حتى سنوات قليلة خلت، كان الحديث عن التنوع الحيوي يعطي انطباعاً عاماً يقتصر في معظم الأحيان على أنه مرادف لجمال الطبيعة وغناها. ولكن تقدم الدراسات العلمية الدقيقة في علاقات الأنواع الحية ببعضها، بات يضع جمال الطبيعة في آخر الاعتبارات، بعدما وصل إلى التأكيد على أن هذا التنوع شرط من شروط بقاء الإنسانية. بسام الحلبي يعرض آخر ما توصلت إليه الأبحاث في هذا المجال، وأهمية إنقاذ الأنواع الحية المهددة بالزوال.
خلال شهر سبتمبر الماضي، أصدرت المجلة العلمية سيانتيفيك أميريكان عدداً خاصاً بالتحديات الستة التي تواجه الإنسانية اليوم. وقد خصت المجلة المعروفة برصانتها ودقتها قضية انقراض بعض الأنواع الحية بعنوان مستقل ضمن هذه القضايا الست، التي تضمنت: الانفجار السكاني، حلول لأزمة الطاقة، الوجه الجديد للأمراض، الماء، وإنهاء الفقر.
أهمية التنوع
قد لا يكون من الضروري أن نتوسع في تفاصيل الدور الذي يلعبه تنوع الكائنات الحية في بيئة محددة في إبقاء هذه البيئة على ما هي عليه. فالدراسات كثيرة ومنها ما يتناول مناطق بيئية محددة جداً بدءاً بأمريكا الجنوبية وانتهاءً بالشرق الأوسط أو الأقصى. وخلاصتها كلها أن انقراض نوع واحد من الأنواع الحية في هذه المنطقة يؤدي إلى زعزعتها بزمتها وإلقائها على حافة المجهول. ولأن هناك صلة وثيقة ما بين بيئة أية منطقة في العالم وبيئات المناطق المجاورة، يمكن لأي تغير سلبي في أي مكان في العالم أن يقود إلى سلسلة من التفاعلات السلبية التي لا يمكن إدراك مداها وحجمها.
ولو بسّطنا الأمور ومثّلنا الأرنب البري في الغابة لتوضحت الصورة. فالأرانب البرية تعيش في بعض الغابات وهي معروفة بأنها تتكاثر بسرعة، وتتغذى على النباتات الصغيرة وجذورها. ولكن وجود هذه الأرانب يبقى طبيعياً في حالة واحدة فقط، ألا وهي وجود حيوانات مفترسة في الجوار مثل الذئاب، الضباع، والثعالب التي تتغذى عليها. ومن دون هذه الحيوانات المفترسة تتكاثر الأرانب فتهدد الغطاء النباتي ومن ثم تقضي عليه متسببة بأسوأ التأثيرات على حياة الحشرات ومن ثم الطيور في الغابة نفسها.
إلى ذلك، هناك مثل أكثر تعقيداً ولكنه يبقى واضحاً. لقد قامت بعض الدول في الماضي بزرع غابات من نوع واحد من الأشجار، مثل أمريكا التي لجأت إلى زرع نوع من الشربين الباسق في جبال مونتانا على مساحات شاسعة لغرض الاستفادة لاحقاً من الأخشاب، أو تعويضاً عن استثمار أخشاب الغابات الطبيعية. وفي سورية مثلاً، تم زرع غابات من الصنوبر ضمن حملات التحريج في البلاد. فماذا كانت النتيجة؟
بقيت هذه الغابات فقيرة بالحياة الحيوانية، ولم تستوطنها إلا أنواع محدودة يمكنها أن تكتفي بهذا النوع المحدد من النبات كغذاء. ولأن التوازن الحيوي مفقود في هذه البيئات، فقد تفشت فيها الحشرات المسببة لأمراض الشجر ويباسها، لأن العدو الطبيعي لهذه الحشرات غير موجود. وأيضاً، تسجل في هذه الغابات نسبة حرائق أعلى بكثير من غيرها. لأن شجر النوع الواحد، تتساقط أوراقه كلها في الموسم نفسه، فتكسو أرض الغابة بطبقة سريعة الاشتعال عند أي عبث إنساني أو صاعقة. أما تنوع الأشجار في الغابة الواحدة فهو أفضل ضمانة ضد انتشار الحرائق. لأن فترة تساقط أوراق شجرة معينة تختلف عن فترة تساقط أوراق الشجرة المجاورة. وإذا اندلع حريق بجوار شجرة جافة، فإن رطوبة واخضرار الشجرة المجاورة يشكلان عائقاً أمام انتشار النيران. فعلى مدى ملايين السنين، كانت الغابات والمناطق البيئية المختلفة تتطور محققة أفضل أشكال التوازن ما بين الكائنات الحية التي تضمها. ولكن الإنسان بدأ يزعزع هذا التوازن أينما كان في العالم. وتسبب، وغالباً عن غير عمد، في انقراض بعض الأنواع مهدداً بذلك عدداً أكبر، واضعاً نوعية الحياة برمتها على حافة المجهول.
تسارع وتيرة الانقراض
في المجلة المتخصصة الوضيحي التي تصدرها الهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية في المملكة العربية السعودية، هناك باب ثابت مخصص لنوع حي تم اكتشافه ولنوع آخر تأكد انقراضه. وإذا كان استمرار اكتشاف الأنواع الحية الجديدة أمراً طبيعياً طالما أن آلاف أنواع النباتات، ومئات آلاف أنواع الحشرات لا تزال غير مكتشفة أو غير مصنفة علمياً، فإن توافر مادة لزاوية ثابتة في مجلة دورية حول أنواع انقرضت هو بحد ذاته جرس إنذار خطير، محيّر ومحزن. وواقع الأمر في العالم يؤكد ذلك.
الانقراض الطبيعي وغير الطبيعي
للدلالة على خطورة الوضع الحالي على صعيد التنوع الحيوي، ننطلق من الإشارة إلى أن انقراض الأنواع الحية كان ولا يزال ظاهرة طبيعية في الأساس، وهو جزء طبيعي من دورة الحياة على وجه الأرض، إذا كانت أسبابه طبيعية، لأن الأسباب نفسها تساعد على نشوء أنواع جديدة. (باستثناء ربما انقراض الديناصورات وما شابهه). ولفهم إيقاع نشوء وانقراض الأنواع الحية يمكننا أن نأخذ الإنسان مثلاً. فلو افترضنا أن معدل عمر كل إنسان 75 سنة، ففي عينة من 75 شخصاً نتوقع وفاة شخص كل سنة. بتطبيق هذا الإيقاع على عالم الطيور وأنواعه، فمن أصل 10000 نوع، يجب أن نتوقع انقراض نوع واحد كل قرن من الزمن. أما الإيقاع الحالي الذي تُجمع عليه كل المصادر، فهو مئة مرة أسرع من ذلك! بعبارة أخرى، لقد دخل الانقراض عصر اللا طبيعي .
وفي البحث عن أسباب الانقراض غير الطبيعي نجد أنها كلها تعود بشكل أو بآخر إلى سلوك الإنسان: الصيد الجائر، تدمير المواطن الطبيعية للبناء أو الزراعة، نقل الأنواع من مكان إلى آخر (مثل الجرذان)، إضافة إلى الاحتباس الحراري الذي قد يعادل في خطورته تدمير المواطن الطبيعية.
خريطة التنوع و بقاعه الساخنة
من المرجح أن نصف الأنواع الحية من حيوان ونبات يعيش في 25 منطقة مدارية، وغالباً في الغابات الموجودة في هذه المناطق. ولأن الإنسان قضى على 70 في المئة من النباتات الحرجية في هذه المناطق خلال القرن العشرين، فإن تزاوج عاملي كثافة الأنواع الحية وتسارع تدمير المواطن الطبيعية هو الأساس الذي اعتمده العالم نورمان مايرز في جامعة ديوك لتحديد البقاع الساخنة في العالم.
فإضافة إلى الغابات المدارية الثلاث: الأمازون في أمريكا الجنوبية، وحوض الكونغو، وبورنيو الإندونيسية، حيث لا يزال التنوع الحيوي في مأمن نسبي، فإن غابات مطرية مدارية عدة تعرضت للتدمير حتى حدود الخطر: شمال شرق شبه القارة الهندية، القسم الأكبر من مدغشقر، نحو نصف غابات أمريكا الوسطى، غرب إفريقيا، والغابات الأطلسية في البرازيل.
أما لائحة البقاع الساخنة التي خسرت أكثر من 70 في المئة من غطائها النباتي والتي تضم أكثر بقليل من نصف الأنواع الحية (أي دخلت مرحلة الخطر) فيبلغ عددها 25 منطقة كما أشرنا، وأهمها: جنوب غرب أستراليا، جنوب وسط الصين، نيوزيلندة، القوقاز، جبال لبنان وسورية الساحلية حتى كل غرب تركيا، المناطق الأوروبية المتوسطية، وكل سواحل المتوسط تقريباً خاصة الجزائر والمغرب، كاب فلوريستيك في جنوب إفريقيا، السيرادو في البرازيل، جبال الأنديس ووسط التشيلي والمنطقة الساحلية من كاليفورنيا. وتخلص دراسة العالم مايرز إلى التشديد على أن وقف تدهور الغطاء النباتي في هذه البقاع الساخنة يمكنه وحده أن ينقذ نصف الأنواع الحية في العالم.
غطاء النبات في العالم
وفي جهد مماثل، وضع علماء ألمان من جامعة بون مؤخراً أول أطلس نباتي في العالم، استناداً إلى 1800 مطبوعة تم جمعها على مدى سنتين. ويبين الأطلس كثافة التنوع النباتي في العالم بأسره، ليشكل دليلاً مساعداً على وضع سياسات الحماية والإنقاذ الضرورية. ويشير الأطلس بداية إلى أنه اعتمد على 250,000 نوع من النباتات المصنفة في العالم (في حين أن العدد الحقيقي كما يقدره البعض هو ما بين 300,000 و 350,000 نوع) باستثناء الطحالب والفطريات. ويبين الأطلس أن ذروة التنوع النباتي هو في جزيرة بورينو الإندونيسية (أكثر من عشرة آلاف). وتنخفض هذه النسبة إلى نحو ثمانية آلاف نوع في غابات أمريكا الوسطى وحوض الأمازون. ويعتبر الأطلس المناطق غنية عندما يزيد عدد الأنواع النباتية فيها على الثلاثة آلاف من دون اعتبار للكم. ومن هذه المناطق إضافة إلى ما عددناه سابقاً: كل جنوب شرق آسيا، نيوزيلندة وشمال شرق أستراليا، كل إفريقيا الوسطى وسواحل سيراليون وليبيريا، بلاد البلقان، الساحل الشرقي للمتوسط (سورية، لبنان، فلسطين)، جبال الألب في أوروبا، حوض الميسيسيبي والمكسيك في أمريكا. أما أقل المناطق تنوعاً في العالم (نحو 500 نوع فقط) فهي، وسط جنوب أستراليا، هضبة الهملايا وصحراء مونغوليا، تخوم جبال عسير في السعودية وشرق اليمن وبعض مناطق الصحراء الكبرى في إفريقيا. (أما الجزيرة العربية بشكل عام فيتراوح عدد أنواعها النباتية ما بين 500 و 1000 نوع).
أين يكثر انقراض الأنواع؟
بخلاف ما هو شائع في أذهان الكثيرين الذين يعتقدون بأن أكثر المناطق نمواً حضارياً هي التي تشهد أكبر عدد من انقراض الأنواع، أو أن الغابات المطرية التي تضم الآلاف والملايين هي المعنية بهذا الخطر أكثر من غيرها، فإن الحقيقة تدعمها الإحصاءات تؤكد أن هاتين البيئتين هما الأقل تضرراً حتى الآن والأقل ضرراً على التعدد الحيوي.
فالكائنات الحساسة تعيش في تجمعات وسط بيئات ملائمة لها. ولو أخذنا المحيطات على سبيل المثال، لوجدنا أن العلماء وإن كانوا يجهلون الكثير عن أنواع الحياة فيها، فهم متأكدون أن العدد الأكبر من الأنواع موجود في المناطق المرجانية.. أي في المناطق القريبة من النشاط الإنساني. فكلما كبر النشاط الإنساني بجوار نظام بيئي متعدد الأنواع، كلما كبرت لائحة الكائنات المهددة بالانقراض. وعلى سبيل المثال، فإن النشاط العمراني والصناعي في مصر لا يشكل تهديداً بارزاً للأنواع النباتية والحيوانية فيها، وذلك لقلة كثافتها.
أما النشاط العمراني والصناعي في حوض المتوسط وخاصة سواحله الشرقية والشمالية، فيهدد بانقراض عدد من الأنواع أكبر بكثير مما تسبب به التدمير الجزئي للغابات المطرية في شرق آسيا. والدليل على ذلك اختفاء الكثير من الثدييات الكبيرة مثل النمر والفهد والدب من شرقي المتوسط خلال القرن العشرين، في حين أن عدد الثدييات الكبيرة التي انقرضت تماماً في شرق آسيا خلال الفترة نفسها هو أقل من ذلك.
همٌّ جديد في السياسة العالمية
بدءاً من السنوات القليلة الماضية، شقّت قضية إنقاذ التنوع الحيوي طريقها لتحتل مكاناً رئيساً بين اهتمامات العالم على الصعيد البيئي. ومن المرجح جداً أن تتجاوز قريباً كل تفاصيل الشؤون البيئية لتصبح مباشرة وبوضوح قضية نوعية حياتنا على الأرض. فقد ولّى زمن الدفاع عن الفيلة من باب الرفق بالحيوان، وحلّ عصر الدفاع عن أصغر الكائنات والحشرات لارتباط مستوى حياتنا ونوعيتها بوجود هذه الكائنات والحشرات. وإذا كان الاحتباس الحراري من المواضيع الرئيسة على جداول أعمال قمم زعماء العالم، فإن التنوع الحيوي يشق طريقه بسرعة، وقد يتجاوزه قريباً جداً. والقضية ليست سهلة أبداً.
فالمشكلة التي تعيق التعامل مع وجوب الحفاظ على الأنواع تكمن في أنه يستدعي إيجاد حلول لسلسلة طويلة جداً من القضايا الجانبية، وما الاحتباس الحراري إلا واحد منها. فالدول النامية والفقيرة ترى أن من حقها عمل كل شيء للنمو الاقتصادي. وتتطلع إلى الغابة على أنها مصدر أخشاب صالحة للبيع، ولا أحد يستطيع أن ينكر عليها ذلك. ولا أحد يستطيع وقف العمران والبناء أو إنكار حق شعب ما في ذلك. ولكن، وبالمقابل، يضرب العلماء مثلاً صارخاً في تحديه لمنهج العمل القائم حالياً. فيقولون إنه تم حتى الآن تدمير 7 ملايين كيلومتر مربع من الغابات المطرية في العالم، أي حوالي نصف مساحتها الأصلية، ولكن مساحة مليوني كيلومتر مربع فقط تحولت إلى الإنتاج الزراعي.
وفيما يشدد هؤلاء على أهمية نشر الوعي في محيطات تجمعات الأنواع الحية إلى أهمية هذا التنوع – وفي هذا المجال يجب البدء من الصفر في كثير من دول العالم – فإن الدول الصناعية والغنية تجد نفسها أمام خيارين: إما ترك الأمور تجري بما هي عليه حالياً، مكتفية بتوجيه النصح والإرشاد غير القابل للتطبيق، وإما التورط سياسياً واقتصادياً مع بقية دول العالم في سبيل إنقاذ التنوع الحيوي مع كل ما يفرضه ذلك من إعلان مناطق حماية، وتعويضات اقتصادية عن المشروعات التدميرية التي يتم إلغاؤها مثل بناء السدود وتجفيف المستنقعات، وقطع الغابات وما إلى ذلك. خاصة وأن التجارب الفعلية أثبتت أن إنقاذ نوع واحد مهدد بالانقراض يتطلب إمكانات مادية، مهما كانت ضئيلة فإنها تبقى أكبر من قدرات الدول الفقيرة والمجتمعات المحلية. بدليل أن الأمثلة الناجحة في هذا المجال تأتي فقط من دول تمكنت من رصد الموازنات الكبيرة في هذا المجال مثل المملكة العربية السعودية (الوضيحي والمها والنمر العربي) أو من دول وجدت حلفاء أغنياء وجمعيات أجنبية لإنقاذ حيواناتها المهددة بالانقراض (مثل جمعية الأمير تشارلز في بريطانيا لإنقاذ الباندا في الصين).
وبانتظار حصول هذا الاستنهاض العالمي المشترك، سيبقى التنوع الحيوي في خطر داهم. والمهم أن يحصل هذا الاستنهاض فعلاً ونحن لا نزال نملك من الأنواع ما يكفي للحفاظ عليها.. وعلى حياتنا أيضاً.
اقرأ للبيئة
التربية البيئية .. للجميع
يتميز كتاب (الإنسان والبيئة-دراسة في التربية البيئية) بأنه لايخاطب قطاعاً معيناً من الناس أو الاختصاصيين فقط، بل يستهدف قطاعات المجتمع كافة، وإن كان طلبة الجامعات هم المعنيون به أكثر من غيرهم.
يقع هذا الكتاب الصادر عام 2004م عن دار الحامد للنشر والتوزيع في عمّان في 264 صفحة، ويتضمن ثلاثة أبواب هي: إيضاح مفهوم البيئة وقوانينها، والمشكلات البيئية الرئيسة، وأخيراً وسائل حماية البيئة التي يمثل العلم والتربية مكاناً بارزاً فيها.
يشار إلى أن المؤلف الدكتور راتب السعود كان قد نال جائزة منظمة العواصم والمدن الإسلامية في مجال التأليف والتحقيق والترجمة-البيئة لعام 1421هـ – 2001م. وقد اعتمد المؤلف تبسيط لغته وأسلوبه لإيصال موضوع كتابه إلى الجميع.