعة واحدة قطر الواحد منها نحو نصف متر، فإن الصاج لا يستقبل إلا رغيفاً واحداً تلو الآخر.
فوائد الخبز
يتهافت الناس دوماً على شراء الخبز الأبيض الذي يبدو شكله أشهى على الرغم من أن بياضه الناصع ناجم عن إضافة مواد كيميائية إليه. أما الخبز الأسمر فيحتوي على كميات كبيرة من الألياف نظراً إلى أن حبات القمح المستعملة في دقيقه تطحن مع قشرتها الخارجية. وقد أثبتت الدراسات العلمية أن استهلاك نسبة كبيرة من الألياف يسهم في الحماية من سرطان القولون كما يخفض نسبة الكولسترول والسكر في الدم.
كما يحتوي نوعا الخبز على كمية كبيرة من النشويات ونسبة ضئيلة من الدهون وقليل من البروتين. ويفتقد الخبز إلى الفيتامينات (أ) و(ج) و(ب 12). وينصح الأطباء المرضى الذين يعانون من اضطراب في عملية الأيض والذين مُنع عنهم استهلاك الغلوتين بتجنب استهلاك الخبز بصنفيه. أما من يعاني قصوراً كلوياً، فيفضل أن يستهلك الخبز الأبيض بدلاً من الأسمر الذي يحتوي على كمية كبيرة من الفوسفور.
أما توزيع الفيتامينات في أصناف الخبز المختلفة فهي على الشكل الآتي:
–
الخبز الأبيض:
يحتوي على 75 في المئة من حبة القمح. كل أربع قطع منه تقدم سدس كمية الكالسيوم التي يحتاج إليها الجسم يومياً إضافة إلى الفيتامين بي 1 الضروري للعضلات والجهاز العصبي.
–
الخبز الأسمر:
يتشابه مع الخبز الأبيض في توزيع الفيتامينات ويحتوي على 85 في المئة من أصل حبة القمح، إلا أنه يتضمن سدس كمية الألياف التي يحتوي عليها الخبز المصنوع من القمح الكامل.
–
الخبز الكامل:
أي من القمح الكامل بحيث لم يضف إليه ولم يسحب منه أي عنصر. يحتوي على ثلث ما يحتاج إليه الجسم من الألياف اليومية كما على الفيتامين E والحديد والزنك.
–
الخبز المتعدد الحبوب (Multigrain):
يحتوي على كمية عالية من الألياف وهو خال من الدهون والسكر ويحتوي على كمية عالية من حامض الفوليك.
–
كما أن هناك أصنافاً أخرى من الخبز العصري دخلت عليها مكونات مالحة وحلوة وفق الغرض من استهلاكها:
فهناك تارة خبز بالزيتون وتارةً بالجبن والأعشاب وما شابه.. إضافة إلى الخبز بالزبيب والشوكولاته والمربيات على أنواعها.
الخبز في الأمثال الشعبية
ودخل الخبز أيضاً الأمثال الشعبية العربية. إذ كان يعتقد أنه يشكل الرابط القوي الذي لا يمحى بين اثنين: فيقال مثلاً: بيننا خبز وملح في إشارة إلى أن الوفاء والثقة واجبان بين الاثنين. والبحث عن لقمة العيش أي عن عمل. كما أن بعض التقاليد تفترض لمّ قطعة الخبز عن أرض الطريق، وتقبيلها ووضعها جانباً خوفاً من أن يدوسها أحد.
وكانت الأم المصرية تقول لابنها لدى اختياره عروساً له: ما تخدش أم كحلة ولبانة، وقت العجن تعمل عيانة. ما يعجبكش قصتها ولا كحلتها وقت الخبيز يا لخمتها .
كما أن هناك أمثلة كثيرة تتعلق بالخبز: كل لقمة حبيبك تسره، كل لقمة عدوك تضره . و يا واكل قوتي يا ناوي على موتي ، إضافة إلى ارتباط مفهوم الخبز بالولاء لمن يقدمه. وخير دليل المثل الذي يقول مين ياكل خبز السلطان يضرب بسيفه ، و اللي ياكل لقمتي يسمع كلمتي .
وتبرز أهمية مكانة الخبز شعبياً ووجوب عدم إهداره في المثل: لمّ النعمة تلمك ، و البطران زولان نعمة في إشارة إلى احترام نعمة وجود الخبز إلى المائدة وعدم التعالي على أكله، إضافة إلى: الجوعان يحلم بسوق العيش ، اللي يستكتر غموسه ياكل عيش حاف ، شحات وعايز عيش قمح ، فلان لا يضحك للرغيف السخن ، الخميرة أميرة ، وجه فلان يقطع الخميرة من البيت في إشارة إلى التشاؤم منه.. اللقم تحوش النقم ، في إشارة إلى أن الإنسان يتحاشى النقمة من الحاسدين بإطعامهم البعض من خبزه.
وتردد نساء الريف المصري عبارات يتوارثنها عن أمهاتهن مثل: حلاوتك تجيلك…وتطرح البركة فيك… من أكل منك شبع ومن شافك… قنع ، و يا عجين اشرب شرابك، ما عذاب إلا عذابك .
الرغيف في الرواية العربية
رواية الرغيف
كيف لنا أن ننسى موضوع الرغيف في الأدب العربي، ولدينا رواية مِنْ شوامخ الروايات العربية عنوانها هو موضوعنا ذاته. إنها رواية الرغيف للقاصّ اللبناني توفيق يوسف عوّاد.
أمّا إذا علمنا أنّ أحداث الرواية تدور خلال الحرب العالمية الأولى حين أطبقتِ المجاعة على سكان لبنان ندرك سبب اختيار عوّاد الرغيف عنواناً لروايته، ونجزم، حتى قبل قراءة الرواية، بوجود حديثٍ مطوَّل عن السعي وراء الرغيف، والكدِّ للحصول عليه خبزاً أو طحيناً …
ونلتفت إلى الإهداء فنقرأ الكلمات المعبّرة التالية:
إليك، يا أبي أقدّم هذا الرغيف .
… فقد قدّمْت أنت إليّ في أيام الحرب الكبرى، وإلى إخوتي وأخواتي، أرغفةً سكبْتَ لها عَرَق جبينك ودمَ قلبك، … .
ولا عَجب، والعنوان هو الرغيف ، أن تكون الرواية مقسّمة إلى أقسام خمسة تحمل العناوين التالية: التربة، البِذار، الغيث، السنابل، ثم الحصاد. غير أنَّ رَوْعة السرد، التي يمتاز بها توفيق عوّاد تأبى علينا ترك الرواية دون أن نُقدِّم للقارئ فقرة من الرواية فيها وصف لولدٍ جائع أمام أرغفةٍ شهيّة. يقول عوّاد:
وقف أمام واجهة فيها صفّ من الخبز. ثم خطا يدفع أنفه حتى لامس زجاجها. كانت الأرغفة كثيرة يستلقي بعضها على بعض من طرف الواجهة إلى الطرف الآخر في عرض جميل. بيضاء لها أُطُر موشّاة، وخدود محمّرة عليها شامات سوداء. رغيف رافع إلى جانب رغيف ضامر إلى جانب آخر قد اعوجّت يد الخبّاز به وفاتته النار فهو عجين جامد لا لون له ولا شكل. تجيء عينا الصغير وتروحان على الأرغفة ثم تستقرّان على هذا المِسخ من بينها جميعاً ، فيثني عنقه إليه ويسيل لعابه عليه، ويتشمّمه من وراء الحاجز، وأصابعه تتفرّك على جبينه من هنا ومن هنا، ثم تلتقي على فمه فيعضّ عليها … حتى تنبّه له الخبّاز فقام وطرده .
ويقول أيضاً:
انطلق طام في الأسواق المغطّاة بالجباع يهمس في الآذان:
– إبراهيم بك فاخر يوزّع الطحين! إبراهيم بك فاخر يوزّع الطحين! ..فيتناقل السامعون البشرى، ويستأثر بها بعضهم طمعاً. يهبّ الشيخ المتهدّم ململماً قواه، ويرفع الشاب الذليل رأسه، وتنتفض المرأة في أسمالها، ويخفّ الولد طائراً.. جماعات وفرادى يتراكضون، الأمّ تجرّ طفلها، والأخ يترك أخاه. هذا يدلح بورمه، وذاك يقع على وجهه، حفاة نصف عراة، بأقدام مشقّقة وسخة، ووجوه بارزة العظام، وشعور منفّشة طويلة، وعيون فارغة مخيفة. موكب متّصل الحلقات هنا، منفصلها هناك، يثب ويعثر ويزحف، ولكنه يتقدّم دائماً. لا يفكّر أحد إلا بالكلمة الحلوة الطحين ، ولا يرى إلا الصورة الشهية الطحين تشدّد عزيمة مَن ارتخت عزيمته، وتضاعف قوة مَن عنده قوة، تُمسك الأرماق في الحلوق، وتجدّد دفقات الحياة في الصدور .
إنسانية الرغيف عند معلوف وتامر
أما رياض معلوف، فيتحدّث عن الرغيف في معانٍ رائعة، ثم ينتقل إلى مناجاته ويدعوه لأن يكون إنساناً أكثر من الإنسان كي يتكرَّم على الذين حَرَمهم الدَهر من اللقمة الطيَّبة:
رَغِيفُنا المُسْتَدِيرُ والقمريُّ الوجهِ، كوجهِ المحبوبِ، وهو الذي يَقْتَتِلُ الملايينُ في سبيل الحصول عليهِ يومياً. ومنهم من يطاله سهولةٍ – إذا حالفه الحظّ – ومنهم من يسعى ويركض وراءه، والرغيف راكضٌ أمامه هارباً منه. فرغيفنا الأسمر البلديُّ الشّهيُّ، رائحتُه تُشبعُ النّفس، وهو مُطلٌّ من الفُرنِ، أو الصّاجِ، أو التنّور، وهو معجونٌ بعرقِ الجبين، ودم القلب… وهكذا ترى في احمرار خدِّه، دماً هدر في سبيله، وماء وجهٍ بذلَ من أجْله، واللّقمة منهُ دونها أهوالٌ ومصاعب.
يا رغيفنا، يا أب الّلقمة الطّيّبة، لولاك ما طابت المائدة، يا خبزنا اليوميّ الكريم، كُن إنساناً أكثر من الإنسان، وتكرّم على من حرمهم الدّهرُ من لُقمتك، وعلى من اشتاقوا كثيراً إلى طلعتِك وإطلالتِك .
ورغيف زكريا تامر
في كتابه نمور في اليوم العاشر ، يتوجّه زكريا تامر إلى الصغار والأحداث بقصص قصيرة فيها من العفوية والبساطة والرمز ما يجعلها محبّبة ومؤثّرة. منها هذه الأقصوصة المتعلّقة بموضوع بحثنا:
سمعت رندا جرس الباب يرن بإلحاح، فصاحت أمها التي كانت تكنس إحدى الغرف: يا رندا اذهبي بسرعة وافتحي الباب .
فأطاعت رندا، وفتحت الباب، فأبصرت شحّاذاً عجوزاً يرتدي ثياباً بالية، وما إنْ رآها حتى مدَّ كفّه نحوها قائلاً بصوت مرتعش: أعطوني مما أعطاكم الله .
وجاء صوت الأم من داخل البيت: من جاء يا رندا؟ .
قالت رندا بصوت رفيع حادّ عالٍ: شحاذ .
قالت الأم: ماذا يريد؟
قالت رندا للشحاذ: أمي تقول ماذا تريد .
قال الشحاذ: أريد رغيف خبز. أنا جائع .
صاحت رندا: ماما .. الشحاذ يقول أنه جائع ويريد رغيف خبز .
وظلّت رندا متجمّدة تحدّق إلى الشحّاذ مرتجفة مذعورة حتى جاءت أمها وهي تحمل رغيف خبز، وقدّمته للشحاذ الذي تناوله باحترام، ورفعه بحركة خاشعة إلى فمه، وقبّله، ثم تمتم بكلمات مبهمة شاكراً، وابتعد عن باب البيت وهو يمشي بخُطى متثاقلة.
وأغلقت الأم الباب، فقالت رندا لها: ماما .. لماذَا باسَ الشحّاذ الرغيف؟ .
قالت الأم: باسه لأنه يحبه كثيراً .
قالت رندا: ولماذا يحبه إلى هذا الحد؟
أجابت قائلة وهي تبتسم: لولا الخبز لمات الناس جوعاً .
ولما عادت الأم إلى الغرفة التي كانت تكنسها، قصدت رندا المطبخ، وهناك أمسكت رغيف الخبز، وقبّلته، وعندئذ ارتجفت وكأنَّ قلبها جناحا عصفور سجين في غرفة صغيرة من إسمنت لا باب لها ولا نوافذ .
يدُ الإنسان أم الآلة؟
وفي سيرته الذاتية سبعون يتحدّث ميخائيل نعيمة، عن مروره بسهل قمح من سهول أمريكا، خلال موسم الحصاد. فوقف، متأملاً ومتذكراً حصاد القمح في بلاده: تراءى له محراث والده بين أصابعه الدامية، وقامته المنحنية فوق السنابل .. ومن ثم يقول:
سألت نفسي، وأنا أرقب تلك الحصّادة العجيبة تفري السنابل، ثمّ تلتهمها، ثم تنفث تِبْنها وأحساكها في الهواء، ثم تبصق حبّها في أكياس سمينة، مختومة: ترى أيهما أطيب وأجلب للعافية: حبّة تبذرها كفّ إنسان، وتحصدها كفّ إنسان، وتذريها كفّ إنسان، ثم تغربلها وتطحنها وتعجنها وتخبزها كفّ إنسان؟ أم حبّة تزرعها وتحصدها وتذريها وتغربلها وتطحنها وتعجنها وتخبزها ماكينة مفاصلها وأضلاعها من الحديد، أما روحها فالبنزين؟ وإلى أين تمشي بنا الماكينة؟
بُخلٌ أم كَرَم؟
ومن المفارقات في الأدب حول موضوع الرغيف أنه استخدم كرمزٍ للكَرَم كما استخدم كَرَمزٍ للبُخل. فإنَّ جبران، ذي النزعة الإنسانية المعروفة يقول الآتي في كتابهِ رَمل وزبد :
إنّك لا تستطيع أن تأكل أكثر من حاجتك. فإنَّ نصف الرغيف الذي لا تأكله يخصّ الشخص الآخر، ويجب أن تحفظ غيره قليلاً من الخبز لضيفٍ ربما يمرّ بك على غير انتظار .
ويقول الجاحظ عن أحد بخلائه أنه جَلَدَ الخبّاز لأنه أنْضج الخبز ووضَعَه أمام الضيف وكان قد أوصاه بعدم إنضاجهِ لئلاَّ يؤكل:
أنضج خبزي الذي يوضع بين يدي واجعل خبز من يأكل معي على مِقدارٍ بين المقدارين. وأما خبز العِيال والضيف فلا تقربّنه من النار إلا بقدر ما يصير العجين رغيفاً وبقدر ما يتماسك فقط . ولما أعجز ذلك الخبّاز نال نصيبه من الجلد الأليم.
الرغيف والتنّور
ومن القصص القصيرة، قصة الرغيف للقاص الليبي أحمد يوسف عقلية، وهي بمثابة حوار بين الرغيف والتنّور، وعلى قدر من الإبداع والطرافة إلى جانب عمق المعاني والبساطة. وهنا بعض السطور الأولى من هذه القصة:
أحسَّ الرغيف بأن أطرافه بدأت تشتد.. وأخذ اليباس يعلو وجهه.. لكنه ظلَّ مُعتصمِاً بصمته.
قال التنُّور.. بعد أن نفخ نفخةً طويلة بفعل الصهد:
–
لماذا هذا الصمت..؟ حدِّثْني ما دمنا ملتصقَين إلى هذا الحَدّ.. أم تنتظر حتى تنضج فتصبح طعاماً..؟
–
هذه مسألة لا فكاك منها.. لكنَّ ما يشغلني هو أنني لا أعرف من نصيب أي الأفواه سأكون..؟
–
المسألة سهلة.. إذا كنتَ أحمر مقرمِشاً فستكون من نصيب الحسناوات.. وإذا كنتَ رطِباً فستلوكك العجائز.. أما إذا احترقتَ وعلاك السواد فستأكلك الكلاب.. أو الراعي في أحسن الأحوال..!
احتجَّ الرغيف:
– هذا مَيْز عنصري.. أنا رغيف سواء كنتُ أحمر أو أسود.
–
رغم أنني كتنُّور ضد المَيْز العنصري.. إلا أنَّ هذه هي الحقيقة الموجعة للأسف.
–
مَن يدري.. قد أقع في فم أحد الجنرالات.. تُرى هل معدة الجنرال تختلف..؟
– دعْنا من هذا.. وقل لي: لماذا تلتصق فيّ بقفاك..؟!
– المصادفة وحدها هي التي جعلت من هذا وجهي وذاك قفاي.
– يا لها من رحلة ستقطعها بين الفم والقفا..!
– أتسخرُ منِّي يا قُبو النار..؟
– أنا لا أسخر أيها اللصيق.
– مَن تظنّ نفسك..؟ أنت مجرد فم أسود لابتلاع الحطب.
–
وأنت لستَ أكثر من (قَنَّان) لزج كالحلزون.. يبدو أنهم قد عجنوك بخميرة النكد..!
غضب الرغيف.. ازداد تكوُّراً.. وتحصَّن بصمته.. فيما كان التنور يتساءل عن الحُمرة التي بدأت تغزو أطراف الرغيف: هل هي بفعل النار..؟ أم بسبب الغضب..؟
قال التنور محاولاً ترطيب الأجواء:
–
نحن نشترك في أمر مهم.. أنت قُرص .. وأنا مجموعة من الدوائر من الفم إلى القاع.. ألاحِظ أنك بدأتَ تفقد بياضك.. ومع أن سمائي ليست زرقاء.. بل هي أقرب إلى السواد.. إلاَّ أنك أصبحت كالبدر..!
– إنني أحسُّ بالنضج.
– هذه نهاية الطريق.
– ماذا تعني ..؟
–
هكذا هي حياة الأرغفة.. قصيرة.. تمام الأشياء يعني بدايتها في النقص.
– أهذه حكمة التنانير..؟!
– انتظار النهاية لا يُغيِّر من الأمور شيئاً.
– وماذا بوسع رغيفٍ مثلي أن يفعل ..؟
–
هناك طريقة واحدة لتأخير النهايات.. تخلَّ عن صمتك.. ما دمتَ قادراً على الحَكي فإنك لن تموت.
–
لكنَّ حكايتي قصيرة.. محدودة.. منذ أن دفنوني حبَّة في التراب.. إلى أن وصلتُ إليك.
–
أنا أيضاً حكايتي قصيرة.. منذ أن كنتُ في الوادي حجراً من المرمر.. لكنَّ هذا لا يدعوني إلى الصمت.. ثم إن حكايتك أزلية.. منذ تلك الحَبَّة التي أنبتت سبع سنابل.
خبَت الجمرات.. دفنها الرماد الأبيض.. أخذ الرغيف يروي حكايته.. ويروي:
تهطل الشآبيب.. أصابع سماوية تمسح يَبَاس الحقول الحاسرة التي خدَّدتها المحاريث.. ينتشر فَوح التراب المُبلَّل.. تتموج السنابل.. تصفّر.. تصدح قُبَّرات وجنادِب.. أغمار.. أجران.. صهيل.. غِلال.. مطاحن..
أحسَّ بأن العمر مهما طال وامتد.. فلن يتسع لحكاياته.
تعاقب الليل والنهار.. بدت السماء كحقلٍ أزرق يومض بألف زهرة.. تناسلت حَكَايا الرغيف.
هطل المطر.. أعشب التنور.. ومن تحت الرماد نهضت سبع سنابل.
وفي الرواية الأجنبية
ونظراً إلى الرموز الحياتية التي يحملها، ظهر الخبز في معظم الروايات الأجنبية التي تناولت الفقراء والأزمات الاجتماعية. ومن أبرز المسرحيات الأجنبية التي تمحورت حول الخبز هناك خبز العائلة للكاتب الفرنسي ج. رونار عام 1898م. كما أن القاص بول كلوديل كتب مسرحية في العام 1918م بعنوان الخبز القاسي. أما الأديب الروسي الشهير مكسيم غوركي فقد كتب سيرته الذاتية بعنوان كاسباً لقمة عيشي .
وفي الفنون
في فن الرسم، ظهر الخبز في الفنون أينما كان الفن واقعياً أو سعى إلى أن يكون كذلك. ففي الرسوم الجدارية في المقابر الفرعونية ظهر الخدم وهم يطحنون غلال الحبوب ويخبزون. ولا عجب في ذلك، إذ أن إحدى البعثات الأثرية عثرت في منطقة الجيزة على مخبز مجهز بالكامل يعود إلى القرن الثالث ق.م. ومنه تم التأكد أن خبز هذا المخبز الفرعوني يتطابق وأسلوب خبز العيش الشمسي الذي لا يزال ينتج في صعيد مصر حالياً.
والتيار الفني المعروف باسم الطبيعة الصامتة الذي تفرع عن المدرسة الفلامنكية في القرن السادس، غالباً ما رسم الخبز إلى جانب أساسيات المائدة المثالية. ومن أشهر هؤلاء الفنانين بيتر كلايتز وفيلام كالف. كما ظهر الخبز في أعمال عشرات الفنانين الواقعيين في القرن التاسع عشر وصولاً إلى مدارس القرن العشرين.
أما في الموسيقى والغناء، فهناك الأغاني الشعبية الخاصة بالخبز، ومنها واحدة، على سبيل المثال، تقول: ياعجين ما تعتب عليّه دي المروّة اللي فيّه، يا عجين الكسلانة قب وإملي اللقانة،.. أو واحدة تقول: عيشي مشمش يطلع ينفش، عيشي تفاح يطلع مرتاح، ياكلوه شبان ملاح.. .
وفي العام 1969م، تشكل في أمريكا فريق موسيقي سمى نفسه Bread ، أي خبز. وقد ذاع صيت هذا الفريق عالمياً بسبب الموسيقى الهادئة الحالمة التي أطلقوها. وفي وقت لاحق ظهر فريق آخر سمى نفسه Cake ، أي كعك ، كرّم الفريق الأول بإنتاج أسطوانة تضم 14 أغنية من أغانيه القديمة اعترافاً بما أضفاه على الموسيقى في تلك الحقبة.
الخبز الفرنسي..
مَعلَم السياحي
ينتج الفرنسيون أكثر من مئتي نوع مختلف من أنواع الخبز، أما الأنواع التي يستهلكونها يومياً فلا تزيد على العشرة، وعلى رأسها الباغيت .
و الباغيت كلمة تعني العصا ، لأن هذا الرغيف يشبه العصا. فهو طويل، ذو قشرة محمصة صلبة، ولب طري، لذيذ المذاق، وتفوح منه رائحة زكية عندما يكون طازجاً.
ولم ينجح شعب في العالم في رفع خبزه إلى مقام المعالم الوطنية والسياحية كما نجح الفرنسيون. فرغيف الباغيت مذكور في كل الكتيبات السياحية إلى جانب برج إيڤل وقصر فرساي ومتحف اللوفر. ولا بد للسائح من أن يتذوقه كي تكون سياحته كاملة. كما أن الصورة النموذجية للمواطن الفرنسي تمثل في وجدان الكثيرين رجلاً يعتمر قبعة البيريه على رأسه ويتأبط رغيفاً من الباغيت .
وقد حاولت الباحثة ماغالي مارغان في رسالة دكتوراه بعنوان صورة فرنسا في الخارج من خلال باغيت الخبز أن تجيب عن بعض التساؤلات التي تحيط بهذا الرمز.
وتقول هذه الباحثة إن أصل الباغيت نمساوي وليس فرنسياً. وقد وصل إلى فرنسا في العام 1830م. وكان خبزاً أرستقراطياً يعجن بالحليب وليس بالماء.
وتروي الباحثة أيضاً المراحل التي مرت بها هذه الصناعة، واستبدال الحليب بالماء مما خفض كلفته، ولكنه من جهة ثانية قلّص مدة استهلاكه، بحيث بات من الضروري شراؤه يومياً وتناوله طازجاً. وهكذا صار الخبز النمساوي الأرستقراطي خبزاً شعبياً.
والواقع أن رغيف الباغيت هذا تعرض لتقلبات عديدة في تاريخه. فخلال الحربين العالميتين تراجع إنتاجه بسبب الأزمة الاقتصادية التي جعلت الخبز الأسمر أكثر رواجاً.
وفي العقود الأخيرة من القرن العشرين، كادت الآلة وتطور صناعة الخبز وإدخال المواد الحافظة على الرغيف الفرنسي أن تدمر رغيف الباغيت التقليدي. إلا أن جهود آلاف الخبازين على مدى سنوات عشر حملت الحكومة على إصدار قرار بمنحهم لقب خباز حِرفي . ويصل اليوم عدد هؤلاء الذي يخبزون وفق الطرق التقليدية من دون أي دور للآلة إلى نحو 35 ألف خباز.
اللقمة العربية للمشاركة
أخذ الرغيف العربي حقه من الاهتمام الرسمي في أول مؤتمر عربي للرغيف والحبوب، الذي عقد في عمان عام 1984م، ودرس حماية تصنيع الخبز العربي، وتأمين نوعية مواده الأولية وحمايته من المنافسة.
فاللقمة العربية في الرغيف العربي ليست مجرد تسمية فقط، إنما ترمز إلى مجموعة من التقاليد الاجتماعية تبدأ بمفهوم المشاركة في مأدبة الطعام، إذ أن التقاليد كانت تقضي بأن يجلس أفراد العائلة والمدعوون حول طبق طعام رئيس يتوسطهم ويأكل كل منهم من جهته حاجته منه، على أن يتم الأكل بواسطة قطعة الخبز العربي أو اللقمة التي تغّمس في الطبق وتنوب بالتالي عن السكين والشوكة.
المحسنات المسيئة
إضافة إلى المكونات الأربعة الأساسية تستعمل بعض الأفران الحديثة محسنات للخبز لإضفاء المزيد من الجاذبية على شكله أو طعمه. بعض هذه المحسنات غير مضر للصحة مثل القليل من الحليب أو السكر، أو حتى البطاطس المسلوقة التي تطيل الوقت الذي يبقى فيه الرغيف طرياً.. ولكن هناك بعض المحسنات المثيرة للشكوك والجدل.
فمادة برومات البوتاسيوم التي شاع استعمالها كمحسن للعجين تشكل خطراً على الصحة. فهي تجعل حجم العجين يتضاعف أربع مرات تقريباً، وتُحسّن شكل الخبز الذي يصبح منتفخاً جداً عند طهوه. لكن استعمال هذه المادة يجب أن يخضع لمعايير دقيقة في استعمالها، لأن تخطي النسبة المطلوبة يعرض الصحة مباشرة لمخاطر كبيرة، إذ تتحول مادة برومات البوتاسيوم إلى مادة البروميد التي قد يتراكم الفائض منها في الكليتين مسبباً على المدى الطويل السرطان.
وعلى الرغم من أن عدداً من الدول سمح باستخدام هذه المادة وفق شروط صارمة ومحددة، إلا أن وزارة التجارة في المملكة العربية السعودية منعت استعمالها قطعاً.
رغيف وفرن عملاقان
الرغيف العملاق أتى من بولندا حيث تولت مجموعة من الخبازين البولنديين العام 2002م صناعة رغيف عملاق دخل كتاب غينيس للأرقام القياسية. وشهدت مدينة بلسفيو البولندية ولادة الرغيف الساخن الذي يبلغ طوله 14 متراً ووزنه 1168 كيلوغراماً.
أما أعرض فرن في العالم فرأى النور في مدينة شيكاغو الأمريكية العام 1893م بفضل شركة ميشيغان للأفران وارتفاعه 25 قدماً وطوله 30 قدماً وعمقه 20 قدماً.
وفي الصين، بنى سكان شينجيانغ في أحد المتنزهات المشهورة في مدينة توروفان في مقاطعة شينجيانغ العام 2004م، أكبر فرن لإعداد الخبز في العالم، إذ بلغ قطره عشرة أمتار وعلوه ثمانية أمتار بحيث لا يقتصر استعماله على صناعة الخبز الخاص بالمقاطعة، بل يتسع لشيّ جمل واحد وبقرتين وعشرة خراف في آن.