قول في مقال

السينما الهندية مثلاً

عشية بدء عرض الفلم السينمائي “بادمافات” في 25 يناير الفائت، نشرت الصحف الهندية أن ثلاث حكومات من ولايات البلاد قرَّرت إغلاق المدارس، تخوفاً من تفشِّي الشغب الذي كان قد بدأ في أنحاء متفرقة من البلاد، لأنَّ بعض “الراجبوتيين” رأوا أن الفِلْم يسيء إلى ذكرى ملكتهم الأسطورية استناداً إلى مجموعة إشاعات لم يكن لها أساس من الصحة.
إننا لسنا هنا لمناقشة محتوى هذا الفِلْم بحد ذاته، ولكن للتوقف أمام الوقع الكبير الذي يمكن لعمل فني وثقافي أن يحدثه في المجتمع الذي يتوجَّه إليه، وأن يفجّر ردود فعل مؤيـدة ومعترضة، علماً أنه مبني على قصيدة، وليس على وقائع تاريخية. والسينما الهندية تؤكِّد مرة أخرى، أنها ناجحة في الالتحام بمجتمعها، بشكل يحسدها عليه كل الذين فشلوا في ذلك، وفي مختلف أوجه العمل الثقافي في مجتمعات أخرى، ويلقون باللوم على مجتمعاتهم “الجاهلة”.
فالسينما الهندية التي هي اليوم الأولى عالمياً من حيث عدد الأفلام المنتجة سنوياً، والثانية من حيث الحجم الاقتصادي، وصلت إلى ما وصلت إليه بفعل تحقيقها لتوازن في غاية الحساسية بين الخطاب الذي يريد صانعو هذه السينما أن يلقوه على مجتمعهم، وبين الخطاب الذي يريد هذا المجتمع سماعه. ولهذه الغاية، كان عليها أن تحقِّق توازناً آخر بين الترفيه والتثقيف، واعتماد اللغة السينمائية التي تفهمها العامة بسهولة وتستسيغها ذائقتها الخاصة. وهذا ما جعل الصورة العامة للأفلام البوليودية مختلفة تماماً عن الأمريكية وباقي الصناعات السينمائية التي سارت على خُطى هذه الأخيرة.
فعندما نرى في فِلْم هندي أن اللكمة تقذف بالرجل الشرير مسافة خمسين متراً وتجعله يهدم حائطاً ارتطم به، فهذا لا يعني أن المخرج لا يعرف ما تؤدي إليه اللكمة فعلاً. ولكنه يقدِّم للمشاهد ما يتمنى هذا الأخير أن يحصل.
وعندما نرى أن مشكلة تبدو عصية تماماً على الحل، تُحَلّ فعلاً في اللحظات الأخيرة بفعل موعظة أخلاقية أو صحوة ضميـر، فالأمر ليس عيباً كتابياً، ولكنه دعوة إلى استخدام العقل والحكمة الغالية على قلوب الهنود.
وطالما أن العامة المتعبة في حياتها اليومية تبحث عن فسحة ترفيه مفرحة، كان على كل فِلْم بوليودي أن يتضمَّن بعض الأغنيات والرقص الاستعراضي.
ولكن هذا لا يعني أن السينما الهندية هي مجرد تنازلات وممالأة للجمهور. ففي شطر كبير ورئيس منها، هي سينما قائدة وتوعوية وموجِّهة اجتماعياً. وأفلام النقد الاجتماعي والسياسي أكثر من أن تُحصى. فباستثناء الجيش، لا أحد في البلاد محصّن ضد نقد السينما له، بدءاً بالفساد في صفوف الشرطة وصولاً إلى الوزراء والإقطاعيين من بقايا الحكَّام القدماء، مروراً بكل التقاليد الاجتماعية السلبية مثل المهور الغالية التي تعيق الزيجات، والاختلاط الطبقي مع من كانوا منبوذين. كما أنَّ بعض المخرجين قدَّموا بنجاح أفلاماً ذات واقعية اجتماعية في غاية الحساسية والدقة.
لقد أخذت السينما الهندية من الأمريكية التقنية فقط، وطوّرت هذا الجانب خلال السنوات القليلة الماضية بشكل مثير للإعجاب. ولكنها لم تكترث بتاتاً “للواقعية” الأمريكية، ولا “للحذلقة” الثقافية الأوروبية، بل بقيت روحها هندية خالصة.
ولو شئنا أن نضيف في هذا المجال الضيق عاملاً آخر من عوامل نجاح السينما الهندية، لاخترنا “الجدية” التي تمّيز صناعتها، والتي غالباً ما تخفى عن النظرة السطحية إليها. وعلى سبيل المثال نذكر المهارات التي تشترط على الممثلين التمتع بها للوصول إلى الصف الأول، والتي تتجاوز حسن التعبير عن الشخصية المطلوب تأديتها، لتضم أيضاً الرقص واللياقة البدنية المماثلة للياقة الرياضيين المحترفين، وغير ذلك مما يتطلب تمارين يومية شاقة. ولو تطلعنا إلى العشرين اسماً الألمع في السينما الهندية، لوجدنا أنهم جميعاً يتمتعون بمهارات قلما تجتمع في ممثل من السينما الأوروبية مثلاً.
فهل السينما الهندية تجربة أم درس؟
لكل أن يتطلع إليها كما يشاء.

أضف تعليق

التعليقات