ما بين الخرائط الأولى، التي رسمها الإنسان القديم على الصخور والحجارة، والخرائط الإلكترونية التي نحملها اليوم على الهواتف الجوَّالة، ثمة ما هو مشترك. إنها لغة تتجاوز حواجز اللغات المختلفة.
وهذه اللغة التي يختلط في تشكيلها الرسم بالقليل من المفردات وكثير من الرموز، هي في المقام الأول صلة وصل ما بين الإنسان والعالم، يستوي استخدامها في أوقات السلام كما في أوقات الحروب، وفي أزمنة النهضة والاكتشافات كما في أزمنة التخلف وأوقات الضياع.
في هذا الملف يصحبنا حسام الدين صالح إلى اكتشاف عالم الخريطة التي كانت ولا تزال وسيلتنا إلى اكتشاف العالم.
حظيت الخريطة باهتمام الإنسان منذ قديم الزمان، فقد كانت الحياة من دونها تعني الجمود على الثابت والقديم. ومثّلت الخريطة للإنسان القديم مفتاحاً مهماً لاستكشاف العالم وإخبار الآخرين به وإمكانية العودة إليه مرة أخرى. وعلى الرغم من أن الخريطة قديماً كانت شديدة البدائية بمقاييسنا الحديثة، إلا أنها كانت تؤشر على الوعي الإنساني التواق للمعرفة؛ ولم يكتف الإنسان القديم باللغة أو الموسيقى فقط كوسائل للتواصل، بل سعى لتكون الخريطة جزءاً من الوسائل الاتصالية التي تربطه بالعالم بكل ما فيه.
تضافرت جهود البشرية في رعاية الخريطة من مهدها الأول إلى يومها الحالي المفعم بالحيوية والشباب. فأقدم الخرائط التي استطاعت البشرية توارثها دون أن تضيع بين الأجيال المتعاقبة، تعود إلى الحضارة البابلية، وهي مصنوعة من الطين، واستعان بها أصحابها على تحديد الأراضي الزراعية وحصر الملكية وجمع الضرائب. وتظهر فيها اليابسة على شكل دائرة تحيط بها المياه من كل جانب. وما زالت هذه الخريطة موجودة حتى الآن في متحف الدراسات السامية في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة الأمريكية. إلا أن أول الخرائط التي رُسمت على الورق كانت عند قدماء المصريين الذين كانوا يرسمونها على ورق البردي. وقيل إن أول من رسم خريطة فرعونية كان رمسيس الثاني. وحينما جاء دور الصينيين في سباق تطوير الخرائط، كانوا أول من صمَّم شبكة للإحداثيات الأفقية والرأسية. وكان للإغريق الفضل في تقسيم الكرة الأرضية إلى دوائر الطول والعرض؛ ثم جاء دور المسلمين وكان لهم الأثر الكبير في تطوير الخرائط وعلومها، حيث يذكر التاريخ الجهود العلمية الكبيرة التي قدَّمها علماء عرب من أمثال الإدريسي والمسعودي أسهمت في تطوير الجغرافيا كعلم وفن.
تطلَّب تطوير الخريطة قروناً من الجهود المختلفة. فقد كانت حاجة البشرية الماسة إلى الخريطة دافعاً قوياً للمساهمة في تطويرها. وحينما حاول المؤرخ اليوناني إراتوستينس رسم أول خريطة كلية للعالم، بدأت فكرة كروية الأرض بالظهور من خلال رسمه لخطوط الطول و«التشابه». كما بدأت كثير من المناطق الجديدة في العالم بالظهور في خريطته.
مع بدايات القرون الميلادية الأولى، وفي عام 150م تحديداً، ظهرت أول خريطة للعالم بخطوط طولية وعرضية، وكان بطل هذه المرحلة الفلكي والجغرافي وعالم الرياضيات بطليموس.
بدت الخريطة الأولى عند ظهورها كوجه جميل لا يعيبه سوى الجهل الذي يخفي ملامحه الجميلة. إلى أن بدأت الاستكشافات العلمية تحدِّد ملامح هذا الوجه الجميل حتى بدا أكثر وضوحاً.
استوعب العلماء المسلمون المعارف الجغرافية التي توصلت إليها البشرية، استيعاباً جيداً كان له الإسهام الأكبر في تطوير هذه المعارف. فقد قام العالِم الجغرافي العربي محمد الإدريسي بوضع خريطة أكثر دقة للعالم، لكنها تتوقف عند الجزء الشمالي من القارة الإفريقية، وظلت هذه الخريطة الجديدة معتمَدة لأكثر من ثلاثة قرون.
وكان ظهور الأطلس معلماً بارزاً في مراحل تطور الخريطة، فظهر لأول مرة مطبوعاً في 20 مايو عام 1570م على يد العالِم أورتيليوس، وظل أطلسه معتمداً حتى عام 1612م.
وبعد تطور العلوم الجغرافية والفلكية والرياضية، واكتشاف أدوات علمية جديدة أصبحت الخريطة أكثر دقة في التعبير عن العالم.
خرائط النجوم
هدية السماء للأرضالنجوم هي خريطة الليل القديمة، يفتحها الإنسان كل مساء إذا شاء. ظلت خريطة النجوم خريطة من لا خريطة له. ولم يكتف الإنسان منذ قديم الزمان برسم الخرائط للأرض التي مشى عليها، فقد كان للسماء من الخرائط أيضاً نصيب. لكن الحاجة للسماء والنجوم كانت ملحة لتصبح الخريطة على الأرض أدق وأصح، فمثلما تساعد الأقمار الصناعية إنسان العصر الواحد والعشرين على ضبط خرائطه التي يحتاجها في حياته اليومية، احتاجت البشرية في أزمانها القديمة إلى خرائط النجوم من أجل خرائط الأرض.خرائط النجوم أو خرائط السماء، أسماء للخريطة التي كان وما زال الإنسان يهتدي بها في ظلمات البر والبحر. كان علم الفلك بصورة عامة عاملاً مهماً في تكوين الخرائط. وقد اهتم العرب بهذه العلاقة بين الخريطة والنجوم، فكان علم الفلك من أكثر العلوم التي حرص الجغرافيون العرب على دراستها وإتقانها، وهذا ما ظهر جلياً في خرائطهم الأولى التي رسموها للعالم، حيث ظهرت فيها الكرة الأرضية بخطوط الطول والعرض مع صور للأفلاك والنجوم، ثم رسم العلماء العرب خرائط مصوَّرة حدَّدوا فيها بدقة مواقع النجوم، ويشتهر في هذا السياق العالم العربي عبدالرحمن الصوفي بجمعه قرابة ألف نجمة في خريطته الفلكية.وثمة تطابق ما بين عمل الجغرافيين والفلكيين في رسم الخرائط. فمثلما يستعين الجغرافيون بخطوط الطول والعرض لتحديد مكان ما على سطح الأرض على خرائطهم، يعتمد الفلكيون على الفكرة نفسها لرسم خريطة للنجوم، إذ يستعيضون عن مصطلحات الطول والعرض الجغرافية بمصطلحات الميل والمطلع المستقيم الفلكية.ومع التطور المتزايد في العلوم الفضائية وتقنياتها، استخدمت الأقمار الصناعية لرسم خرائط سماوية أعمق وأوسع، تكشف مصادر الأشعة السينية والمواقع الدقيقة لمليارات النجوم. وصار الحصول على تفاصيل أدق عن المجرات البعيدة أقرب من السابق بفضل الخرائط الراديوية للسماء. وما زالت جهود الفلكيين تتواصل لرسم خريطة دقيقة وشاملة للنجوم لكشف أسرار الكون والفضاء التي ما زالت تثير فضول العلماء.
الخريطة في العصر الحديث
في العصر الحديث، أصبحت الخرائط أدق بسبب الاكتشافات الجغرافية الجديدة التي زادت من معرفة الإنسان بمزيد من المناطق التي لم يكن يعرفها. وأصبحت الخريطة أكثر انتشاراً بفضل اختراع الطباعة وتزايد حركة الترجمة، فتناقصت الأخطاء التي كانت تصاحب طباعتها. واضطرت الحربان العالميتان الأولى والثانية الأطراف المشاركة فيها إلى بذل مزيد من الجهد لجعل الخرائط أكثر دقة وفائدة في العمليات الحربية.
فمنذ بدايات القرن العشرين تسارعت وتيرة التطور في إنتاج الخرائط ونشرها بفضل التقدم في التصوير والطباعة. ولم تتوقف هذه المسيرة بعد التطور المذهل الذي أصبح يعيشه العالم اليوم بفضل التقنية الحديثة، فقد أصبح من السهل بمعاونة أجهزة الكمبيوتر وبرامجه رسم خريطة دقيقة وصحيحة ومكتملة المعالم للعالم. وهذا هو الهدف الذي كانت تحاول الوصول إليه أول خريطة ظهرت في العالم قبل ما يربو عن ستمائة عام قبل الميلاد.
وفي كل زمن يعتقد فيه البعض بنهاية الجغرافيا، تأبى الجغرافيا إلا أن تثبت العكس اعتماداً على الوعي المعرفي الذي وصل إليه الإنسان. فالشكل المتقدم والدقيق الذي وصلت إليه الخريطة، مستمر في النمو والتطور بفعل التقنيات الجديدة. وبظهور أجهزة تحديد المواقع الجغرافية (GPS) والأقمار الصناعية، انفتحت مساحة جديدة للخرائط بمحاولة رسم تضاريس أعماق الأرض ورسم حدود الفضاء الخارجي. وتطور شكل الخريطة فظهرت إمكانية إنتاج خرائط ثلاثية الأبعاد لا تقتصر على قراءتها فقط، بل ويمكن تحسسها أيضاً. وكل هذه التطورات مهَّدت لظهور كثير من المفاهيم الجغرافية الجديدة، مثل التمثيل الكارتوجرافي والتصوير المرئي ونُظم المعلومات الكارتوجرافية.
الخريطة في معاجم اللغة والناس
قبل أن يعرف العرب الخريطة بالمعنى الذي تحمله هذه الكلمة اليوم، عرفوها وسيلة لنقل الأشياء. ولربما لم يعرف العرب المفهوم الحديث للخريطة إلا بعد أن رسم العالِم الجغرافي العربي الإدريسى أول شكل للكرة الأرضية، فتواضع الوسط العلمي العربي آنذاك على تسميتها بخريطة الإدريسي. ولذلك يذكر مجمع اللغة العربية في المعجم الوسيط الخريطة بمعناها القديم والحديث، فيقول: «الخريطة وعاءٌ من جلد أَو نحوه يُشَدُّ على ما فيه، والخريطةُ في اصطلاح أَهل العصر: ما يُرسَم عليه سطحُ الكرة الأَرضيّة، أَو جزءٌ منه، والجمع: خرائِط». وقد استعمل علماء الجغرافيا العرب أسماء عديدة لتدل على معنى الخريطة الذي لم يكن معروفاً من قبل. فأطلقوا عليها الرسم، ولوح الرسم، الصورة، ولوحة الترسيم. ويرجح البعض أن يكون لفظ الخريطة معرباً عن لفظ (Carta) أو اشتُّق من كلمة (خَرَت) التي تعني التجوال، ومنها خرت الأرض؛ أي جال فيها، وعالِم خِرِّيت؛ أي جوال ماهر.
ومثلما دخلت الخريطة المعاجم العربية، تمددت كذلك في استخدامات الناس اليومية للتعبير عن كثير من المفاهيم والرغبات لا الأمكنة فحسب. مثل استعارة الأسلوب الخرائطي للحلول الذكية والمتكاملة فتكون حينئذ (خارطة طريق) تمهيداً للوصول إلى الحل لمشكلة ما معقدة، أو حين تكون تعبيراً عن تقسيم أكاديمي أو عملي للخطط التنموية أو مكونات مجتمع ما، فتسمى حينها بالخرائط التربوية، والخريطة المدرسية والخريطة السياسية؛ أو ربما تعبِّر عن علاقات مترابطة تقود إلى نهايات مشتركة مثل خريطة المفاهيم، والخريطة البشرية الجينية؛ حتى عندما يريد أحدهم أن يستخدم وعيداً شديد التهديد، فإنه يرغب «بمحو الآخر من على الخريطة»!
للخريطة في حياتنا أهمية
لا تنتهي
بإمكاننا اختصار كل تعريفات الخريطة في كونها صورة رمزية (بيانية) للكرة الأرضية. وبهذا المعنى، فإن كثيراً من علماء الاتصال والجغرافيا يَعُدون الخريطة أداة اتصال مهمة وواسعة الانتشار باعتبار الاتصال البياني مكوناً أساسياً في كل علاقاتنا الحضارية.
يحتاج الإنسان المعاصر للخريطة - خاصة الرقمية - في أعقد الأشياء وأبسطها على حدٍّ سواء، من رغبته كعسكري في تحديد موقع العدو وإدارة المعركة ضده، أو في احتياجه كجائع لأقرب مطعم للبيتزا. وما بين التعقيد والبساطة، تندرج كثير من الاحتياجات لخريطة دقيقة وبسيطة.
يحتاج الإنسان إلى الخريطة لتحديد اتجاهات السير، مثلما يستخدمها المعماريون والمهندسون في الإنشاءات، ويحتاجها الجيولوجيون للتنقيب عن المعادن، والمعلِّمون في تدريس طلابهم.
ولا تخفى أهمية الخريطة بحدِّ ذاتها كوسيلة لكسب العيش، سواء بطريق غير مباشر كالاستفادة منها كأداة مساعدة، أو بطريق مباشر بالمتاجرة في تصميمها وإنتاجها، بل والمتاجرة بالقديم منها، حيث تُعد الخرائط القديمة أحد الكنوز التاريخية التي تدر أموالاً طائلة لبائعيها، وتشهد المزادات العالمية على ذلك.
أما ما توفره الخريطة للمعارف والعلوم فهو واضح ومتجذِّر منذ بداياتها الأولى وحتى مرحلتها الحالية. فالخريطة، فضلاً عن ضرورتها العملية، تُعد أداة من أدوات البحث العلمي، تُستخدم في معرفة واستنتاج كثير من العلوم الطبيعية كالجغرافيا الطبيعية، والمناخية، والجيومورفولوجيا، والتربة، والمياه، والبحار والمحيطات وغيرها. كما تُستخدم في العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع والجغرافيا البشرية والعلوم المتصلة بها، كما تُفيد كثيراً في العلوم الإدارية لا سيما في مجال التخطيط وإدارة المشاريع.
وتوفر الخريطة على العموم من المعارف ما لا تستطيع المادة المسموعة والمقروءة تقديمه للإنسان. ويتساوى الجميع في الحاجة إليها.
بين الخريطة الورقية والرقمية
المعركة بين القديم والجديد، لم تكن بعيدة عن ميدان الجغرافيا ورسم الخرائط. ومثلما لم تُحسم المعركة تماماً بين المنتجات الورقية والمنتجات الرقمية لصالح الأخيرة، ما زالت الخريطة الورقية صامدة أمام منافستها الرقمية. ويبدو أن التطور التقني سيصب في صالح الاثنتين، لأن الإنسان ما زال يحتفظ بصداقة قديمة مع الورق، يصعب تجاوزها بسهولة، علاوة على أن المستفيد دائماً سيكون الإنسان ومن بعده الخريطة بصفة عامة.
يُعد كثير من المهتمين بالجغرافيا والخرائط بدايات القرن الواحد والعشرين نقطة انتقال إلى الخريطة الرقمية. فقد مثلت الإنترنت بيئة مشجعة لنمو الخريطة الرقمية، وأتاحت لها التفوق على الخريطة الورقية بسهولة انتقالها ومشاركتها عبر وسائل الاتصال الحديثة، مع خيارات تعديلها والإضافة إليها، لتصبح أكثر تعبيراً عن الواقع، وعن الحاجة الفردية لمستخدمها، دون الاستعانة بخبير جغرافي مختص، وهو ما مهَّد لظهور عصر (رسامو الخرائط المواطنون).
ففكرة المشاركة التي عمَّقتها وسائل الإعلام الجديد، دفعت شركات تقنية عديدة للدخول في هذا السباق الرابح، بتمكين الأفراد من الاستفادة من الخريطة الرقمية وصور الأقمار الصناعية عالية الدقة، بعد أن كانت هذه الخدمات تقدَّم فقط للشركات العملاقة ولوزارات الدفاع في العالم.
كانت البداية من شركة (جوجل) حينما أعلنت في عام 2005م طرح خدمة (خرائط جوجل) و(جوجل الأرض) لتتيح للجمهور العام البحث عن أي مكان في العالم بمعلومات دقيقة تشمل العنوان ورقم الهاتف وطريقة الوصول إليه.
وأدى التوجه الجديد نحو الخريطة الرقمية إلى تقليص المسافة بين مصممي الخرائط ومستخدميها، وهو أمر يزيد من فرص شيوع المعرفة الجغرافية، ويفتح النقاش أيضاً حول مستقبل هذه العلاقة ودورها في تطور علم الخرائط وتطوير البيئات المحلية.
الشمال: أبو الاتجاهات
قبل أن يصبح (الشمال والجنوب) مصطلحاً سياسياً يقسِّم العالم ويعكِّر صفو الجغرافيا والسياسة على حد سواء، كانت الخرائط الأولى التي رسمها المسلمون تبدأ بالجنوب قبل الشمال على عكس المعمول به الآن، حيث يكون الشمال دائماً أعلى الخريطة لا أسفلها.
أما هذه الأيام، فقد صار هذا النوع من الخرائط يُسمى بالخرائط المقلوبة رغم تميزها بنفس دقة الخرائط العادية، كما أصبحت وسيلة تعليمية لتبسيط بعض المفاهيم الجغرافية.
كان أسهل الاتجاهات تحديداً منذ قديم الزمان الشرق والغرب، بناءً على دوران الشمس التي تتحرك من الشرق إلى الغرب. ولكن اتجاه الشمال أصبح أهم الاتجاهات الأربعة بعد اكتشاف ثباته المغناطيسي بالنسبة إلى البوصلة.
والشمال الجغرافي أو الشمال الصحيح هو في اتجاه واحدة من النقطتين اللتين يتقاطع فيهما محور دوران الأرض مع سطح الكرة الأرضية في أقصى نقطة، وتُعرف هذه النقطة بالقطب الشمالي.
وقد بات من المعلوم أن كل خريطة تتجه شمالاً ولو لم يتم رسم سهم يؤشر لاتجاه الشمال على الخريطة، وقد يُرسم أحياناً سهمان أحدهما للشمال الجغرافي والآخر للشمال المغناطيسي إذا كانت الخريطة جوية مثلاً ولا تتجه نحو الشمال.
متى تكذب الخريطة؟
يشير كثير من المؤرخين إلى إغفال البابليين المتعمد تمثيل كثير من شعوب العالم الأخرى في أول خريطة رسموها، مثل الفرس والمصريين، مع أنهم كانوا معروفين لدى البابليين في ذلك الوقت. وفي هذا ما يؤكد أن التاريخ ليس وحده المتهم بعدم قبول الحقيقة، إذ إن الجغرافيا أيضاً قد تكون موضع الاتهام في بعض الأحيان. فمتى تكون الخريطة كاذبة؟!
قد تكذب الخريطة لأنها تريد أن تتجمل بعدم قبول واضعيها بالحقائق، أو رغبتهم في رؤية حقائق أخرى على أرض الواقع، وهنا بالتحديد ينشأ الصراع بين الحقيقة والواقع، وبين الخريطة والأرض، وقد يمتد هذا الصراع إلى الخريطة وواضعيها أيضاً.
هذا النوع من الصراعات الجغرافية التي تؤثر في مصداقية بعض الخرائط ما زال ماثلاً، ولا يتوقع أن ينتهي مستقبلاً، دون أن تنتهي مسبباته تماماً.
في مثل هذه الحالات، تعمد الأطراف المشاركة في هذه الصراعات إلى إغلاق فم الخريطة كي لا تنطق بالحقيقة. وقد تضطر الخريطة إلى الرضوخ إلى هذا الإكراه طويلاً، إلى أن يتم اتفاق ما بين تلك الدول على المناطق الجغرافية المتنازع عليها التي تظهر على الخريطة دون رضاها.
مفتاح الخريطة
لكل خريطة مفتاح يُرفق معها لضمان قراءتها والاستفادة منها بصورة صحيحة، ولأن الخريطة في الأصل هي تعبير رمزي عن الأرض، تكون الرموز هي مفتاحها الذي لا بدَّ منه لإكمال رسالتها الاتصالية. ويكون مفتاح الخريطة في شكل مربع يحتوي على الرموز ومعانيها والألوان المستخدمة في الخريطة، وتختلف رموز الخريطة ومصطلحاتها باختلاف نوعها ومقياس رسمها. وكلما كان مفتاح الخريطة واضحاً وجذاباً كانت قادرة عن الإفصاح عن نفسها بسهولة ووضوح.
هل أنت مهم بالنسبة للخريطة؟
هل سألت نفسك يوماً ما: هل أنا مهم بالنسبة للخريطة؟ قال كثير من الجغرافيين إن الخريطة كالكائن الحي، وهي كذلك فعلاً، بكونها ذات عمر وفاعلية قد تزيد بفضل الإنسان، كما يمكن أن تموت عندما تصبح عديمة الفائدة. ولربما كانت سبباً في تأجيج حروب إذا أسيء فهمها واستخدامها.
فالخريطة بوصفها «كائناً حياً» تحتاج إلى المجهود البشري لتطويرها وجعلها أدق وأكثر فائدة. وأهمية الإنسان المعاصر للخريطة في كونه واهب الحياة الحقيقية لها. فالمساهمة في تحديث الخرائط وتعديلها تشبه المساعدة في الحفاظ على أرواح الآخرين. فقد أثبتت الإحصاءات أن الخرائط الحديثة والدقيقة تسهم سنوياً في توفير نحو 3.5 مليار لتر من البنزين وأكثر من مليار ساعة من زمن السفر والمساعدة على توفير ما يقارب ثمانية مليارات إلى 22 مليار دولار للصناعات الزراعية سنوياً، فضلاً عن تسهيلها للاستجابة السريعة لخدمات الطوارئ وإنقاذ آلاف المتضررين من الكوارث سنوياً.
وكما يقول نائب رئيس الهندسة في شركة جوجل، براين ماكليندون، فإن «الدفع المتزايد الذي تكتسبه حركة رسم الخرائط، يَعِد بالتوصل إلى تمثيل دقيق وشامل لكل شبر من العالم تقريباً. وهذا من شأنه أن يوجد فرصاً متزايدة للنمو الاقتصادي، ويساعد على تحسين القدرة على الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية وغيرها من الخدمات، ويسهم في التنمية الاجتماعية، ويوسع نظرة الناس إلى العالم، مجازياً وحرفياً».
الخرائط والكتب
امتدت مسيرة التأليف في الخرائط منذ بدايات التأليف الأولى والاهتمام الإنساني بالكتابة. لكنها لم تكن منفصلة في البداية عن كتب الرحلات، إلى أن أصبح التأليف في الجغرافيا والخرائط أكثر تميزاً فيما بعد. ويُعد العالِم اليوناني بطليموس من أوائل المؤلفين في الجغرافيا والخرائط بكتابه (الجغرافيا) الذي يتكون من ثمانية أجزاء. وبدأت رويداً رويداً تظهر المعاجم الجغرافية. وكان للعرب قصب السبق فيها قبل أن تعرفها أوروبا، ومن أمثلة ذلك (معجم البلدان) لمؤلفه ياقوت الحموي.
يعترف الأوروبيون بفضل العلماء العرب في تطوير علم الجغرافيا، وفي ذلك يقول جوستاف لوبون: «كُتب العرب في علم الجغرافيا مهمة للغاية، وقد كان بعضها أساساً لدراسة هذا العلم في أوروبا قروناً كثيرة». واعتبرت دائرة المعارف الفرنسية خريطة العالِم العربي الشريف الإدريسي «أعظم وثيقة علمية جغرافية في القرون الوسطى». ويقول أندريه ميكيل عن المقدسي إنه «مؤسس الجغرافيا البشرية» ويصفه اشبرنجر بأنه «أكبر جغرافي عرفته البشرية قاطبة».
ومن الكتب العربية حول الجغرافيا والخرائط، لا بد من ذكر كتاب «الأنواء» للسدوسي، و«كتاب الشمس والقمر» للنضر بن شميل، و«كتاب الأقاليم»، و«كتاب البلدان الصغيرة»، و«كتاب البلدان الكبيرة» لهشام الكلبي، و«كتاب صورة الأرض» للخوارزمي، و«كتاب صورة الأرض» لابن حوقل.
وما زالت حركة التأليف في علم الخرائط مستمرة إلى اليوم، ولم يُعد التأليف في الجغرافيا والخرائط مقتصراً على العلم نفسه، بل شمل أيضاً علاقته بالعلوم الأخرى كالسياسة والاقتصاد.
ومن الكتب الحديثة التي تعالج علاقة الجغرافيا بالسياسة وتنظر في التأثير المستقبلي للخرائط الحديثة، كتاب «انتقام الجغرافيا: ما الذي تُخبرنا به الخرائط عن الصراعات المقبلة وعن الحرب ضد المصير» الصادر في عام 2012م لمؤلفه الصحفي الأمريكي روبرت دفيد كابلان وترجمه الدكتور إيهاب عبدالرحيم علي.
أثبتت الإحصاءات أن الخرائط الحديثة والدقيقة تسهم سنوياً في توفير نحو 3.5 مليار لتر من البنزين وأكثر من مليار ساعة من زمن السفر والمساعدة على توفير ما يقارب ثمانية مليارات إلى 22 مليار دولار للصناعات الزراعية سنوياً..
ومن الكتب الطريفة التي ربطت بين الأدب والخرائط كتاب «أطلس المتنبي: أسفاره من شعره وحياته» للكاتب يوسف أحمد الشيراوي، الذي صدر في عام 2003م، وقال عنه الأديب السوداني الراحل الطيب صالح إنه ربط الجغرافيا بالشعر ربطاً وثيقاً أصبحت فيه الخرائط بما فيها من الأمكنة التي زارها الشاعر أو عاش فيها، كأنها امتداد للقصائد.
لكل موقع على الإنترنت خريطة
تزخر شبكة الإنترنت بملايين الخرائط التي لا يمكننا تحسسها، لكنها توصلنا إلى فهم سريع لطبيعة أي موقع إلكتروني وتسهل علينا البحث عما نريد. خريطة الموقع (sitemap) التي يراها المتصفحون للإنترنت في كثير من المواقع الإلكترونية كأنها مقدمة لكتاب، هي فعلاً كذلك. لأنها تؤدي أيضاً دوراً تقنياً مهماً في إرشاد محركات البحث على الإنترنت مثل (جوجل) بالصفحات التي نرغب بأرشفتها على الشبكة والوصول السريع إليها.
خرائط لا تنتمي للجغرافيا
الخريطة الذهنية
تُطلق الخريطة الذهنية على الوسيلة التعبيرية التي شاعت أخيراً وتعتمد على رسم الأفكار على الورق بشكل شجري متفرع. وهي مستمدة بشكل أساسي من الصور ومفاتيح الكلمات. وتُعد الخريطة الذهنية عموماً تقنية جيدة لإعادة تمثيل المعرفة عن طريق تنظيمها في مخطط شبكي. ويرى بعض الباحثين أن هذه التقنية في التفكير والتحليل، التي تُعرف كذلك باسم خرائط العقل وخرائط المفاهيم، تتسق أيضاً مع النظرية البنائية في التعليم، التي تؤكد أن الإنسان يبني معرفته الجديدة عبر التفاعل بين المعرفة السابقة وبين الأفكار الجديدة. وهو أمر يتسق بدوره مع الطريقة الصورية التي يعمل بها عقل الإنسان وتساعده على تكوين المعلومات وحفظها واسترجاعها. ويعود الفضل في لفت الانتباه إلى هذه التقنية التعليمية إلى كثير من العلماء، ومنهم أوزبل صاحب نظرية «التعلم ذو المعنى». ويشير الباحثون إلى جهود توني بوزان صاحب كتاب «خرائط العقل» في هذا الشأن، إذ لم يكتف بالتفكير التنظيري للخرائط الذهنية وإنما قام بتجذيرها في الواقع بإنشائه مؤسسات تدريبية تطبق هذه التقنية وتنشرها في أرض الواقع.
الخريطة الوراثية البشرية
ما زال الوسط الطبي يحلم باكتشاف طريقة تكوين المادة الجينية المسؤولة عن المعلومات الوراثية للإنسان. ولبلوغ هذا الهدف، ما زالت جهود العلماء مستمرة للتوصل إلى الخريطة الوراثية البشرية الكاملة التي تحل لغز التركيب الوراثي للإنسان، وهو هدف كبير يُراد منه التوصل إلى علاج لكثير من الأمراض المستعصية. وقد يفتح المجال واسعاً أمام مستقبل الجنس البشري عموماً، وقد أصبح هذا الهدف مشروعاً علمياً عالمياً تتشارك في تنفيذه دول عديدة بميزانيات ضخمة، وكان قد بدأ بالولايات المتحدة الأمريكية في عام 1999م. وكانت من نتائجه تحديد خريطة الجينات البشرية ببيان موقع كل جين على أي كروموزوم وعلاقته بالجين الذي يسبقه والذي يليه، وفك الشفرة الخاصة بكل جين. وما زالت الجهود متواصلة للكشف عن مزيد من أسرار الجينات البشرية، وليس آخرها مشروع «فانتوم 5» المكون من المئات من العلماء والعشرات من الدول ليكون الأطلس المرجعي لألغاز الجينوم وتحديد وظائف مختلف الجينات وكيفية عملها في حال الإصابة بمجموعة مختلفة من الأمراض من السرطان وداء السكري حتى أمراض الدم والاضطرابات النفسية.
الخريطة للطفل: لعبة ومتعة وتعلُّم
يؤكد المتخصصون في تعليم الأطفال على أهمية الخريطة في الإسهام في تعليم الأطفال وتعميق إحساسهم بالأرض والحياة. وتبدأ الحاجة للخريطة منذ الطفولة الأولى للتعريف بالعالم، وتستمر إلى مراحل التعليم المختلفة كأداة مهمة لتوصيل المعلومة وترسيخها، إلى جانب أهميتها في تنمية التفكير والوعي التحليلي، لا سيما بعد أن أكد العلماء المهتمون بعمل الذاكرة الإنسانية على أهمية الخرائط الذهنية في التعليم والتفكير والتحليل، ويستوي في ذلك الصغار والكبار. وبالإضافة للتعليم، تدغدغ الخرائط في الأطفال الذاكرة البصرية التي يعتمد عليها العقل البشري في التفكير، فتكون أكثر إمتاعاً بجانب كونها أكثر فائدة. وقد اشتهرت كثير من الألعاب في هذا المجال، مثل لعبة الخريطة، ولعبة خريطة العالم، وقبلهما لعبة خريطة الكنز.
الأطلس.. حقيبة الخرائط
ما زال الأطلس - منذ اختراعه - مثل حقيبة يسافر بها حاملها قبل أن يسافر بها، وكان الأطلس دائماً يقوم بمهمة جمع الخرائط المختلفة بين دفتيه، سواء في كتاب كما هو المعتاد، أو على صفحات الإنترنت كما هو الحال مع كثير مع الأطالس الجغرافية الرقمية التي تتناول شتَّى المجالات الإنسانية. الأطلس - الذي تعود فكرته الأولى إلى كلاديوس بطليموس كما يقول كثير من المؤرخين- ما زال يتمتع بجاذبية كبيرة لكونه يحوي في العادة خرائط متنوعة ومفصلة، حافلة بالمعلومات والرموز الإيضاحية، ويُعد وسيلة تعليمية قديمة في تعليم الجغرافيا.
حين نلبس الخرائط وترتدينا النظارات!
لم يدر بِخَلَدِ أول إنسان تعامل مع الخريطة كحجر صعب الحمل أن يأتي يوم وتلتصق فيه الخريطة بالعين وتصبح أقرب للإنسان والواقع إلى هذه الدرجة. لقد فعلتها نظارة (جوجل) الذكية، حين جعلت الإنسان فعلاً يلبس الخريطة دون أن يكون بحاجة لأن يحملها في يديه أو يطالعها من بعيد على أجهزة الحاسوب أو الهاتف الجوال. وعلى الرغم من أن نظارة جوجل الذكية التي طُرحت للبيع في عام 2014م لم تنجح كمشروع جماهيري حتى الآن بسبب ارتفاع سعرها ومبيعاتها المتدنية، إلا أنها نقلت علم الخرائط إلى آفاق بعيدة.
تحوي نظارة جوجل كثيراً من المميزات الجغرافية المرتبطة بالخرائط. فهي تساعد على التجوال والسفر دون الحاجة إلى مطالعة خريطة على ورق أو هاتف أو حاسوب؛ لأنها مزودة بشريحة (GPS) ومتصلة بخرائط (جوجل)، وتستجيب هذه النظارة للأوامر الصوتية دون الحاجة للمس شيء، ويصبح التقاط صورة ما عبرها وتخزينها أمراً ممكناً بكلمة واحدة فقط، علاوة على ذلك تترجم فوراً اللافتات والتعليمات المكتوبة في حال سفرك إلى دولة لا تحسن لغتها.
الـ «جي بي إس».. وريث البوصلة
استفاد العلماء العرب في القرن الخامس عشر الميلادي من الخاصية المغناطيسية التي كانت معروفة من قبل عند كثير من الشعوب كالإغريق والصينيين، واخترعوا البوصلة واستعانوا بها في تحديد الاتجاهات خلال أسفارهم البحرية والبرية، إذ كان من الصعب الاستعانة فقط بالنجوم والرياح لتحديد الاتجاهات والوجهات.
وتتكون البوصلة في الأصل من مؤشر ممغنط يتجه دائماً صوب الشمال المغناطيسي. وكانت أول أشكال البوصلة إبرة تحتك بمغناطيس موضوع على وعاء مملوء بالماء بحيث تطفو الإبرة فوق عودين من الخشب، إلى أن تتّجه هذه الإبرة إلى الشمال، وقد كان لعالِم البحار العربي ابن ماجد الفضل في اختراع بوصلة دون الحاجة إلى وعاء مائي.
تطورت البوصلة كثيراً، وأصبحت تنقسم عموماً إلى نوعين: بوصلة ذات قرص صلب، وبوصلة سائلة. ولأهمية البوصلة فإنها لم تعد تُستخدم فقط للأغراض الملاحية والاستكشافية، بل تستخدم أيضاً كأداة لقراءة التضاريس والاستفادة منها في رياضة التزلج، والعبادة للمسلمين بتحديد القبلة نحو مكة المكرمة، كما استطاعت البوصلة ذات الاستشعار المغناطيسي أن تكون مكوناً مهماً في مكونات السفن والطائرات وحتى الساعات وكثير من الأجهزة الإلكترونية الأخرى.
بقيت البوصلة سيدة وسائل تحديد الاتجاهات إلى أن ظهر نظام تحديد المواقع العالمي المعروف بالـ (GPS)، وهو نظام ملاحي يحدِّد المواقع على الكرة الأرضية اعتماداً على بيانات أكثر من عشرين قمراً صناعياً حول الأرض.
لقد ورث هذا النظام الذي طورته الولايات المتحدة الأمريكية عرش البوصلة، ودخل في كثير من الاستخدامات في حياتنا اليومية، بعد أن كان مخصصاً للأغراض العسكرية قديماً، وأصبح لا غنى عنه لحركة النقل والشحن والسفر والرصد الجوي والبحث العلمي، مثلما أصبح وسيلة مهمة لتحديد أي موقع جغرافي على الخريطة، في أجهزة الهواتف الذكية والساعات الحديثة.
الخريطة والكنز
ظل الكنز مرتبطاً بالخريطة في الثقافات الإنسانية. لا سيما عند الأطفال الذين ترسخت في أذهانهم حكايات الكنز المدفون الذي لا يمكن الوصول إليه من دون الخريطة.
هذه الحكايات التي ارتبطت بالقراصنة الذين كانوا يجوبون البحار والجزر دفعت كثيراً من الباحثين للكتابة حولها وللتحقق منها. فقد تتبع الكاتب الأمريكي رالف باين القصص الشعبية للكنز المدفون ونشرها في كتابه (الكنز المفقود). ووجد أن القاسم المشترك بين كل القصص كانت في الخريطة التي تكشف طريق الوصول إلى الكنز، وتنتقل من شخص إلى آخر.
حضورها ودورها في الرواية والقصة
تغلغلت الخريطة عميقاً في الآداب الإنسانية، لا سيما في فنون الكتابة الروائية السردية، إذ غالباً ما يكون الكاتب بحاجة إلى خريطة يبني عليها عالمه. وهناك دوماً علاقة خاصة بين الكاتب والمكان، تجعل من الكاتب رسام خرائط كما يقول بيتر تورتشي الذي يؤكد في كتابه «خرائط المخيّلة» أن الكاتب في سرده يُنتج في النهاية خريطة للمكان تربط القرَّاء بالعالم المحكي بالكلمات. وهو ما يقوله روبرت تالي «السرد في شرط العالم الحديث عملية تحوِّل العالم إلى خرائط». ولهذا لا تكاد تخلو رواية من خريطة ما تبيّن مكان السرد في العالم، وعلاقة الشخصيات ببعضها وبالمكان الذي تتحرك فيه. وما زال الاهتمام بالخرائط عملاً أصيلاً للكتَّاب الكبار. فرواية مثل «اسم الوردة» لأمبرتو إيكو لا تكتمل من دون خريطة. حتى إنه هو نفسه يقول في كثير من الحوارات التي أجريت معه إنه قبل أن يكتب رواية يبدأ بجمع الوثائق وزيارة الأماكن ورسم الخرائط.
ويتضح أثر الخريطة في أشهر الروايات المعاصرة، مثل رواية «شفرة دافنشي» لدان براون، حيث تصبح الخريطة السرية التي تقود مجريات الأحداث هي نفسها مدار البحث والدهشة في أشهر الروايات العالمية وأكثرها مبيعاً وإثارة للجدل. ولا ننسى دور الخرائط في سلسلة روايات وأفلام هاري بوتر لا سيما «خريطة مارودر»، وقد اتخذت رواية «الخريطة والأرض» للروائي ميشيل ويلبيك من تفاصيل الريف الفرنسي مكاناً لانتقاد الحياة العصرية، ومثلها رواية «خريطة الخيانة» للروائية هاجين ثانيا التي تُعد من الروايات الأكثر مبيعاً حسب صحيفة نيويورك تايمز.
وثمة روايات عربية عديدة كانت الخرائط إحدى دعاماتها، مثل الرواية المشتركة التي كتبها عبدالرحمن منيف، وجبرا إبراهيم جبرا «عالم بلا خرائط»، التي تدور أحداثها في مدينة متخيلة (عمورية)، ونتذكر في هذا السياق رواية «خريطة الحالم» لمحمود الرحب، ورواية محمد عبد حسن «خرائط الشتات»، و«خرائط التماسيح» للروائي محسن يونس، ورواية «خريطة الذات» لهدى حسين.
وفي فن القصة القصيرة تصبح الخريطة أكثر رمزية وقوة للتعبير عن العالم المملوء بالهواجس والرغبات والحقائق التي لا تصدق. استخدمها الروائي والقاص باولو كويلو في إحدى قصصه ليثبت كيف أن بناء الإنسان يمكن أن يعيد بناء العالم في القصة التي يمزِّق فيها الأب صفحة من صحيفة كانت تحوي صورة لخريطة العالم، ويأمر طفله بجمع الخريطة مرة أخرى ليتلهى هو بقراءة الصحيفة، فيُدهش الأب من سرعة قيام الطفل بالمهمة، وحينما يسأله عن السبب، يجيب الطفل: «كانت هناك صورة لإنسان على الوجه الآخر من الورقة وعندما أعدت بناء الإنسان أعدت بناء العالم أيضاً».
ويستخدمها الروائي خورخي لويس بورخيس لإثبات العلاقة المتبادلة بين انهيار العالم وانهيار الإنسان، في قصته التي يأمر فيها الحاكم برسم خريطة دقيقة لإمبراطوريته بحيث يمكن للناس أن يعيشوا في الخريطة وعليها، بل أن ينتقلوا من الواقع إلى الخريطة دون حواجز. وعندما يموت الحاكم وتتناقص الإمبراطورية تتآكل الخريطة ولا تكون كسابق عهدها، مثلما لم تعد الإمبراطورية لسابق عهدها.
في الشعر..
هي الأرض بكل معانيهاعلى قول البعض، فإن الخريطة ليست منطقة، وإنما هي وعي ذاتي قبل أن تكون وعياً مكانياً، فإن كانت مسافة السرد القصصي والروائي هي الأقرب للخريطة من الشعر، فما هو حال الشعر مع الخريطة؟مثلما الخريطة استعارة عن الأرض، يحاول الشعراء استعارة هذه الأرض في قصائدهم عن طريق الخريطة، التي تبدو في أشعارهم أكثر من خطوط للطول والعرض، هي خطوط أعمق مرسومة في النفس، تحدد جغرافيتها ومشاعرها ورغباتها وأفكارها حول نفسها وحول العالم.ينتصر الأديب الإنجليزي شكسبير للخريطة في سوناتته الثامنة والستين بقوله:
هكذا تبدو وجنته مثل خريطة من سالف الزمانحين كان الجمال يحيا ويموت كما تفعل الزهور الآن.إلى أن يقول:
في العصر القديم لم يُستخدم أبداً شعر جميل لأحد الموتى في صناعة جمال آخر
لهذا تختزنه الطبيعة كالخريطة المرسومة،
حتى يرى الفن المزيف كيف كان الجمال في العصور القديمة.
وهي المحاولة التي خاضها الشاعر محمود درويش في قصيدته الشهيرة: «على محطة قطار سقط عن الخريطة»:
لا تنتظر أحداً سواك هنا. هنا سقط القطار
عن الخريطة عند منتصف الطريق الساحليِّ
وشبَّت النيرانُ في قلب الخريطة، ثم أطفأها الشتاء وقد تأخر
كم كبرنا، كم كبرنا
قبل عودتنا إلى أسمائنا الأولى.ثم يجعل في آخر القصيدة للخريطة قلباً معطوباً:
بلادنا قَلْبُ الخريطة. قلبها المثقوبُ مثل القرش
في سوق الحديد.وفي قصيدته (قصيدة الأرض) يجسِّد العلاقة بين الكلمات والخطوط فيقول:
كأنّي أعود إلى ما مضى
كأنّي أسير أمامي
وبين البلاط وبين الرضا
أعيد انسجامي
أنا ولد الكلمات البسيطة
وشهيد الخريطةويبدو صوت الخريطة قوياً وملهماً في قصيدته الأخرى (طريق دمشق):
كأنّ الخريطة صوت يفرخ في الصخر
نادى وحركني
ثم نادى.. وفجرني
ثم نادى.. وقطَّرني كالرخام المذاببعكس الشاعر صالح بن سعيد الزهراني، الذي يتحسس بكلماته فم الخريطة الصامت في قصيدته «قراءة لعوامل التعرية»:
ها أنت يا نهر الجراح خريطة صمَّاء ليس بها لسان يعرب
وإذا تكالبت الجراح بخافق ما فاده طبٌ ولا متطببأما الشاعر نزار قباني فيقلب مفهوم الخريطة، فلا تعود الخريطة صورة مصغرة للأرض، وإنما تغدو الأرض التي نمشي عليها بعذاباتنا وأشواقنا هي الخريطة:
أمشي على ورق الخريطة خائفاً فعلى الخريطة كلنا أغرابثم يجعل للخريطة والحقيقة منافساً إنسانياً لا يكون دائماً في موضع المتأزّم.. حين يقول:
نحن الذين نرسم الخريطة
ونرسمُ السفوح والهضاب..
نحن الذين نبدأ المحاكمة
ونفرضُ الثوابَ والعقابْ..ليعود نزار قباني في قصيدة أخرى ليسائل التاريخ والجغرافيا على حد سواء:
ليسَ هذا الوطنُ المربّعُ الخاناتِ كالشطرنجِ..
والقابعُ مثلَ نملةٍ في أسفلِ الخريطة..
هوَ الذي قالّ لنا مدرّسُ التاريخِ في شبابنا
بأنهُ موطننا الكبيرفي قصيدته «طعنة في الظهر لا تكفي» يقف الشاعر صلاح إبراهيم الحسن موقفاً مسانداً للخريطة العصية على الاختصار والتقزيم:
وطن يفكر كيف يختصر المسافة
بين قلبك والزناد
وطن يفكر كيف يختصر الخريطة
بين أحزاني وأعراس البلادوفي قصائد صلاح الحسن تأبى الخرائط على الإكراه ويأنف وجهها من الابتسام خوفاً، مثلما يقول في قصيدته «حليب سال من ثدي السماء»:
هل (كرهاً) سينتبذون أوطاناً
تعارفنا على نسيانها في وقتِ محنتِها؟
وهل (خوفاً) ستبتسم الخريطة
للجنود العابرين النّهر في هذا الصَّباح؟وبالخريطة يفتتح محمد حسن علوان قصيدته «عطب» محيلاً الخريطة إلى ساعة مكانية تحتسب المواعيد، فيقول:
منذُ خمسين خريطة..
كان عندي إصبعٌ لم يرتفع قطُّ سوى في حصة الحبِّ،
ولم ينزل سوى في لحظة التوق، وفي ثغر الأخيرة..ويبحث في قصيدته الأخرى «بغداد» عن الخريطة الأرض:
وانغلق الطريقُ الكوكبيُّ
إلى السماءْ !
أغلقي عينيكِ.. وانطلقي ورائي..
لم يعد في الأرضِ متّسعٌ..
سنبحثُ عن خريطة!ويرسم أدونيس الخريطة في شكل رغبة نابضة في قصيدته «الصقر» فيقول:
صَلّيتُ
وشوَشْتُ حتّى الحجار
وقرأتُ النّجوم، كتبتُ عناوينَها ومحوتُ
راسِماً شَهْوتي خريطَهْ
وَدَمي حِبْرُها وأعماقيَ البَسيطَهْ.بينما تعتبر سعاد الصباح الحب هو الأرض وخريطته المحبوب:
خذ الخريطة
ورتبها كما تشاء
فالقارات أنت
والبحار أنت.
وأنا أنت..
الخريطة في لوحة الفن التشكيلي
كانت الخريطة وما زالت شكلاً جمالياً لافتاً للانتباه ومشبعاً للذائقة الفنية، وكان كثير من رسامي الخرائط في الأصل فنانين تشكيليين، من أمثال الرسام الإنجليزي جوزيف تيرنر، الذي اعتبره النقاد من أعظم الرسامين الإنجليز لقدرته على رؤية العالم بطريقة جديدة عبر تحديده الذكي للعلاقة بين الطبيعة والفنون.
وما زالت الخريطة حتى اليوم مادة للإبداع الفني، سواء برسمها، أو بالرسم عليها، إذ أصبح الرسم على الخرائط موهبة جذبت كثيراً من الفنانين الشباب إليها، مثل الفنان إد فيربورن، الذي يَعُد أن في كل خريطة وجهاً ما يختبئ خلف المدن والشوارع ينادي الفنان لإخراجه إلى الدنيا.
أما الفنان الأسكتلندي الشاب إيفرت باربي فيخوض تجربة غريبة نوعاً ما برسمه للخرائط عبر الخط العربي رغم أنه قَدِم من بيئة ثقافية مغايرة لا تعرف التشكيل بالخط العربي. وإيفرت الذي أقام لمدة في العديد من الدول العربية يحاول أن يستخدم النصوص العربية لنسخ وتكرار الصور ذات التفاصيل الكثيرة تحقيقاً للمظهر الجمالي الذي يتميز به الخط العربي.
أما الفنان مايكل والاس فيستخدم نظام GPS كسنّة قلم يرسم بها تفاصيل لوحته الفنية على جسد الخريطة. ويعتمد هذا الفنان، الذي أطلق على طريقته في الرسم على الخرائط اسم (GPX Riding)، على ركوب دراجته وبيده جهاز GPS متنقلاً من مكان إلى مكان، إلى أن تتضح لوحته الفنية النابضة بالحياة، بشكل غير متوقع، يؤكد على أن الفن يختبئ خلف كل خريطة، وداخل كل إنسان.
خريطة الطقس
تجمع خريطة الطقس الوصف الكلي لحالة الجو المتوقعة والمشاهدات الجوية في فترة ما، قد تكون طويلة، أو قصيرة، وفي مكان محدد من الأرض، عن طريق حساب درجات الحرارة والأمطار والرطوبة والضغط الجوي والرياح والسحاب ومقدار الإشعاع الشمسي وغيرها من التفاصيل المناخية التي باتت مصدر اهتمام للإنسان المعاصر.
وتتحدد معطيات خرائط الطقس في العادة في طبقات الجو العليا على ارتفاعات مختلفة عن سطح الأرض. وقيل إن استخدام خرائط الطقس بمعناها الحديث بدأ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في محاولة لتصوير أنظمة العواصف.