كل فرد منا بينه وبين الحلاَّق علاقة منتظمة، تتكرَّر دورياً وفق إيقاع شبه ثابت. إنه الشخص الذي أوكلنا إليه قص شعر رأسنا مرةً، وراق لنا أداؤه، فتحوَّل إلى «الحلاَّق المعتمد» الذي نقصده دون غيره كلما احتجنا إلى قص شعرنا. ولكن لمهنة الحلاقة العريقة جداً، نكهةً تميزها عن باقي المهن. إذ يكاد الحلاق أن يكون جزءاً من نسيج العلاقات الاجتماعية أكثر مما هو مهني يؤدي عملاً محدداً. وحتى لو لم يتحوَّل محل الحلاقة الذي نألفه إلى «ديوانية»، تتضمَّن زيارتنا للحلاَّق نكهة اجتماعية نشعر دائماً بالرضا عنها. ولهذا، فإن حلاَّق كل منا هو دائماً أفضل الحلاَّقين. وبسبب مواكبته للحياة الاجتماعية في مختلف العصور والحضارات، أصبح الحلاق بتاريخه وواقعه اليوم أشبه بسجل يختصر كل ما شهدته هذه المجتمعات عبر تاريخها الطويل. في هذا الملف، يدعونا فريق (القافلة) إلى زيارة صالون الحلاَّق، لاستكشاف تاريخه وتاريخنا من خلاله، مع إسهامات من شوقي دويهي، ومحمد خير حول تاريخ الحلاَّق في البلاد العربية، وإبراهيم العريس حول الحلاَّق في السينما، وإلياس سحاب حول الحلاَّق في الموسيقى. الحلاَّق.. سليل الأطباء صديق اليوم مهما بلغ محل الحلاقة الذي نقصده اليوم من فخامة، تبقى أدواته قليلة العدد جداً مقارنةً مع مستلزمات مهن عديدة أخرى: مقص ومشط ومرآة وكرسي ومجفف شعر، وآلة قص كهربائية وماشابه ذلك. وعندما نسلِّم رأسنا للحلاَّق كي يقص ما طال من شعرنا ويهندس شكله، قد لا يخطر ببالنا أن هذا الشاب هو مهنياً سليل أطباء أيام زمان، وأنه ينحدر على الصعيد المهني من شريحة احتلت في بعض الحضارات أعالي السلم الاجتماعي، وتطلَّعت إليها حضارات أخرى بدونية ظالمة. تاريخ موغل في القِدَم ظهر الحلاَّق بظهور اهتمام الإنسان بشعر رأسه. ولما ارتبط هذا الاهتمام في المجتمعات البدائية قديماً بمعتقدات خرافية ووثنية، كان الحلاَّق أقرب إلى أن يكون كاهناً. ففي بعض قبائل آسيا الوسطى قديماً كانت مهنة الحلاَّق طرد الشر من النفس عبر قص الشعر، وقرَّبته هذه المهمة من معالجة مشكلات صحية أخرى، فلعب دور الطبيب أيضاً. غير أن أقدم توثيق للحلاَّق ودوره وصلنا مفصلاً، يعود إلى مصر الفرعونية. حيث تؤكد الآثار الفرعونية من مجسمات ورسوم على البردى أن المصريين القدماء كانوا يحلقون شعر رأسهم وذقونهم. وكانت «حلاقة» شعر الفرعون جزءاً أساسياً من مراسم التنصيب. حتى أن شعر الذقن كان يٌزال تماماً لتحل محله ذقن صناعية، وكان كبير الكهنة هو الذي يتولى هذه المهمة، لأنه وحده يجوز له أن يلمس رأس الفرعون، أما الكهنة أنفسهم فقد ذهبوا إلى أبعد من ذلك، إذ كانوا يحلقون كل شعر أجسامهم مرةً كل ثلاثة أيام. أما الحلاَّق المصري القديم الذي يتولى حلاقة شعر العامة، فقد كان جوالاًّ، يحمل أدوات عمله في سلة مفتوحة من القش، وأهم أداة كانت الموس التي تشبه في شكلها شكل فأس صغيرة ذات مقبض معقوف. وفي اليونان القديمة ظهرت محلات الحلاقة الثابتة وازدهرت في القرن الخامس قبل الميلاد. فقد اعتنى حكماء أثينا وشيوخها بمظهر ذقونهم ولحاهم التي شاءوها أن تكون على أحسن شكل ممكن. وكان عليهم أن يقصدوا محال الحلاَّقين لتسريح ذقونهم أو تجعيدها وتشذيبها. ولأن السياسيين والفلاسفة والأدباء كانوا يتبادلون بعض الأحاديث إذا ما التقى بعضهم بعضاً في هذه المحال تحوَّلت دكاكين الحلاَّقين بسرعة إلى أماكن تسقّط الأخبار، ومحور الحياة الاجتماعية في أثينا، ونعم الحلاقون بوضع مادي مريح جداً. ويروى من القرن الثالث قبل الميلاد، أن الفُرس الذين انتصروا أولاً على جيش الإسكندر المقدوني في بعض المعارك (قبل أن يُهزَموا في معركة أربيل)، كانوا يربطون الأسرى المقدونيين من ذقونهم أو شعررؤسهم الطويل إلى الخيل لتسحلهم في الطرقات. الأمر الذي دفع الإسكندر إلى أن يأمر جنوده بحلاقة شعر رؤوسهم وذقونهم تماماً. وحذا المدنيون حذو العسكريين، لينتهي بذلك الاهتمام بتربية اللحية وتجميلها الذي كان قد استمر لأكثر من قرنين من الزمن. ولكن، مامن حضارة قديمة (وربما حديثة) كرَّمت الحلاَّق كما فعلت روما. فقد ظلت روما تجهل الحلاَّقين ودورهم حتى العام 296 ق. م حين أتاها تيسينيوس مينا من صقلية وعرَّف المدينة على فن حلاقة الذقن. وبسرعة انتشرت محال الحلاقة في المدينة. وصار الوجهاء والنبلاء يمضون ساعات عديدة يومياً في محال الحلاقة، لقص شعر الرأس، وتشذيب اللحية أو حلاقتها، وأضاف الرومان آنذاك إلى هذه المهمة المحددة جملة أعمال أخرى مثل التصفيف والتدليك، وتقليم الأظافر وطليها.. أي كل ما نعرفه اليوم من خدمات إضافية تعرضها علينا اختيارياً محال الحلاقة بعد قص الشعر. وفي عصر الإمبراطور أدريان، عادت اللحى الطويلة إلى الظهور. وكان لذلك سبب محدد. وهو أن الإمبراطور كان ذا وجه مغطى بالندوب الذي أراد تخبئتها، فترك لحيته لتطول. وتبعه الشعب في تقليده، غير أن «الموضة» عادت وتغيَّرت. ومنذ ذلك الوقت، وحتى قرون عديدة لاحقة، بات الملك في أوروبا هو الذي يحدِّد موضة قص الشعر طويلاً أم قصيراً، وحلاقة الذقن أم إطلاقها. ظهور الحلاَّق الطبيب اندثر الحلاَّق الروماني باندثار الحضارة التي أنجبته، وغرقت أوروبا بأسرها بعد القرن الرابع الميلادي في الجهل شبه المطلق لنحو سبعة قرون، حتى أن الكثيرين من النبلاء كانوا يجهلون القراءة والكتابة، فما بالك بالعامة؟ في عصور الظلام هذه، لم يكن هناك أطباء محترفون، ومعظم الأمراض التي نعالجها اليوم بحبة دواء، كانت قاتلة في ذلك الزمن. فأكثر وسائل العلاج الطبي التي كانت معتمدة في علاج أي مرض، هي تسييل الدم. أي جرح المريض حتى يسيل بعض دمه، بسبب رواج الاعتقاد أن الدم هو حامل لكل العلل والأمراض. وطالما أن الحلاَّق هو المهني المزَّود بأدوات قص الشعر الحادة، وعلى علاقة مسبقة بالتعاطي مع الجسم البشري (ولو من خلال قص الشعر فقط)، انبرى لتولي مهمة جرح المرضى وإسالة دمائهم.. وبسرعة، صار يقتلع الأسنان، ويضمد الجروح. وهكذا ظهر الحلاَّق-الجرَّاح الذي استمر في تأدية هذا الدور المزدوج لقرون عديدة تجاوزت عصر النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر. أدت الحروب الصليبية واحتكاك الأوروبيين بالعرب، إلى اهتمام الأخيرين بدراسة الطب. فبدأت المنافسة ما بين الأطباء المحترفين والحلاَّقين الذين سارعوا إلى إنشاء أول منظمة لهم في مدينة روان الفرنسية. وفي القرن الرابع عشر أنشأ الحلاَّقون- الجرَّاحون أول معهد لتدريس مهنتهم في باريس، وهي المدرسة التي أصبحت لاحقاً أول مؤسسة لتعليم الجراحة في أوروبا. حتى أواسط القرن الخامس عشر، ظل الحلاَّقون وحدهم مخولون بإجراء العمليات الجراحية. ولكن منذ بداية ذلك القرن، بدأ تذمر الناس منهم، واتهامهم لهم بأنهم يزيدون من أمراضهم بدلاً من شفائها. وبموازاة هذا التذمر كانت شرارة النهضة الكبرى قد اندلعت في أوروبا.. وبدأ الأطباء بالتعمق في دراساتهم وتسجيل الاكتشافات والمعلومات التي بات يصعب على الحلاَّقين اللحاق بها ودراستها ومتابعة أعمالهم في قص الشعر والتجميل.. ومع ذلك، وحتى بعد دمج جمعية الجرَّاحين بجمعية الحلاَّقين في إنجلترا مثلاً سنة 1450م، ظل الأطباء الجرَّاحون المتخرجون حديثاً بحاجة إلى توقيع طبيبين وحلاقيَن على شهاداتهم. أقدم «لوغو» في العالم في ذلك العصر، كان الحلاَّقون- الجرَّاحون يعلِّقون أمام محالهم شريطين حمراوين من قماش. الشريط الأول هو الذي كان يُلف حول الموضع الذي سيجري فيه الحلاَّق جراحته، والثاني لتضميد الجرح. وكان تعليق الشريطين أمام باب المحال بمثابة إعلان أن هذا المحل هو محل حلاقة. ولاحقاً، استبدل الحلاَّقون الشريطين برسم يمثلهما، ويوضع بشكل ثابت على الباب أو فوقه. وشعار محلات الحلاقة الذي نراه اليوم، والمؤلف من خطين واحد أحمر وآخر أزرق يلتفَّان حول بعضهما البعض، هو الشعار القديم نفسه، وهو على الأرجح أقدم شعار لأية مهنة في العالم. انفصال الحلاقة عن الطب بتطور الطب الجراحي وطب الأسنان، وتحسن أداء العاملين في هذين المجالين، شعر الأطباء بالقوة الكافية للانفصال عن الحلاقين، وراحوا يمارسون ضغوطهم على الحكومات لإقصاء الحلاَّقين عن مزاولة مهنتهم. فكان لهم ما أرادوا في إنجلترا أولاً سنة 1745م. بقرار من البرلمان، ثم في فرنسا بقرار من الملك لويس الرابع عشر، ولم يأفل القرن الثامن عشر إلاَّ وكانت مهنة الطب قد استقلت تماماً عن مهنة الحلاقة. وفيما راح الأطباء ينهضون بمهنتهم، تدهورت محال الحلاقة اجتماعياً ومهنياً. فصارت ملتقى العاطلين من العمل وأوكاراً للثرثرة لا يقصدها إلا أبناء الطبقات الدنيا، ولا تجرؤ النساء على دخولها. استمر وضع الحلاَّقين ومحالهم في التدهور طيلة قرن من الزمن، بانتظار المنقذ الذي سيعيد إلى هذه المهنة بريقها الاجتماعي ويضعها كما كانت على المستوى نفسه مع أطباء الأسنان والجرَّاحين. وظهر منقذ المهنة هذا فعلاً في مدينة شيكاغو الأمريكية عام 1893م، عندما أسس أ. ب. مولر أول معهد مهني لتخريج الحلاَّقين. كان هذا المعهد الأول من نوعه في العالم. وكان نجاحه ظاهراً منذ تأسيسه، وبسرعة راحت فروعه أو المعاهد المشابهة تقام في كل مدينة كبيرة في أمريكا، وكان تدريس الطلاب في هذا المعهد يقتصر على أعمال حلاقة الذقن وتخطيطها، وقص شعر الرأس وتسريحه، ومعالجة بشرة الوجه أو شعر الرأس إذا كان يعاني من مشكلات.. الأمر الذي فتح أبواب المهنة لاستقبال أي تطور قد يحصل على الاكتشافات الطبية والمستحضرات الصيدلانية العلاجية والتجميلية والاستفادة منها للارتقاء بهذه المهنة إلى مستوى احترافي واختصاصي أسوةً بالمهن الراقية الأخرى. وهذا ما استقر عليه الحلاَّق المعاصر، في صورته العالمية المعروفة عنه هنا أو هناك. الحلاَّق.. في البلاد العربية في البداية، لابد من الإشارة إلى أن محال الحلاقة في البلدان العربية لا تخضع لشكل واحد وطراز وحيد، كما أنها ليست من نمط وحيد لجهة ما يجري في داخلها وما يسيطر على أجوائها، ذلك أنها تتغيَّر بتغير زبائنها وانتماءاتهم المجتمعية وفئاتهم العمرية. إضافة إلى هذه المتغيرات يبدو من الواضح أن الأمكنة التي تقع فيها سواء داخل المدينة بين حي شعبي يغلب عليه السكن وآخر تغلب عليه أوجه النشاط الاقتصادية والخدماتية، أو في بلدات الريف وقراه، هذه الأمكنة التي طبعت بطابعها هذه المحال، وأضفت عليها بالتالي شخصية خاصة. وإذا كان لمكان إقامة هذه المحلات مثل هذا التأثير، فالواضح من جهة أخرى أن المحال هذه لم تستقر على شكل ثابت، ذلك أنها كانت دائماً عرضة لتحولات فرضتها أنماط عيش جديدة على أكثر من صعيد وما استتبعها من تحولات طالت من ضمن ما طالت تسريحات الشعر. وبما أن محال الحلاقة لم تكن على نمط واحدِ، فمن الطبيعي ألاَّ تكون شخصية الحلاَّق وسلوكه وطريقة تعامله مع الزبائن هي نفسها في كل من هذه المحال. فإن حلاَّق القرية هو غيره حلاَّق المدينة، وهذا الأخير هو غيره حلاَّق الأحياء الشعبية داخل المدينة نفسها، وهو أيضاً غيره الحلاَّق الذي يحمل عدته متنقلاً من مكان إلى آخر سواء في أرجاء المدينة أو بين قرية وأخرى، كما هو غيره الحلاَّق الذي كان يتخذ ركناً له داخل أحد المقاهي بحيث يصبح الركن هذا بمثابة محله. حلاَّق أيام زمان من المرجِّح أن جيل المعمَّرين في عصرنا هذا، قد شهد تاريخ الحلاَّق العربي من الألف إلى الياء. إذ إن صورة الحلاَّق التي يمكن أن ترتسم في أذهان المعمرَّين إذا ما عادوا بذاكرتهم إلى طفولتهم، هي نفسها الصورة التي كان عليها الحلاَّق (حيثما وجد) خلال قرون عديدة ماضية. تؤكِّد بعض النصوص القديمة التي تعود حتى إلى عصر المماليك، وجود حلاَّقين متجولين في المدن العربية الكبرى آنذاك. ولكن المدهش أن نصوصاً أخرى تكشف لنا أن بعض السلاطين كانوا يشذبون لحاهم بأنفسهم، وبعضهم كان يعتمد على أحد الأمراء المقرَّبين منه ليقص له شعر رأسه عندما يريد ذلك. وعلى غرار الحلاَّق الأوروبي القديم، كان الحلاَّق الجوّال في البلاد العربية يتنطح لبعض المهمات الطبية مثل قلع الأضراس أو ختان الأولاد. ولهذا عرف باسم «حلاَّق الصحة». وبشكل عام، كانت القرى والبلدات الصغيرة في أرياف بلاد الشام مثلاً على موعد مع الحلاَّق الجوّال الذي يزورها مرة في الأسبوع أو في الشهر وفق عدد السكان وحاجتهم إلى قص شعرهم. أما في المدن، فكان الحلاَّق الجوَّال يقصد أماكن تجمع الرجال مثل المقاهي وأماكن العمل المكتظة والأسواق، حاملاً حقيبته التي تحتوي على كل مستلزمات عمله، وهي محدودة: مشط ومقص وموس وحزام جلدي لسن الموس وصابون حلاقة مع وعائه، وبودرة بيضاء وفرشاة لتنظيف العنق بعد الحلاقة. بدأ استقرار الحلاَّق العربي في دكانه الخاص مع ما حمله الانتداب الفرنسي والبريطاني من مفاهيم وتقاليد جديدة إلى بلاد الشام ومصر. ويتشكل هذا الدكان التأسيسي من كرسي مرتفع نسبياً يسمح للحلاَّق الواقف بجواره بالتعامل مع رأس الزبون من دون أن ينحني عليه، ومرآة مستطيلة أمام الكرسي ليتابع الزبون مجريات العملية وبضعة مقاعد للمنتظرين أدوارهم.. أما أدوات الحلاقة فقد راحت تشهد ببطء تطورات وإضافات. فظهرت آلة القص الميكانيكية إلى جانب المقص التقليدي، والموس للحلاقة الناعمة ومسن الموس والأمشاط وفرشاة التنظيف وماشابه.. وفي محال الحلاقة الأعلى كعباً من غيرها في ذلك الزمن، كان الحلاَّق يضم إلى أدواته بودرة بيضاء لتنظيف بشرة العنق والوجه من الشعر المقصوص الذي يكون قد التصق بها. وبعضهم كان يتباهى بمعجون تلميع الشعر المعروف باسم «بريانتين». وبدءاً من الأربعينيات أضافت بعض محلات الحلاقة إلى أصولها جهاز الراديو الذي يبث الموسيقى والأغاني فيشيع جواً من المرح في المحل، والأخبار السياسية التي تعزَّز مناقشتها متانة العلاقة ما بين الحلاَّق وزبائنه. والواقع أن الصورة النموذجية هذه لدكان الحلاقة التأسيسي لا تزال حاضرة في مواضع كثيرة من قرى الأرياف وبلداتها، وحتى في بعض الأحياء الشعبية من المدن، حيث الزبائن على استعداد لدفع الحد الأدنى مقابل الضروري فقط من خدمات الحلاَّق. واللافت أن سلطات الانتداب التي أشرفت، من ضمن ما أشرفت عليه، على تنظيم الأعمال والمهن ووضع القوانين الخاصة بها فرضت على الحلاَّقين في بلاد الشام زياً خاصاً يتألف من مريول أبيض طويل، كان على الحلاَّق أن يرتديه فوق زيه الشخصي المؤلَّف من صدرية وسروال وطربوش أحمر مغربي الطراز. وأسوة بباقي المهن التي تحظى بيوم عطلة أسبوعية، فقد حدَّدت سلطات الانتداب في لبنان وسوريا وفلسطين ومصر يوم الإثنين ليكون عطلة الحلاَّقين أسوة بما هو عليه الحال في أوروبا؛ لأن هذا اليوم يعقب عطلة نهاية الأسبوع في أوروبا، ويشهد أقل إقبال من الزبائن على حلاقة شعرهم وتجميل مظهرهم. وقد استمر هذا التقليد القاضي بإقفال دكاكين الحلاقة يوم الإثنين في مصر حتى يومنا هذا، أما في لبنان فقد تبدل منذ نحو عقدين من هذا الزمن فقط، ليصبح يوم الأحد، وليشارك الحلاَّق باقي المهنيين في عطلة نهاية الأسبوع. زينة.. أكثر من زينة بدءاً من الأربعينيات، صارت محال الحلاقة، خاصة تلك التي أنشئت في أحياء سكنية راقية، تُزيِّن جدرانها بمجموعة من الصور الفوتوغرافية التي كانت تمثِّل أولاً بعض أبطال الأفلام السينمائية من العرب والغربيين. وكانت هذه الصور تتبدَّل بتبدل السنوات تبعاً لما كان يستجد من تسريحات الشعر وتخطيط الشاربين… فكنت ترى هناك صورة لأنور وجدي الذي عرفت تسريحته بالقصة الكلاسيكية، أي برفع كامل الشعر إلى الوراء. كما كنت ترى هناك صورة عماد حمدي الذي تميَّزت تسريحته بفرق يتوسط الرأس وشعر متدرج من الخلف.. أما صور أبطال الأفلام الأجنبية، فكانت تشمل كلاً من الممثلين روبرت تايلر الذي كان يعد رمز الرجل الوسيم، وكلارك غيبل الذي شاع شكل شاربيه عالمياً بعد فلمه الشهير «ذهب مع الريح». كان تعليق مثل هذه الصور إيذاناً ببدء عصر «الموضة». إذ لم يعد كافياً أن يقص الحلاَّق شعر زبونه وفق أسلوب متعارف عليه وموحَّد. فمن جهة، رغب الرجل، وخاصة ابن المدينة، في الظهور بمظهر المواكب لمتغيرات العصر، من خلال التشبه بنجومه، ووجد الحلاَّق في ذلك ما يزيد من الإقبال عليه ومن مداخيله. وهذه العلاقة الخجولة ما بين الزبون والصورة والحلاَّق، لا تزال قائمة من أبسط محلات الحلاقة في أرياف بلادنا، إلى أرقاها في العواصم الأوروبية. فإن كانت بعض دكاكين الحلاقة المتوسطة تعتمد لهذه الغاية على صور لشبان وسيمي الخلق اقتطعها الحلاَّق من بعض المجلات، فإن محال الحلاقة الراقية والباهظة الكلفة في أوروبا تعلِّق على جدرانها صورعارضي التسريحات كما ظهروا في آخر معرض عالمي للحلاقة وتصفيف الشعر. ولكن قبل الغوص في ما آل إليه الحلاَّق في يومنا هذا، لابد من استكمال الحديث عن حلاق الأمس. الحلاَّق الطبيب.. انقرض، لم ينقرض تأخرت البلاد العربية كثيراً عن أوروبا في فصل الحلاَّق عن الطبيب، خاصةً في الأرياف والقرى النائية التي تفتقر إلى المستشفيات والأطباء. فظل الحلاَّق هو مطهِّر الأولاد، وهو طبيب الأسنان، وهو معالج الصلع والنزلات الصدرية، وهو الذي يتولى إسالة الدماء من المرضى.. وإن كان فصل الحلاقة عن الطبابة قد تحقَّق بنجاح في المدن على أيدي سلطات الانتداب منذ الربع الأول من القرن العشرين، فإن هذا الفصل لم يتحقَّق في أرياف بلاد الشام مثلاً إلا قبل ثلاثة أو أربعة عقود.. والمدهش حقاً أن الحلاَّق- الجرَّاح لا يزال حياً يعمل في بعض الأماكن مثل الريف المصري، حيث لايزال يتولى ختان الأولاد، وختان الإناث المثير للجدل. وأكثر من ذلك، فإن النزوح الكبير من الأرياف العربية إلى المدن، حمل عادات الريف ومفاهيمه إلى المدينة، التي باتت في أحيائها الشعبية وضواحيها أقرب إلى الريف القديم منها إلى المدينة المعاصرة، فنجا «حلاَّق الصحة» من الحداثة والعصرنة، ولايزال يمارس مهماته المختلفة في بعض الأماكن الشعبية بعيداً عن أعين الرقابة الصحية، كما هو الحال في مصر حيث تشير الإحصاءات إلى أن نحو %10 من عمليات ختان الإناث في مصر تتم على أيدي «حلاقي الصحة». الحلاَّق.. ووقت الفراغ الطبابة التي مارسها الحلاق هي بلا شك الأكثر إثارة للجدل من بين المشاغل الأخرى التي انهمك بها الحلاَّق إلى جانب قص الشعر. نعم، لقد كانت للحلاَّق دائماً مشاغل أخرى. فعمل الحلاَّق غير منتظم. قد يتدفق عليه الزبائن في أوقات محدَّدة تعرف بأوقات الذروة مثل عشية العطلة الأسبوعية، أو عشية الأعياد وما شابه. أما في الأوقات الأخرى فلا معدل ثابت لتدفق الزبائن عليه، وكثيراً ما يجد الحلاَّق نفسه بين زبون وآخر أمام ساعة أو أكثر من دون عمل. ولذا انصرف كل منهم إلى التفتيش عن اهتمام يملأ به هذا لفراغ. فمنهم من كان يتولى قديماً تدبير الزيجات طالما أنهم يعرفون كل أبناء مناطقهم وأحوالهم، ومنهم من كان يعمل أيضاً في سمسرة العقارات، فكنت تجد في محله إعلانات عن شقق أو محلات للإيجار أو قطعة أرض للبيع. ومنهم من كان يتلهى بتربية عصفور في قفص يضفي على دكانه لمسة من بهجة الطبيعة.. غير أن أبرز ما شغل الحلاَّقين بعد قص الشعر، وربما أينما كان في العالم، تلخص في أمرين: مجالسة الزائرين الذين يقصدون محله للزيارة والدردشة وتمضية بعض وقت الفراغ، والموسيقى التي كان للحلاَّق شأن في التعامل معها كما سنرى فيما بعد. خصوصية المحال في الجزيرة العربية ماسقناه حتى الآن عن نشأة الحلاَّق في البلاد العربية ينطبق على مصر وبلاد الشام وأيضاً على مدن الحجاز وخاصة مدينة جدة التي كانت على اتصال دائم ببلاد الشام ومصر. فعرفت جدة الحلاَّق الجوَّال، ودكان الحلاَّق التقليدي في أوقات قريبة جداً من ظهوره في البلدان المجاورة. أما في نجد وباقي أنحاء الجزيرة العربية، فقد كانت النظرة التقليدية للحلاَّق، شأنها في ذلك شأن النظرة إلى معظم الحِرَف اليدوية، لا تشجِّع أبداً ذوي الانتماءات القبلية المعروفة بالعمل في هذه المهنة. حتى يمكن القول إن الحلاَّق المحترف ظل شبه مجهول في معظم تلك النواحي، وكان الرجال يحلقون ذقونهم أو يشذبونها بأنفسهم، كما أنه من المرجح أنهم كانوا يعتمدون على بعض أفراد الأسرة ليقص الواحد منهم شعر الآخر عند الضرورة. غير أن النهضة الاجتماعية التي أعقبت توحيد المملكة ورافقت نهضتها الاقتصادية، غيَّرت الكثير من أنماط العيش، خاصة في المدن العصرية، فظهرت محلات الحلاقة منذ بدايات تحديث المدن، وانتشرت في كافة الأحياء من كل مدينة، وصولاً إلى القرى والبلدات الصغيرة. وكما هو الحال في معظم دول العالم، تفاوتت مستويات هذه المحال من شارع إلى آخر، حسب نوعية الخدمات الكثيرة التي يقدِّمها كل محل، وحسب الشريحة الاجتماعية التي يتوجه إليها. غير أن اللافت في دول المملكة ودول الجوار في الخليج، هو تردد المواطنين في الإقدام على العمل كحلاَّقين، وما زال معظم ممارسي هذه المهنة من الوافدين العرب والآسيويين. الحلاَّق ابن محيطه يستحيل تعداد أنواع محال الحلاقة ومستوياتها في البلاد العربية في الوقت الحاضر. فإذا كانت هذه المحال في مدن المملكة متقاربة مع بعضها نسبياً لجهة الشكل والحجم والحداثة، ففي بلدان عربية لا يزال التفاوت بين حلاَّق وآخر أكبر من أن يقاس في بعض الأحيان. ففي مصر، وإلى جانب حلاَّق الصحة الذي لا يزال يمارس عمله بشكل شبه سري، هناك «حلاَّقو الشوارع». وتنتشر هذه الفئة في المناطق شديدة الفقر، ويتألف زبائنها من أفقر الفقراء وسكان الشوارع. وقد لا يتقاضى الحلاَّقون في هذه الفئة أجرهم الزهيد نقوداً، وإنما طعاماً يسد جوع المعدة، أو «اللي فيه النصيب».. وهناك حلاَّقون يعملون خلف أبواب القصور. ونذكر من هؤلاء البارزين محمود لبيب المعروف بلقب «حلاَّق الرئيس» لأنه تمكَّن من أن يصبح الحلاَّق الخاص للرئيسين المصريين أنور السادات وحسني مبارك. وبين حلاَّق الشارع وحلاَّق الرئيس نجد في القاهرة كما هو الحال في بيروت وربما أية مدينة أخرى في العالم، محال حلاقة ملائمة لأبناء محيطها المباشر، بدءاً بالمتواضع جداً منها، ووصولاً إلى المتبجح بأفخم أنواع الديكور والخدمات المنوعة التي يعرضها على زبائنه، وصولاً إلى الفاتورة الباهظة التي تنافس بسهولة في بعض المحال فاتورة الأطباء. حلاَّق اليوم.. ابن الستينيات لأن الحلاَّق هو ابن مجتمعه ومحيطه المباشر، كان ولابد من أن يتأثر ويتفاعل مهنياً مع كل ما يطرح على هذا المحيط من تحولات. ولفهم ما الذي أوصل الحلاَّق إلى ما نعرفه عنه اليوم لابد من العودة إلى الستينيات من القرن العشرين. تميَّزت تلك الحقبة بتمرد الشبيبة في الغرب، وترددت أصداء هذا التمرد في معظم أنحاء العالم بدرجات متفاوتة. ومن جملة ما شمله التمرد كان المظهر. فمقابل الشعر القصير المسرح جيداً عند جيل الآباء، أطلق الشبان شعرهم ليطول، كما أطلقوا لحاهم في إهمال متعمد للمظهر. أثار الأمر أولاً هلع الحلاَّقين، ولكن التحوُّل في اتجاه إنقاذي مغاير كان ينتظرهم عند منعطف آخر. فقد أدت سهولة المواصلات وانتشار وسائل الإعلام المصورة، بما فيها التلفزيون الجديد آنذاك، إلى الترويج لمقياس جديد: «الموضة». الموضة التي راحت تتغيَّر من سنة إلى أخرى، فحل الشعر الطويل الممشَّط محل الشعر المهمل، والسالفان الطويلان محل الذقن الطويلة، ثم قصر السالفان، والشعر أيضاً. وبعد «الهيبيين» وإهمالهم للمظهر، ظهر «البانك» كأسلوب حياة شبابي متمرد ولكن بأناقة. واتخذت تسريحات البانك أشكالاً غريبة عجيبة تشبه عرف الهدهد حيناً، أو الطراز النازي القصير جداً، والصباغ بألوان تصل في غرابتها إلى الأحمر والأخضر والمرقط. حتى الستينيات، كانت الصورة التقليدية للحلاَّق تظهره على أنه رجل في الخمسين من عمره تقريباً. لأنه غالباً ما كان يبدأ عمله فتياً في أحد محلات الحلاقة كولد مساعد للمعلم. وبعد أن يجمع مدخراته لسنوات طويلة، ويكون قد وصل إلى سن الأربعين تقريباً كان يفتتح دكانه الخاص ويستقل عن معلمه القديم، ليصبح بدوره معلماً. ولكن للموضة، وللصيحات الشبابية أحكامها. فالزبائن من الشبان باتوا يترددون على محال الحلاقة أكثر من غيرهم، ويطلبون خدمات لاعهد للمعلم القديم بها. فكان من الطبيعي أن ينبري لتأدية المهمة حلاَّقون شبان يفهمون متطلبات أبناء جيلهم ويتمتعون بالمرونة اللازمة للتعامل معها. وهكذا تدنى معدل عمر الحلاَّق، ليصل إلى العشرينيات أو الثلاثينات فقط في معظم المحال المتوسطة الموجهة إلى الشريحة الوسطى من أبناء مجتمعاتنا. فعلى الرغم من تنوع المستويات والأنماط، يمكننا اليوم أن نتحدث عن حلاَّق نموذجي، يشكَّل العمود الفقري لهذه المهنة. وهذا الحلاَّق هو شاب في أواخر العشرينيات من العمر، يعمل عادةً مع رفيق له أو اثنين في الدكان الواحد، أو على أقل تقدير مع ولد مساعد. أما الخدمات التي يقدِّمها فتشمل قص الشعر، وغسله، حلاقة الذقن أو تشذيبها وتخطيطها، صباغة الشعر وغسله بالإضافة إلى بعض الخدمات التجميلية الأخرى مثل تنظيف بشرة الوجه بواسطة مستحضرات خاصة وإزالة الوبر عن الوجنتين والأذنين، وفي ذلك لكل حلاَّق طريقته الخاصة. فمنهم من يعتمد على الشمع، ومنهم من يستخدم الخيط، ومنهم من يستخدم القطن المشتغل بمهارة لا تترك أي أثر على الوجه.. ويمكن أن تصل خدمات بعض محال الحلاقة التي تضم عدداً كبيراً من العاملين فيها إلى حد العناية بأظافر اليدين والقدمين لمن يرغب. واستكمالاً لصورة الحلاَّق المعاصر، نشير إلى أنه عموماً شاب سعيد بعمله. لا يزال يحتفظ بالكثير من الصفات التي ميَّزت أسلافه، فهو من محاور العلاقات العامة. وكل حلاَّق لابد وأن يكون محاطاً بشلة من الزبائن الذين صاروا أصدقاءه. يقصدونه لتمضية بعض الوقت عنده، أو لترك رسائل شفوية لأصدقاء آخرين، أو حتى للاستدانة منه، طالما أن مهنته، بخلاف الوظائف الأخرى، تؤمِّن له مدخولاً مادياً يومياً، فلايخلو جيبه من مال مهما كان متوسط الحال عموماً. إنها مهنة جميلة، تقوم على عمل يبدأ بسماع التحية من زبون يتصرف باتزان طالما أنه سيسلِّم رأسه للمقص أو عنقه للموس، وينتهي بعبارة «نعيماً» من الحلاَّق، وجواب الزبون: «الله ينعم عليك». هل الحلاَّق ثرثار فعلاً؟ يروى أن شخصاً ظريفاً وعصبي المزاج دخل ذات مرة دكان حلاقة، وبعدما جلس على الكرسي، سأله الحلاَّق: «كيف تريدني أن أقص لك شعرك؟» فأجاب الرجل: «بصمت». فالشائع عند الناس أن الحلاَّق هو عموماً ثرثار يحب كثرة الكلام. ولكن وإن كان بعضهم كذلك فعلاً، فإن المراقبة الدقيقة تؤكد أن هذه الصورة ظالمة. فمعظم المهن تتضمَّن كلاماً، وبعضها يدخل النقاش والكلام في صميمه. أما الحلاَّق فلا، ولكن هذا لا يعني أن عليه أن يلتزم الصمت طوال النهار. كما أن الصمت يصبح ثقيلاً بشكل خاص ما بين الزبون والحلاَّق عندما يكونان سوية لنصف ساعة أو أكثر. لا حصر للموضوعات التي يمكن أن يتناولها حديث الحلاًّق. فإذا كان حديثه مع زبون دائم، أو أحد أفراد الشلة، يمكن أن يتضمَّن هذا الحديث أخبار زبائن آخرين، أو حادثة حصلت للحلاَّق مع أحد الزبائن، أو مشكلة وقعت في الشارع، أو مشاريع الحلاَّق الشخصية. أما إذا كان الزبون جديداً، أو محافظاً على مسافة معينة ما بينه وبين الحلاَّق، فقد يقتصر الحديث على العموميات انطلاقاً من حالة الطقس أو مما يبثه التلفزيون طالما أن التلفزيون أصبح جزءاً من ديكور محل الحلاقة. وبشكل عام، لا تخلو صورة الحلاَّق الثرثار من التجني. إذ إنه يبقى أقل كلاماً من الصحافيين والكتَّاب والمثقفين على سبيل المثال. وعندما يتكلَّم، وغالباً ما يكون ذلك لتسلية الزبون، أو لكسب وده، فإنه يبقى حريصاً على أن يظل ضمن الحدود التي يفرضها الأدب واللياقة وحسن المجاملة، بخلاف الكثير من العاملين في مهن عديدة أخرى. الحلاقة كعقاب في المسلسل العربي الشهير «ليالي الحلمية» نرى ابن الباشا يعاكس ابنة معلم الحارة «زينهم السماحي»، فأمسك به هذا الأخير، وأعاده إلى بيته محلوق الرأس. ففي الكثير من البلدان العربية، لا تزال أجهزة الشرطة تعاقب الشبان الذين يرتكبون هفوات أخلاقية محدودة الخطورة، بحلق شعر رؤوسهم. وفي تقاليد الجيوش أيضاً، إدراج حلق الشعر تماماً ضمن سلسلة العقوبات بحق العسكريين المخالفين للنظام. والغريب أن هذا العقاب الذي يثير هلع الشبان اليوم هو عريق جداً. إذ إنه يعود على أقل تقدير إلى أيام دولة المماليك، عندما كانت حلاقة الرأس جزءاً من «تجريس» المدان في مسألة أخلاقية. فيحلق شعر رأسه، ويتم إجلاسه بالمقلوب على حمار علِّق في عنقه جرس للفت أنظار المارة إلى الرجل المذنب وهو يطوف به في الشوارع. الحلاَّق في السينما جواب عن سؤال: «عما يفكِّر به هذا الرجل ورأسنا بين يديه؟» إن عدد الأفلام، الكبرى، التي يلعب فيها الحلاَّق دوراً رئيساً، يبقى قليلاً مقارنة بالأفلام التي تعطي البطولة إلى أصحاب مهن أخرى. ولكن الأفلام السينمائية المحدودة التي أعطت الأولوية للحلاَّق، كانت دائماً أفلاماً لافتة. وقد يكون من الأفضل في هذا السياق، وفي مجال الحديث عن السينما بشكل عام أن نبدأ من الفلم الأحدث «سويني تود» (من إخراج تيم بورتون، 2007م). ففي هذا الفلم، يلعب جوني ديب دور حلاَّق منتقم -على طراز الكونت دي مونت كريستو- يعود بعد ظلم وسجن وحرمان إلى لندن حيث يفتح دكاناً يقوم فيه بذبح زبائنه من الذين كانوا أساءوا إليه، وتحويل لحمهم إلى ما يشبه اللحم المشوي لبيعه شطائر. طبعاً لا يشير الفلم إلى أن كل الحلاَّقين هم هكذا، لكنه يفيد بما معناه أن سويني تود لو لم يكن حلاقاً لما كانت مهمته على مثل تلك السهولة. حلاَّق حزين الحلاَّق الأشهر بين الحلاَّقين السينمائين هو تشارلي شابلن في «الدكتاتور». حيث يلعب دوراً مزدوجاً: حلاَّقاً يهودياً ودكتاتوراً جائراً يشبه هتلر. حقَّق شابلن هذا الفلم سنة 1940م، في أمريكا ضد هتلر والنازيين طبعاً، حيث جعل الدكتاتور الحقيقي يثمل ويختفي، مما اضطر معاونيه إلى الإتيان بالحلاَّق الشبيه له على رغم يهوديته، كي يحل محله في الاحتفال الكبير، ملقياً خطبة تقول كل ما هو مناقض لما كان يريد الدكتاتور الحقيقي قوله. لم تكن هذه المرة الأولى التي يلعب فيها شابلن دور الحلاَّق، لكنها كانت المرة الأولى الناطقة. فالرجل كان رجل السينما الصامتة، وحين «نطق» كان من الأفضل له أن يكون حلاقاً. لما اشتهر الحلاَّق به من «ثرثرة». وتتبادر هنا إلى أذهاننا صورة مناقضة لصور الحلاَّق الثرثار، ألا وهي صورة الحلاَّق في فلم «الحلاَّق: الرجل الذي لم يكن هناك»، والذي يعود إلى عام 2001م. الحلاَّق هنا محبط، حزين، يمارس عمله باكتئاب ويأس؛ لكن تصرفاته المستكينة والجبانة ستنفجر ذات يوم على شكل جريمة يدفع ثمنها غالياً.من مميزات هذا الفلم الرائع، أن الراوي يقدِّم وصفاً مطولاً لحياة الحلاَّق وانفعالاته بشكل يجعل من هذا الحلاَّق ممثلاً لكل الحلاَّقين. ولكن ما هي صفات الحلاق المعهودة الإجابة صعبة. فقد كان محل الحلاَّق في مشهد رائع من فلم «العراب» المكان الذي تصفى فيه زعامات المافيا؛ والحلاَّق في «حلاَّق سيبيريا» آلة لقص الأشجار الكثيفة في غابات سيبيريا، وهو في «موعد على العشاء»، للمصري محمد خان، عاشق للحسناء سعاد حسني، وهو في «درب الفقراء»، للمغربي محمد ركاب، فاعل خير يقود الحي الذي يسكن فيه إلى الوعي وسط الأوضاع المعيشية السيئة. ليلة انتخاب نيكسون من شخصية الحلاَّق المنفردة، ننتقل إلى حضورها المتعدد، كما هو الحال في فلم «شامبو». فللوهلة الأولى يبدو هذا الفلم عاطفياً، كوميدياً وطريفاً، غيرأن نظرة ثانية إلى هذا الفلم تعطيه طابعاً سوسيولوجيا – بل حتى سياسياً- شديد الأهمية. ذلك أن تاريخ الليلة التي تدور فيها أحداث هذا الفلم ليس بريئاً: إنها الليلة السابقة لانتخاب ريتشارد نيكسون رئيساً للولايات المتحدة. أما عرض الفلم فكان إثر اندلاع فضيحة ووترغيت. وهذا ما جعل صالون الحلاقة الذي تدور فيه أحداث الفلم أشبه بمحكمة شعبية تحاكم الأمريكيين على انتخابهم ذلك الرئيس الذي سيوقع الضمير الأمريكي في أزمة. طبعاً كان يمكن لمكان الأحداث أن يكون نادياً ليلياً أو حانة، أو أي شيء آخر، لكن المخرج (والكاتب) جعلاه محل حلاقة لاعتبارات عديدة لعل أهمها أن مثل هذا المكان يقدِّم التوزع الطبقي بشكل أفضل ويضم أنماطاً من الناس قد لا تتلاقى في أي مكان آخر. ناهيك عن أن الفلم استُلهم من سيرة أحد أشهر الحلاَّقين الأمريكيين هو جورج راوندي، وأن المنتج السينمائي جون بيترز كان هو الآخر حلاقاً قبل أن يخوض الإنتاج. دراما نسائية وحضر محل الحلاقة كذلك في فلمين آخرين لا يمكننا أن نختم هذا الكلام من دون التوقف عندهما. بل إن كثراً رأوا أن ثانيهما اللبناني «سكر بنات» لنادين لبكي، استُوحي من الأول وهو «صالون فينوس للتجميل» لطوني مارشال. إن أهم ما يميز هذين الفلمين هو أن الحلاقة فيهما «نسائية» كما أن المخرجتين امرأتان. لدينا هنا صورة مصغرة لمجتمع كبير، صورة لا تخلو من أعذب لحظات الاحتفال بالحياة، على رغم الدراما الشخصية التي تطالعنا هنا وهناك. ومن هنا استخدمت المخرجتان الصالون وفتياته وحتى زبوناته، للحديث عن آمال محبطة، وواقع اجتماعي لا يعرف كثيراً كيف يبتسم، كلاً منها حرصت على أن تجعل الفلم أشبه بعملية التجميل نفسها، التي تمارس داخل الصالون: قناعاً حقيقياً لإعطاء الفرصة لمشاهدة الجمال والسعادة ولو للحظات عابرة. في الإمكان، طبعاً، العثور على أفلام كثيرة أخرى ترسم صورة للحلاَّق وعالمه، وفي معظم الأحيان على خطى ما كان رسمه روسيني في «حلاَّق إشبيليا»، أو كما في ألف ليلة وليلة من خلال «حلاَّق بغداد» وما إلى ذلك. غير أن النماذج كلها، مهما كان عددها، ستبقى في النهاية محصورة في هذه الصور التي قدمناها، مستقاة من حفنة من الأفلام يخيَّل إلينا أنها الأكثر والأشمل تمثيلاً لعالم الحلاَّق. ولا شك في أن الكثيرين منا راحوا يتساءلون وهم جالسون على كرسيِّه واضعين رأسهم أو ذقنهم بين يديه وهو يعمل بنشاط وود ويثرثر إلى ما لا نهاية: ترى، بماذا يفكر هذا الإنسان في هذه اللحظة؟ موسيقى للحلاَّقين وموسيقى عنهم إذا كان الحلاَّق المعاصر يمضي وقت فراغه وهو يقلِّب بآلة الريموت برامج التلفزيون، فقد كان في الماضي يعبئ وقت الفراغ نفسه بالعزف على العود. وكان مستوى العزف متفاوتاً جداً بين حلاَّق وآخر بالطبع. ومما كان يزيد هذا التفاوت هو أن كل حلاّق كان يشعر أن عليه اقتناء عود، لضمه إلى عدة الشغل، وإلا هبط إلى منزلة متأخرة بين زملائه. ولذا كان الحلاَّقون جميعهم تقريباً يقتنون الأعواد، أجادوا العزف أم لم يجيدوا. لكن هذه الدرجة، المضحكة بعض الشيء عندنا اليوم، لم تكن كذلك في أمريكا، في العقود المتوسطة من القرن العشرين. إذ وضع المؤرخ الأمريكي لين أبوت في سنة 1992م، كتاباً يؤرخ لما بات معروفاً باسم: «موسيقى محل الحلاقة» (Barbershop Music)، قال فيه إن موسيقى الحلاَّقين التي ازدهرت، قبيل منتصف القرن العشرين, ضمَّت بين أعظم موسيقييها جيلي رول مورتون ولويس أرمسترونغ. وأثبت بالمستندات أن هذا النمط من الموسيقى نشأ في مجتمع الأفارقة الأمريكيين. وقد ازدهر هذا النمط، حتى أن «ديزني وورلد» شكَّلت فرقة موسيقية سميت: «رباعي موسيقى الحلاَّقين». ويرتدي العازفون في فرق موسيقى الحلاَّقين ثياباً ملوَّنة مزركشة، ويضعون على رؤوسهم قبعات القش، ويعزفون ويغنون أغنيات خفيفة سهلة الفهم سلسة التذوق. وهي أساساً موسيقى تسلية وترفيه، ويصاحب العزف فيها عرض بصري، من حركات وأشكال وألوان، لا بد وأن يكون مكملاً للموسيقى، وأن يكون جذَّاباً. واشتهر من فرق موسيقى الحلاَّقين، فرقة رباعية في مدينة بيكوا، بولاية أوهايو الأمريكية، وقد ألفها رباعي موسيقي، هم الإخوة ميلز، من أبناء حلاَّق كان صاحب محل فعلاً هناك. ومن الفرق التي اشتهرت أيضاً، فرقة «هامنغ فور» في نيو أورلينز، ونجوم الجنوب «ساذرن ستارز»، والبوابة الذهبية «غولدن غيت»، ورباعي اليوبيل «جوبيلي كوورتيت». حلاَّق إشبيلية الأشهر في التاريخ مهنة الحلاقة، وشخصيات الحلاَّقين تسرَّبت منذ قرون إلى الأدب، ومنه إلى الموسيقى. ففي القرن الثامن عشر، وضع المؤلِّف المسرحي الفرنسي الشهير بومارشيه (1732-1799م)، ثلاث مسرحيات عن شخصية فيجارو، حلاَّق من مدينة إشبيلية الإسبانية الأندلسية، حوَّل الموسيقار النمسوي الأشهر موزار واحدة منها إلى أوبرا بعنوان «زواج فيجارو». غير أن الأوبرا التي لحنها بعد ذلك الموسيقار الإيطالي الشهير روسيني كانت بعنوان «حلاَّق إشبيلية». وتٌعدر أوبرا حلاَّق إشبيلية أشهر أوبرات الموسيقار الإيطالي روسيني، لا تضاهيها في شهرتها سوى أوبراه الثانية «وليام تل». غير أن «حلاّق إشبيلية» تُعد الأشهر بين الأوبرات الإيطالية الكوميدية. وفيجارو في الأوبرا التي أعدها سيزار ستربيني عن مسرحية بومارشيه، هو الشخصية الثالثة في المسرحية، يمارس من خلال مهنته كحلاَّق دور الوسيط بين شخصية العاشق الكونت «المافيفا» ومعشوقته «روزينا»، التي كانت بارعة الجمال. ومع أن مسرحية بومارشيه الأصلية ظهرت على المسرح للمرة الأولى ليلة 23/2/1775م، فإن ظهورها الأول على المسرح كأوبرا موسيقية كوميدية، تأخر حتى بدايات القرن التاسع عشر (20/2/1816م). وثمة ثلاثة عناصر فنية مهةا لازمت هذه الأوبرا الأشهر لروسيني: ليلة العرض الأولى لأوبرا «حلاَّق إشبيلية» كانت فشلاً ذريعاً، لتراكم أسباب عديدة منها حدوث أخطاء تقنية فاضحة على المسرح، وامتلاء القاعة في تلك الليلة بنفر كبير من أعداء روسيني الفنيين، الذين كانوا يتربصون بالأخطاء لإطلاق أصوات الاستهجان. غير أن المشاهد الفنية الساخرة في الأوبرا، وعبقرية روسيني الموسيقية التي تجلَّت فيها أكثر من أي عمل آخر له، جعل النجاح الجماهيري الكاسح حليفاً لها منذ الليلة الثانية للعرض، وحتى يومنا هذا. ومع أن أشهر ألحان هذه الأوبرا هي افتتاحيتها الموسيقية الرائعة، الذائعة الصيت عالمياً بمزاجها المرح الساخر، فهذه الافتتاحية كانت سابقاً مقدمة موسيقية لأوبرا قديمة من أعمال روسيني، لم تكتب لها الشهرة، فعمد إلى استعادة مقدمتها الموسيقية في أوبرا «حلاَّق إشبيلة». أما العنصر الفني الثالث الذي تميَّزت به هذه الأوبرا الشهيرة، فهو أنها في البداية لم تكن تحمل العنوان الذي اشتهرت به تاريخياً، حتى يومنا هذا، بل كان عنوانها مستعاراً من اسم الشخصية الرئيسة فيها: الكونت المافيفا (Almaviva). غير أن النجاح الجماهيري للشخصية الثالثة في المسرحية، شخصية الحلاَّق فيجارو، دفعت روسيني على ما يبدو إلى اختيار اسمه عنواناً جديداً للأوبرا، فاشتهرت منذ ذلك اليوم باسم «حلاَّق إشبيلية»، الذي أصبح بفضل هذه الأوبرا، أشهر حلاَّق في تاريخ الأدب والموسيقي. لماذا أحب هذه المهنة؟ أولاً : أنا سيِّد نفسي وعلاقتي محصورة بالزبائن. ثانياً :
من بين مئات الزبائن لا بد وأن يصبح بعضهم من أصدقائي. ثالثاً : الجو في المحل يتسم دائماً بالحديث اللطيف والودي. رابعاً :
مع تقلبات الموضة بسرعة، يمكنني أن أظهر براعتي. فالحلاقة صارت فناً. خامساً :
الفلوس تدخل جيبي يومياً، وكل ساعة، ولست بحاجة إلى انتظار راتب شهري. حلاَّق