عين وعدسة

خلوة ابن خلدون
مغارات بني سلامة حيث
ولدت “المقدمة”

في مرتفعات الأطلس التلّي، على ارتفاع 1260 متراً عن سطح البحر وعلى بُعد حوالي 400 كيلومتر جنوب غربي العاصمة الجزائرية، تحتل قلعة بني سلامة في منطقة “تاغَزُوت”، مكاناً حصيناً يشرف على سهول “وادي التَّحت” الشاسعة والخصبة. وفي هذه القلعة ثلاث مغارات صارت تَعرف منذ القرن الرابع عشر الميلادي بمغارات ابن خلدون، أو خلوة ابن خلدون، كما يحلو لبعض المهتمين بتاريخ ابن خلدون وحياته تسميتها. أليس غريباً أن يلجأ ابن خلدون، وهو الّذي عاش وتنقّل بين أهمّ الحواضر المغربية والأندلسية، إلى هذه المغارات المعزولة ليَدوّن داخلها أحد أعظم الكتب التي عرفتها الإنسانية؟

المغارة التي استضافت ابن خلدون لثلاث سنين وعشرة أشهر (1375م نوفمبر 1377م)، تبعد ستة كيلومترات عن مدينة فرندة التابعة لولاية تيارت أو تيهرت، وتُعرف كذلك باسم تاهرت (عند بعض المؤرِّخين) الّذي يعني اللبوءة في لغة البربر، أو تاغزوت.
تيهرت هي إحدى الحواضر الإسلامية القديمة، بناها الإمام عبدالرحمن بن رستم، أوّل ملوك الدولة الرستمية عام 160هـ وجعلها عاصمة دولته. وهي أول دولة إسلامية مستقلة في المغرب العربي، وقد وصفها المقدسي في كتابه “أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم”، فقال: “هي بلح المغرب، قد أحدقت بها الأنهار، والتفَّت بها الأشجار، وغابت في البساتين، ونبعت حولها العين، وجل بها الإقليم، وانتعش فيها الغريب، واستطابها اللبيب…”
وبعد سقوط الدولة الرسمتية عام 296هـ على أيدي الفاطميين، عرفت تيهرت هجرة كبرى لسكانها نحو الصحراء الكبرى للجزائر. وعلى الرغم من ذلك، ظلّت تيهرت مركز عبور القوافل ومركز إشعاع ثقافي.
وقد اعتبرت تاغزوت (قلعة بن سلامة) منذ الفتح الإسلامي للمغرب العربي موطن تجمع لأحد بطون القبائل البربرية الكبرى المعروفة بزناتة، الّتي ارتأت الحياد ولم تنخرط في الصراع القبلي والمذهبي بين قبيلتي زناتة وصِنهاجة، الذي دام طويلاً لعدّة قرون بعد سقوط الدولة الرستمية.
وفي عهدي الدولتين المرابطية والموحدية، تحوَّلت تاغزوت ملجأً لبعض قبائل زناتة، فلم يَذكرها المؤرخون، ولم يهتم بها الجغرافيون، ولا وَردت في كتب الرحّالة، حتى استقرت القبائل الهلالية بالهضاب العليا وفي السهوب الوهرانية، ثم عمد الأمراء الزيانييون بتلمسان للاستعانة بهم في صراعهم الطويل مع الحفصيين بتونس وبجاية والمريين بفاس على مدى قرون من الزمان.
صارت تاغزوت موطناً لقبائل توجين الموالية لعشائر سويد الهلالية. لكن أحد زعماء قبيلة بني يدللتن تمكَّن من امتلاكها وهو الشيخ سلامة ابن نصر سلطان وبنى عليها قلعة (ويذكر بعض المؤرخين أنّ نزمار بن عريف بنى داخلها قصراً) لتكون سكناً له، فنسبت إليه وصارت تعرف باسم: قلعة بني سلامة.
وحين استولى السلطان المريني أبو عنان (753هـ/ 1352م) على المغرب الأوسط، وحاصر تلمسان عاصمة الزيانيين، اقتطعها منه. واعتنى أبو بكر بن عريف بالقصر الذي آوى ابن خلدون فترة. ولم يبق من القلعة غير الاسم المتداول بين سكان فرندة اليوم، وهو “تابراجت” الذي يعني الأبراج. وكانت قد تعرَّضت للتخريب أوّل مرّة على يد السلطان الزياني أبو حمو الثاني (770هـ/ 1368م) بعد أن قتل أميرها نصر بن علي. ثمّ تعرَّضت، مرّة أخرى، للتهديم، وهجرها سكانها بعد سقوط الدولة الزيانية (962هـ/ 1554م).

ابن خلدون: الشخصية المركَّبة
هل من باب القدر أن يولد ابن خلدون في زمن عرف تأجج الصراعات بين قوى ثلاث أو أربع، حسب تمدُّد أو تقلص ولاءات العشائر العربية (خاصة الهلالية) والبربرية (زناتة وصِنهاجة) على المغرب الغربي والأندلس، إضافة إلى عوامل أخرى، أقل ما يقال عنها أنّها عوامل طبيعية؟ وكيف أمكن للعلّامة أن يتنقل بين أجنحة الصراع ويحافظ على مكانته العلمية ويتقلّد مناصب في بلاطات السلاطين والأمراء المتناحرين قبل أن ينسحب من دائرة الصراعات، ويلجأ إلى مغارة بني سلامة ليكتب أحد أهم الكتب الّتي أسهمت في إثراء الثقافة الإنسانية، بتأسيسها لعلم الاجتماع ووضعها لأصول فلسفة التاريخ؟
رغم أن ما وصلنا عن حياة ابن خلدون غابت عنه تفاصيل كثيرة، فالمؤكد أنّه ولد عام 732هـ (1332م) بتونس، وتعلم بها آخذاً العلوم عن مشايخها، من فقه ولغة وتاريخ وجغرافيا وفلسفة وغيرها من العلوم. إذ كان التعليم آنذاك مُميّزاً بوحدة المعرفة، أي أن يأخذ المتعلّم كل العلوم المتاحة ليكون بذلك موسوعياً بعيداً عن التخصص في علم واحد. وحين بلغ الخامسة عشرة من عمره، توفي والداه بوباء الطاعون الأسود، الذي ضرب تونس والقاهرة وقضى على عدد كبير من الناس.

صارت تاغزوت موطناً لقبائل توجين والمرتبطة ولاءً بعشائر سويد الهلالية، وهو ما مكّن بعض العرب المنقطعين من سويد الهلالية الاستقرار بها، لكن أحد زعماء قبيلة بني يدللتن من توجين تمكن من امتلاكها وهو الشيخ سلامة بن نصر سلطان وبنى عليها قلعة لتكون سكنا له، فنسبت له وصارت تعرف باسم: قلعة بني سلامة

ويقول ابن خلدون إنّه بعد الطاعون، وأمام محنة اليُتم، لجأ إلى الكتب يدرسها، وواظب على حضور حلقات دروس العلماء، حتى بلغ سن العشرين، واستدعاه الوزير محمد بن تفراجين ليكتب العلامة السلطانية عن سلطان الحفصيين بتونس، ولم ترق له هذه الوظيفة، فشدّ الرحال إلى بجاية ومارس لفترة مهنة الحجابة، ثم رحل إلى فاس، التي كانت تحت حكم السلطان أبي عنان فارس المريني المحب للعلماء والفقهاء، فقربه وعيّنه كاتباً مختصاً في نقل شكاوى الناس وعرضها عليه، ثم نقل أجوبته وتحريرها وعرضها على المشتكين أو على الأمراء والولاة لتنفيذها، لكن السلطان لم يلبث أن سجنه بعد أن اتهمه بالتآمر عليه لصالح أبي عبدالله محمد بن أبي زكريا الحفصي، أميــر بجاية المسجون بفاس.
وبعد أن تدخّل الوزير لسان الدين ابن الخطيب (1313 – 1374م) لدى السلطان المريني، خرج ابن خلدون من السجن في أوائل عام 1363م، ورحل إلى غرناطة التي كانت تحت حكم أبي عبدالله النصر ثالث ملوك بني الأحمر، فعيّنه وزيراً له، ثم عيُّن وسيطاً لعقد صلح تاريخي بين “بيدرو القشتالي” (1320-1367م) وملوك المغرب العربي. لكن علاقته ساءت بصديقه السابق الوزير الشاعر ابن الخطيب، فرحل إلى إشبيلية معقل أجداده. غير أن مقامه بها لم يدم طويلاً فعاد إلى فاس، ثم منها إلى تلمسان، التي كانت قد عادت من جديد إلى حكم أبي حمـو موسى الثاني الزياني (723-791هـ) بعد صراع مرير عليها مع المرينيين.
اعتكف ابن خلدون بالعبّاد بتلمسان، معتزلاً السياسة بعد أن أكرمه السلطان الزياني، الذي كان شاعراً ومؤرخاً، تقديراً لعلمه. ولم تدم إقامته بالعبّاد طويلاً حتى استدعاه السلطان أبو حمو الثاني، وكلفه بمهمة وساطة لدى عرب الذواودة لعقد تحالف معهم والاستعانة بهم في حربه ضد المرينيين، وكان ابن خلدون كان قد تزّوج منهم في خروجه الأول من بجاية. خرج ابن خلدون قاصداً بسكرة، تاركاً وراءه زوجته وأبناءه. وفي تاغزوت لقي ترحاباً ومساندة من أولاد عريف الذين نصحوه بعدم المغامرة والسفر إلى قبائل الذواودة، التي كانت تشهد صراعات وتناحرات بينها. وتكفلوا بالوساطة لدى السلطان الزياني ليصرف نظره عنه ويسمح لأسرته التي تركها بتلمسان لتلتحق به. ويعبّر ابن خلدون عن ذلك فيقول: “التحقت بأحياء أولاد عريف قبلة جبل كزول فتلقّوني بالتّحفي والكرامة، وأقمت بينهم أياماً حتّى بعثوا عليّ أهلي وولدي بتلمسان، وأحسنوا العذر إلى السلطان عني في العجز عن قضاء خدمته، وأنزلوني في قلعة بني سلامة”.

عبدالرحمن ابن خلدون في خلوته
دام مقامه بقلعة بني سلامة نحو سنوات أربع، معتكفاً بمغاراتها، بعيداً عن قصور السلاطين وبلاطاتهم، وعن دسائس السياسيين وصراعاتهم. وخلال هذه الفترة كتب المقدمة، التي هي في الأصل مقدِّمة لكتابه الضخم: “العبر، وديوان المبتدأ والخبر أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر” وبعضاً من هذا الكتاب.
لا شك أن المقام كان مريحاً وملهماً، يبعث على التفكير والتحليل وسعة النظر في الصراعات الّتي عصفت بالمغرب العربي منذ الفتح الإسلامي. وقال عن عمله في هذه القلعة: “وشرعت تأليف هذا الكتاب وأنا مقيم بها (يقصد قلعة بني سلامة)، وأكملت المقدمة منه على ذلك النحو الغريب الذي اهتديــت إليه في تلك الخلــوة، فسالت فيها شآبيب الكلام والمعــاني على الفكر حتى امتخضت زبدتها وتألفت نتائجها”.
لقد ابتكر ابن خلدون طريقة ومنهجاً في كتابة التاريخ، حيث لم يعد التاريخ مجرد تدوين للأحداث بعيداً عن التمحيص الدقيق وتحليل الأسباب والنظر في العوامل لفهم ظاهرة التغير في المجتمعات والأمم، بل أخضــع التحـولات التي تطرأ على المجتمعـات والدول إلى قوانين.
لقد جعل ابن خلدون مجتمعات، على اختلاف أعراقهم ومذاهبهم، ودول المغرب الإسلامي محلّ نظره ومجال دراسته. ونظراً لحنكته وتجربته العلمية وخبرته في ممارسته للوظائف السلطانية، متنقلاً بين تونس وبجاية وتلمسان وفاس وغرناطة، وعلاقاته الوطيدة بالقبائل العربية أو البربرية، فقد تمكَّن من تجاوز النظرة المحدودة والقاصرة إلى الأحداث كما تجاوز الموقف الذاتي لفهمها. وحتى يستطيع أن ينظر في ذلك، لجأ إلى قلعة بني سلامة مبتعداً عن تأثير السياسيين والسلاطين وأصحاب النفوذ.

خلوة ابن خلدون
لقد جاءت المقدِّمة، التي كتبها عبدالرحمن ابن خلدون في خلوته ببني سلامة بعد انقطاعه للتأمل بعيداً عن كل إغراءات الحياة، فكراً خالصاً وعلماً جديداً يتميَّز بدقة الملاحظة وعمق التحليل وسلاسة الأسلوب ووضوحه. وهو ما جعل الأنثروبولوجي وعالم الاجتماع جاك بيرك (1910-1995م) المولود بفرندة، يستقر بها ويحاول فهم تأثير الخلوة في ابن خلدون وكتاباته، خاصة وأن كتاب العبر بعدها لم يرق في مستواه اللغوي والعلمي لما وصلت إليه المقدمة. فبعد رحيله من قلعة بني سلامة افتقد العلّامة الهدوء الذهني، وربما، الحافز النفسي خاصة بعد استقراره في مصر.
ومغارات بني سلامة هي عبارة عن ثلاث مغارات متجاورة، إحداها عبارة عن صحن واحد مجاور لمغارة أخرى فيها ثلاث غرف صغيرة جانبية تتفرع عن صحن لا تقل مساحته عن 12متراً مربعاً، يمكن لزائرها أن يتحرَّك داخلها بحرية، وتكفي لعدة أشخاص. وعند مدخلها، بقايا عين ماء تنبع من الصخور، وحسب بعض الروايات فهذه المغارة كانت مقر سكنه. أما المغارة الأخرى التي تبعد عن الأخريين بعدة أقدام نزولاً، فتتكوَّن من صحن كبير يسمح بالحركة والاستلقاء، وكانت خلوته الخاصة بالكتابة والعبادة. وتطل المغارات الثلاث مباشرة على سهول وادي التّحت الشاسعة والخلابة بمناظرها الجميلة ومياهها المتدفقة. وتمنح جوّاً لطيفاً أيّام الحرّ الشديد الذي يميّز منطقة تيهرت كلها في فصل الصيف. وأسفل المغارات مباشرة من جهة الغرب، يوجد حوض مائي وسط الصخور، تقول عنه الروايات المحلية إنه كان مكان استحمام العلّامة.

“التحقت بأحياء أولاد عريف قبلة جبل كزول فتلقوني بالتّحفي والكرامة، وأقمت بينهم أياماً حتّى بعثوا عليّ أهلي وولدي بتلمسان، وأحسنوا العذر إلى السلطان عنِّي في العجز عن قضاء خدمته، وأنزلوني في قلعة بني سلامة” – (ابن خلدون)

وعلى الرغم من اعتبار قلعة بني سلامة موقعاً وطنياً منذ عام 1967م، إلّا أنّه يعاني الإهمال. فقد فقدت إحدى المغارات سقفها جرّاء تآكل الصخور بفعل العوامل الطبيعية. واختلطت مياه الحوض المحاذي للمغارات بمياه الصرف الصحي المتدفقة من منازل تمّ بناؤها حديثاً ليس بعيداً عن الموقع، إضافة إلى بقايا وفضلات السياح، الّذين يزورون المكان بحثاً عن المناظر الخلابة وليس عن تأمل خلوة ابن خلدون.
قلعة بني سلامة موقع أثري وطبيعي، حيث ما زال بعض الزوار يعثرون فيه على قطع نقدية قديمة وأوانٍ فخارية بعيداً عن اهتمام الجهات الوصية أو الباحثين وذوي الاختصاص. خاصة وأن المنطقة عاشت فيها قبائل البربر منذ القرن الثاني قبل الميلاد ثم عمّرها الرومان بعد ذلك. فهل تعود الحياة إلى هذا الموقع الذي شهد ولادة علم الاجتماع وأصول فلسفة التاريخ؟

أضف تعليق

التعليقات