في أمةٍ أميةٍ لم تكن تتقن الكتابة، كان الشعر والأدب متألقاً، وكانت سوق الكلمة أكبر الأسواق، ولم تكن أمية الحرف لتقف عائقاً دون انتشار الدين الجديد وتزاوج اللغة مع المفاهيم الجديدة وآفاقها المتسعة. غير أن اللغة مرت بأدوار وأطوار وتأثرت بعوامل عديدة كان من أهمها اختلاط العرب بالأعاجم وتداخل العلوم واللغات الأخرى مع العربية حتى لم تعد الفطرة هي الفيصل، ولم يكن هناك مناص من تقنين اللغة وتقعيدها للحفاظ على سلامتها وديمومتها.
لم تكن القواعد والأطر كفيلة بإيقاف تآكل اللغة على ألسنة بعض أبنائها، فالاختلاط بالشعوب من جهة، ووجود لهجات مختلفة بين القبائل العربية أصلا، أنتج لهجات عديدة متباينة، لا يكاد يفهم أبناء بعضها أبناء البعض الآخر.
ونشأت عقدة تعلم اللغة العربية وقواعدها قبل عقود، فظهرت دعوات مشبوهة تدعو إلى الاستعاضة عن اللغة العربية الفصحى باللهجات المحلية، كما ظهرت دعاوى بعجز العربية عن مواكبة ركب العلم واستيعاب مستجدات العصر. لكن رغم هذه المعارك المحتدمة، لم تكن قاطرة الفكر والنتاج الأدبي تقف عند حدودها أو تستسلم لها، إذ كانت مدارس الفكر والأدب تمارس دورها الطبيعي وتقدم عن طريق دور النشر الناشئة في طبعات أنيقة أو شعبية نتاجها الفكري والأدبي الذي وصل بعضه إلى العالمية، ونال بعض منه جائزة نوبل. ثم تكر الأيام، وتتطور اللغة العربية كتابياً وشفاهياً في اتجاه يحترم العودة إلى قواعدها. وتثبت لغتنا قدرتها على مواكبة المتغيرات رغم طغيان سلطان الإعلام وهبوط بعض المنتمين إليه عن المستوى المطلوب.
وقد أنتج عالم الفضائيات والإنترنت والبرامج الكرتونية المدبلجة إلى العربية، جيلاً بل أجيالاً تدهشك بحصيلتها اللغوية حتى مع عجز بعضهم عن أدائها كتابة، ولربما استمعت إلى أطفال يقلدون ما يتلقونه من الفضائيات ويتكلمون الفصحى بلغة طفولية بريئة لا ينقصها الجمال، وكأنهم بذلك يجسدون الأمية القديمة بشكل من الأشكال.
كان كل ذلك حاضراً في ذهن صاحبي عندما عقد مقارنته بين نتاج مطابع الأمس واليوم، فهو يصور نتاج الأمس بعمق الفكرة والجاذبية وروعة الأداء، رغم ما يعتور النتاج من أدواء، كاستخدام بعض المفردات العامية، أو كثرة الأخطاء الطباعية، وانتشار قوائم الخطأ والصواب المطولة آخر كل كتاب، في حين تجد نتاج اليوم وخصوصاً مع توظيف الكمبيوتر والمدققات الآلية، والاستعانة بالمدققين اللغويين وصائغي الفكرة، في قوالب لغوية جميلة رغم ما في بعضها من خواء فكري.
هذه الظاهرة المشار إليها، قد لا تكون كل الحقيقة، وإن طغت لتبدو كذلك، إلا أنها تقرع الجرس للتنبه بغية النهوض بالقالب والفكرة معاً، ومنها أن تقلص أمية الحرف لا يعني بالضرورة تقلص أمية الفكر، وبقدر ما يجب أن نحرص على تقليص الأولى، يجب أيضاً بذل الوسع بشكل مضاعف لتقليص الثانية والحيلولة دون تكريسها.
لقد انتشرت ظاهرة المجاملات من جهة، والعصبوية والشللية من جهة أخرى بين بعض المثقفين، حتى لم يعد من أديب إلا أديبهم، ولا شاعر ولا مفكر إلا منهم، ولو نهض لهم امرئ القيس أو أبو حيان من قبره لأعادوه إليه داعين إياه أن ينعم بالهدوء على تراتيلهم الجنائزية فوق جدثه. ومثل هذا الداء ما ينتج الطنطنة لبعض أشكال الخواء حتى لتبدو وكأنها فريدة الزمان ووحيدة الأوان، ولينكمش الفكر الناضج دون أن يجد من يروج له، وليؤدي دوره.
حتى إذا دخلت علينا العولمة في عقر صدورنا، واحتلت كل ما ضعف فينا، أنتجت شريحة ممن يستهويها الامتطاء المتبادل، فبذريعة أن العلم يبدأ بسؤال يسوّق للشبهات والتشكيكات، وتحت شعار تشجيع المواهب، تتلقف بعض دور النشر ما ثقل ورقُه وخفَّ محتواه، ولكلٍ هدفٌ ومصلحة.
قد يقول قائل إن عصر هيمنة القامات الكبيرة والانتشار العمودي للمعرفة قد مضى، وآن الأوان للانتشار الأفقي، فليست المعرفة حكراً على أحد، ومن حق الجميع أن يقول ويكتب وينشر، وليس في هذا القول على عمومه ما يُحتج عليه، فرحلة البحث عن المطلق يجب ألاَّ تتوقف، غير أن الانطلاق دونما هدى ودليل، وبدون قيد أو شرط قد يعيدنا إلى نقطة الصفر، لنبقى في دوران دائب حول الذات.