يومياً، تطالعنا توقعات بتحولات ما ستطرأ على جزئية ما من عالمنا خلال السنوات المقبلة. ولكن الباحث أولريش إيبيرل، الذي يُعد من كبار العلماء في مجال أبحاث المستقبل في ألمانيا، وضع نصب عينيه تاريخاً محدداً: منتصف القرن، العام 2050م، وما سيؤول إليه العالم بقضاياه الكبرى آنذاك، وجمع توقعاته في كتاب بعنوان: «المستقبل 2050». فما أبرز ما جاء فيه؟
لا يعتمد هذا الكتاب على تنبؤات المنجمين، ولا على أفلام الخيال العلمي، لكي يكشف لنا ما ستشهده البشرية بعد أقل من أربعة عقود. هو ليس كتاباً سطحياً للتسلية، ولكنه في الوقت نفسه ليس كتاباً مملوءاً بالمصطلحات العلمية المعقَّدة بحيث لا يفهمه إلا المتخصصون. إنه كتاب موجَّه في المقام الأول إلى الشباب، من طلاب المدارس والجامعات، الذين سيعيشون في هذه الفترة، لكي يعرفوا ما ينتظرهم، ويستعدوا للغد.
ليس الشباب وحدهم من يحتاج إلى معرفة مضمون ما في هذا الكتاب، بل هو موجَّه أيضاً إلى المعلمين والباحثين والمديرين وأصحاب الشركات، والسياسيين، وغيرهم من القرَّاء المهتمين بالمستقبل، خاصة إذا عرفنا أن المؤلف إيبيرل، الحاصل على الدكتوراة في الفيزياء والكيمياء والأحياء وتقنيات الجينات عام 1992م، هو من كبار العلماء، ويعمل حالياً في شركة سيمنز العملاقة، وعمل قبل ذلك في شركة دايملر، كما أنه رئيس تحرير مجلة «صور المستقبل»، التي حصلت على كثير من الجوائز العلمية.
يتكون هذا الكتاب من سبعة عشر فصلاً، توضح آلية استقراء التطورات المستقبلية، والتحديات الكبرى التي تواجه البشرية، والحلول المقترحة لاجتياز هذه التحديات، من توفير مصادر للطاقة المستدامة، إلى حماية البيئة، والتطورات التقنية في مجال الإنسان الآلي، والإنجازات الطبية المتوقعة.
صناعة المستقبل ذي الأرقام الكبيرة
واحد من أهم الأقوال التي وردت في الكتاب، هو ما ورد على لسان العالم الأمريكي آلان كاي، الذي قال: «أفضل الطرق لاستشراف المستقبل، هو أن تخترعه بنفسك». وهي دعوة لأن يشارك الإنسان في صناعة المستقبل، وترك السلبية القائمة على انتظار ما ستأتي به الأيام، ثم ننظر كيف نتعامل معها، وهذا هو الفرق بين العالم الأول، الذي يصنع المستقبل، والعالم الثالث، الذي يكتفي بالخوف منه، أو يقنع بأن يعيش يومه فحسب.
في عام 2050م سيصل إجمالي عدد سكان الكرة الأرضية إلى حوالي 9,5 مليار نسمة، منهم 6 مليارات نسمة يسكنون في المدن وحدها. فهل استعدت المدن لهذا الزحف؟ ومن أين للكرة الأرضية بالطعام الذي يحتاجه هؤلاء؟ وكيف يمكن تغطية احتياجاتهم من الطاقة؟ وإلى أين ستذهب المخلفات والقمامة التي سيتسبب فيها كل هؤلاء؟ الحل هو تطوير آليات إعادة التدوير، للاستفادة من هذه المخلفات، بدلاً من إنتاج مواد جديدة.
وعندما تتطور المعدات الطبية، ويصبح من الممكن اكتشاف خلايا السرطان في بداية تكونها، وقبل انتشارها، والتوصل إلى تشخيص أي قصور في أي عضو في الجسم، من خلال كاميرات دقيقة متناهية الصغر، تسبح في جسم الإنسان، وتتمكن في الوقت نفسه صناعة الدواء من إنتاج عقاقير متطورة، فليس من المستبعد في ظل هذه الأوضاع أن يرتفع متوسط أعمار الأشخاص، وستكون نسبة الأشخاص الذين يبلغون المائة سنة عندئذ، هي نفس نسبة الأشخاص الذين يبلغون السبعين حالياً.
لا يمكن تجاهل هذه الملايين أو المليارات من كبار السن، بل لا بد من تجهيز الطرق والمباني والمطارات والفنادق والأندية الرياضية لهم. لذلك، من المتوقع أن تكون هناك سيارات مزودة بكاميرات ومعدات متطورة ذكية، تساعد هؤلاء الأشخاص على القيادة، فتراعي السرعة المسموح بها، وحركة السيارات حولها، والمساحة المتوافرة لركن السيارة في أماكن الانتظار، لأنه من غير الممكن أن توفر لكل هؤلاء الأشخاص من كبار السن من يرافقهم طوال الوقت.
الإنسان الآلي القادر على خدمة كبار السن، لم يعد خيالاً علمياً، بل تحقق بالفعل. فهو يتلقى الأوامر، ويلبيها، ويحضر المشروبات والأطعمة. وكما تخزن ذاكرة الكمبيوتر آخر المواقع التي زرتها في الإنترنت، يلاحظ الإنسان الآلي المشروب المفضل لكل شخص، وغير ذلك من المعلومات التي تجعله مساعداً جيداً في كثير من المجالات.
أبحاث آلية المستقبل
يقول المؤلف إن شركة سيمنز التي يعمل فيها، بدأت قبل خمسة عشر عاماً في رسم صور المستقبل، وذلك من خلال التوفيق بين عنصرين يسيران في اتجاهين متضادين، الأول هو ما يعرف بالاستقراء الخارجي (Extrapolation)، والثاني هو ما يعرف باسم السيناريو المستقبلي، أو نظرة إلى الوراء من المستقبل.
ويوضح أن الاستقراء الخارجي هو عبارة عن توقعات للمستقبل، كما تفعل غالبية الشركات الصناعية، وذلك من خلال النظر إلى التقنيات المتاحة في الوقت الراهن، والتطورات التي تسير تجاهها، واستنتاج موعد توفر تقنيات معيَّنة في المستقبل، وعلى قدر ما تتمتع به هذه الآلية من أساس قوي قائم على قاعدة المعلومات الدقيقة للأوضاع الحالية، فإن نقطة ضعفها تكمن في عدم قدرتها على مراعاة أي أحداث طارئة، قد تسير بها إلى منحنى مختلف عن التوقعات. ويشبهها المؤلف بسيارة تسير على طريق معبد بصورة جيدة، لكنها لا تراعي ما يحدث على جانبي الطريق، والأخطر من ذلك أنها لا تراعي احتمال أن ينتهي الطريق فجأة، مع أن تغيير الطريق كان هو الخيار الأفضل.
أما آلية السيناريو المستقبلي، فهي لا تقتصر في نظرتها على استشراف المستقبل من خلال الحاضر، بل تسعى إلى مراعاة أكبر قدر من المعلومات عن الماضي والحاضر والمستقبل، والتطورات السياسية والاجتماعية، ومشكلات البيئة واحتياجات العملاء، ثم ينطلق من افتراض ما في المستقبل، وبعد ذلك يرجع بنظره من المستقبل إلى الحاضر، لبحث الخطوات اللازمة للوصول إلى أفضل النتائج، أي هي استراتيجيات لمواجهة احتمالات مستقبلية.
التقنية ليست كل شيء
يعتقد كثيرون أن نجاح العلماء في التوصل إلى حلول تقنية، يضمن انتشارها وخروجها من معامل الاختراعات إلى الاستخدام اليومي. ولكن هذا الاعتقاد ليس دقيقاً، ونضرب على ذلك مثالاً بالصورة الخيالية التي يصر كثير من أفلام الخيال العلمي على الترويج لها، وهي السيارة التي تقدر أن تطير، بحيث لا تحتاج إلى الوقوف في زحمة السير، وتختصر الوقت، وتجعل قائدها يشعر بالتفوق، وتجاوز كل القيود، التي تعوق حركته وانتقاله.
ربما لا يعرف كثيرون أن هذه السيارة التي تطير ليست محض خيال، بل إن هناك شركة أمريكية، اسمها تيرافوجيا (Terrafugia)، تقوم بإنتاجها بالفعل. لكن هل توفرها يعني إمكانية استخدامها؟
وبغض النظر عن سعر السيارة، الذي يبلغ حوالي مائتي ألف دولار أمريكي، فإن إقلاع السيارة لا يمكن أن يتم إلا من أرضية المطار، وبالتالي فإن السائق لا يستطيع أن ينطلق من أي مكان، بل عليه دوماً أن يبحث عن أقرب مطار، والنقطة الأهم هي أن قيادة الطائرة تحتاج إلى رخصة مختلفة عن قيادة السيارة، وحتى لا تحدث حوادث تصادم، لا بد أن تكون هناك مسارات مختلفة في الجو لكل سيارة طائرة، فمن يستطيع تنظيم طيران آلاف أو ملايين السيارات في الجو، وكم ستكون تكاليف التأمين ضد الحوادث؟.
يوضح هذا المثال أن هناك جوانب كثيرة غير الجانب التقني، تشارك في قرار انتشار استخدام الاختراع أو تحول دون ذلك. وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد أنفقت المليارات من أجل الوصول إلى سطح القمر، بعد أن سبقها الاتحاد السوفيتي السابق إلى هذا الإنجاز العلمي، مما يعرف بصدمة «سبوتنيك»، وبعد هذا النجاح وإحضار عينات من أرضية القمر، انطلق الخيال العلمي ليتصور انتقال البشر إلى القمر، والبقاء لفترات طويلة بل والعيش هناك. ولكن الواقع يقول إن الولايات المتحدة لم تعد متحمسة للاستمرار في هذه الرحلات، وإن توافر الإمكانيات التقنية للسفر إلى هناك، لا يعني بالضرورة التوسع في ذلك، وتوفير رحلات منتظمة إلى القمر أو المريخ.
وبعيداً عن الجانب المادي والصعوبات الفنية، فإن مدى تقبل الناس للاختراع يلعب دوراً في انتشاره من عدمه، فإذا كان مترو الأنفاق يسير في باريس منذ سنوات بطريقة آلية، ودون وجود سائق، فإن بعضنا سيرفض بالتأكيد أن يضع رجله في قطار أو مترو في بلاده، إذا علم أنه يسير بدون سائق من البشر، يتحكم فيه حين يتجاهل البعض الإشارات المرورية، وحين يعبرون المزلقانات، رغم الإشارة الحمراء، ويغامرون بأرواح البشر.
صور من المستقبل
يتناول إيبيرل المحاولات الدولية لوقف تلوث البيئة. فيشير بوضوح إلى أن الدول الصناعية الكبرى عاشت سنوات طويلة في رخاء، وتسببت في التلوث الأخطر في تاريخ البشرية. ويرى أنه ليس من الإنصاف الآن حرمان دول العالم الثالث، التي استطاعت بعد جهود ضخمة، أن تنهض بالطبقة المحرومة لتصبح طبقة متوسطة، وما يعنيه ذلك من زيادة الاستهلاك من الطاقة. لكنه يدعو إلى البحث عن أفضل السبل للحفاظ على كوكب الأرض. موضحاً أن الاستهلاك الحالي يحتاج إلى كوكبي أرض على الأرجح.
ويضرب أمثلة على الحلول المستقبلية لمشكلات البيئة، فالسيارات الكهربائية ستصبح هي القاعدة وليست الاستثناء. والمباني الحديثة لن تحتاج إلى طاقة إضافية، وستكون الإضاءة من خلال ألواح في الجدران، تحتوى على ما يعرف باسم (صمامات الضوء الثنائية العضوية)، وهي قادرة على توليد الطاقة بواسطة الخلية الشمسية المصنوعة من مواد عضوية مضيئة.
يشير إيبيرل إلى ثورة في عالم المجسات، وهي عبارة عن شرائح متناهية الصغر توضح في أركان المنزل، فتقيس كل شيء، الحرارة والبرودة، وتكشف تسرب أي غازات، وتصدر تنبيهاً بأن الموقد مازال مشتعلاً، أو أن باب الثلاجة لم يغلق، بل تتعرف المجسات أيضاً إلى أي روائح كريهة في المنزل، وتعمل على تغيير الهواء.
ستدخل هذه الشرائح كل مكان. فإذا كانت الملابس مزودة بها، فإن الغسالة ستتعرف إلى نوع النسيج والبرنامج المناسب للغسيل، وكمية المسحوق المطلوبة، وكمية الماء اللازمة، وفوق كل ذلك يمكن أن تحدد الغسالة الوقت المناسب للتشغيل، تبعاً لاستهلاك الطاقة في المنزل، بحيث لا يكون ذلك مثلاً في نفس الوقت الذي تعمل فيه أجهزة أخرى كثيرة.
كما سيحقق الإنسان الآلي تطورات كبيرة، وقد تم تجربته في العديد من المهام بنجاح، خاصة مع كبار السن، كما سبقت الإشارة، وإذا كان عادياً أن يلعب بطل العالم في الشطرنج أمام الإنسان الآلي، فإنه من المتوقع أن يتوسع استخدام الإنسان الآلي خلال العقدين التاليين، ليصبح بديلاً عن الإنسان في الكثير من الخدمات المساعدة في المصانع والمستشفيات والمكاتب.
ولمواجهة النقص المتوقع في الغذاء، فإن ناطحات السحاب المستقبلية، لن تخصص للسكن والفنادق والمكاتب فقط، بل يمكن أن تخصص الأدوار العليا فيها لتكون بمثابة مزارع للمحاصيل الغذائية، فيجد سكان المبنى والمنطقة المجاورة الكثير من احتياجاتهم من الطعام، دون حاجة إلى التوجه إلى السوق، ودون تكاليف نقل من أماكن بعيدة.
كما ستجد تقنيات التعرف إلى الأشخاص رواجاً في المستقبل، بحيث تستطيع كاميرات المراقبة تحديد الشخص المسموح له الدخول إلى مكان ما، وبالتالي زيادة معدلات الأمان في المباني والطرق. علاوة على وجود تقنيات للتعرف على أي مواد متفجرة أو أي مخاطر، واتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع انتقال من يحمل هذه المواد، إلى مناطق حساسة.
أما الأبحاث في مجال تنقية المياه، فإنها قد حققت تقدماً هائلاً، بحيث أصبح ممكناً تنقية المياه المستخدمة، لتصبح مياه شرب خالية من أي رواسب أو ميكروبات، وبالتالي تنتفي الحاجة إلى تحلية مياه البحار، التي تكلف كثير من الطاقة والأموال.
وفي مجال التعليم ستكون التقنيات المتوافرة ثلاثية الأبعاد، تجعل الطلاب يعيشون التجارب العلمية بصورة مجسدة. ومن خلال التقدم في مجال الاتصالات، سيكون بديهياً أن يدرس الطالب الجامعي في جامعات في مختلف دول العالم في الوقت نفسه، بعد توفير الأسس القانونية للاعتراف بمادة عند أستاذ في جامعة أمريكية، ومادة أخرى عند أستاذ في جامعة عربية، ومادة ثالثة عند أستاذ في جامعة صينية.
ويبدو أن تطوير برامج الكمبيوتر سيواصل قفزاته التي تفرض واقعاً جديداً كل عدة سنوات. فمن سيرتدي نظارة خاصة، ويقف على سجادة مجهزة لذلك، سيشعر بأنه يقف على السجادة الطائرة، ويجول بين شوارع المدينة، التي يرغب في التعرف إليها، ويحدث الأمر نفسه عند الرغبة في زيارة متحف، حيث يشاهد الشخص كل متاحف الدنيا، وهو في غرفته، بل يمكن أن يتفاعل مع الآثار والتماثيل، لتحكي له عن عصرها والأحداث التاريخية في وقتها.
كما سيشهد عالم الدعاية والإعلان طفرة كبيرة، من خلال تبادل المعلومات بين جهاز الجوال لكل شخص، واللوحات الإعلانية في كل شارع. إذ لن تكون هناك صور ثابتة لمنتجات بعينها. بل كلما مر شخص على لوحة إعلانية، ظهر عليها الإعلان المناسب لميول هذا الشخص أو ذاك، وهو ما نرى ملامحه الأولية اليوم في الكمبيوتر، فمن يشاهد مواقع رحلات إلى الولايات المتحدة، يجد في بريده الإلكتروني إعلانات تتعلق بهذه الرحلات. ويرى دعاية أخرى على هامش الشاشة، وهو يقرأ موضوعاً مختلفاً تماماً، لأن (الإنسان الشفاف) أو على الأصح (الإنسان المخترق) أصبح سمة العصر، هناك في مكان ما، من يجمع عنك كل المعلومات، ويعرف عنك أكثر مما تعرف عن نفسك، ولا تقدر أن تحول دون ذلك.
أخيراً يتوقع المؤلف أن يحقق التقدم الطبي إنجازات عُظمى في العقود التالية، بحيث يصبح الإنسان الضرير قادراً على الرؤية بتقنيات حديثة، والأصم قادراً على السمع، والمصاب بالشلل قادراً على الحركة من جديد. ومن خلال تطور أبحاث الجينات البشرية، ستُحل شفرة كثير من الأمراض الخطيرة، وستُنتج أدوية تتناسب مع الاحتياجات الفردية للحالة الصحية لكل فرد.
ختاماً، يمكن أن يكون في هذا الكتاب بعض ما يستحق التأمل من تصورات حول المستقبل. وللقارئ أن يصدق ما فيه أو لا يصدقه. لكن المؤكد أنه يثير الفكر في قضايا حاسمة للبشرية جمعاء، لأن الدنيا لن تبقى على حالها، ولأن التغير قادم لا محالة. ولأن بإمكاننا أن نستعد لهذا المستقبل، من خلال المشاركة في صناعته، أو على الأقل من خلال بحث سبل التأقلم مع المتغيرات، ولعلنا نتذكر ما قاله تشارلز داروين بأن «الكائنات الأكثر قابلية للتأقلم مع المتغيرات، هي التي تستطيع البقاء».