حياتنا اليوم

ميدانها علم المحاسبة

ثورة القرن الحادي والعشرين

MODثورة القرن الواحد والعشرين يقودها متمردون من نوع آخر، ألا وهم خبراء المحاسبة. بفعل عاملين أساسيين، هما: الأزمة المالية العالمية في عام 2008م، والأزمة البيئية المتفاقمة. وهذه الثورة هي ذات أبعاد مهمة قد تُغيِّر طريقة التعاملات في عالم الأعمال كما ستبدِّل طبيعة الرأسمالية بحد ذاتها.

من المؤكد أن حسابات الدول والمؤسسات حيوية جداً للاقتصاد العالمي، حيث تترجم القيمة إلى اللغة الرائجة في العصر الحالي، ألا وهي لغة الأرقام والمال في شكل الناتج المحلي الإجمالي وحجم الأرباح. فهي التي تحكم العالم. ولكن تكلفة هذا النظام الذي تتم على أساسه هذه الحسابات أصبحت واضحة بشكل متزايد، وصار من الصعوبة بمكان تحمُّل تبعاتها. وقد استدعى ذلك قيام نوع من الثورة في أنظمة المحاسبة في محاولة لتخفيف الأضرار.ومن أبرز مميزات هذه الثورة أنّها أحدثت تقارباً بين عالمين مختلفين تماماً. فقبل حوالي ربع قرن كان المتخصصون في علم المحاسبة وعلماء الأنثروبولوجيا وكأنهم ينتمون إلى فضاءين مختلفين، حيث يتميز الذين ينتمون إلى الفريق الأول بالعقلانية والاهتمام بالأرقام دون غيرها، بينما ينكب اهتمام الفريق الثاني على الأمور غير الملموسة كالقضايا البيئية والرعاية الاجتماعية وغيرها.

القضية على المحك هنا هي كيف نصنِّف العالم؟ تقليدياً، كان الافتراض السائد أن ما يقوم به أخصائيو المحاسبة هو قياس بنود لها قيمة محسوسة واضحة وهم جالسون في مؤسسات معينة ومساحات جغرافية محددة، مثل تحديد قيمة البضائع المخزنة في المستودعات ورواتب الموظفين والمبالغ النقدية وما إلى ذلك. هذا ما كان يبدو عليه الاقتصاد والرأسمالية في وقت كان يُعد فيه خبراء المحاسبة أنّ ما يهتم به علماء الأنثروبولوجيا مثل استدامة البيئة والعلاقات الإنسانية والثقة الاجتماعية أمور غير محسوسة ولا يمكن قياسها وبالتالي عليهم تجاهلها.

المحاسبة التقليدية إلى زوال؟
جاءت الممارسات الحديثة في علم المحاسبة، التي نعدها من المسلَّمات، نتيجة الثورة الصناعية التي قامت في أوروبا في القرن الثامن عشر. إلَّا أنّ نظام إدارة الحسابات على طريقة القيد المزدوج كان أول ما ظهر في القرن الخامس عشر في البندقية، ومن ثم بدأ بالازدهار والرواج بشكل ظاهر عندما أبدت المؤسسات المختلفة حاجة لقياس عملياتها المعقَّدة عندما بدأت الإنتاج على نطاق واسع.

أظهرت إدارة الحسابات بالقيد المزدوج فعّالية مناسبة للعصر الصناعي ولكنّها غير ملائمة بطريقة كافية للعصر الرقمي الحالي. إذ لا يسجِّل نظام الحسابات التقليدي قيمة الأصول غير الملموسة التي تحرِّك النمو الحديث مثل الأفكار وشبكات التواصل والعلاقات الإنسانية على سبيل المثال. ولا يقيس التكاليف التي تتجاوز الحدود أو العوامل الخارجية، كما يسميها علماء الاقتصاد، مثل خسارة المياه النقية والمجتمعات المستدامة والتربة الخصبة والمناخ الصحي.

من أبرز مميزات هذه الثورة انّها أحدثت تقارباً بين عالمين مختلفين تماماً. فقبل حوالي ربع قرن كان المتخصصون في علم المحاسبة وعلماء الأنثروبولوجيا وكأنهم ينتمون إلى فضاءين مختلفين

هناك حاجة لكي يغيّر أخصائيو المحاسبة نظرتهم إلى تعريف رأس المال، من خلال توسيع فكرة رأس المال النقدي ليشمل أنواعاً جديدة من الثروة مثل الثروة الفكرية والبشرية والاجتماعية والطبيعية. وهذه الثروات هي التي أشارت إليها بالتحديد جين غليسون وايت في كتابها «رؤوس الأموال الستة أو هل يمكن لخبراء المحاسبة إنقاذ الكرة الأرضية؟». ويبدو أنّ الطريقة الوحيدة لمواجهة الأزمات التي نعيشها في الوقت الحالي هي إدخال أنواع رؤوس الأموال الجديدة على أنظمة المحاسبة المعتمدة. وهناك بالفعل خبراء محاسبة بدأوا يقومون بذلك. على سبيل المثال هناك شركات مثل شركة «بوما» للمنتجات والألبسة الرياضية وشركة «يونيليفر» للمنتجات الغذائية وأدوات التنظيف بدأتا تأخذان في الحسبان بصماتهما الاجتماعية والبيئية بالإضافة إلى المقاييس المالية الاعتيادية.

التكلفة الحقيقية مثلاً
منذ بضع سنوات حاولت مجموعة من الباحثين في الهند قياس التكلفة الفعلية لقطعة همبرغر تباع بسعر 4 دولارات، مثل خسارة الغابات المطيرة والنظم الإيكولوجية التي توفرها تلك الغابات وخسارة الأوكسجين والتنوع البيولوجي… إلى ما هنالك. وكان استنتاجهم أنّ سعر قطعة الهمبرغر بتكلفتها الفعلية يجب أن يكون أقرب إلى 200 دولار.

accountsوكانت بعض الحكومات قد بدأت تختبر أفكاراً مشابهة. ففي عام 2011م أطلقت «الهيئة العالمية للتقارير المتكاملة» مبادرة تهدف إلى دمج تقرير رأس المال الطبيعي في حسابات القطاع الخاص، ولجعل رأس المال الطبيعي جزءاً من صنع القرار في قطاع الأعمال في 2020م. وكان من أبرز المستجيبين لتلك المبادرة «البنك الوطني في أستراليا»، وهو أكبر مصرف في أستراليا للتسليف الزراعي، حيث أعلن تغيير سياساته ليبدأ الأخذ بعين الاعتبار استدامة الممارسات الزراعية، مما يعني بأن المزارعين الذين يعتمدون الأساليب الزراعية التي تحافظ على البيئة يحصلون على تسهيلات ائتمانية أفضل. هذا بالإضافة إلى أربعين مؤسسة أخرى مثل «بنك الصين للتجَّار» و«بنك ستاندرد تشارترد» اللذين اعترفا بأهمية رأس المال الطبيعي في الاقتصاد العالمي، وبأن أخذه بعين الاعتبار يوفر مليارات الدولارات من الأخشاب والمياه والطاقة. كما أنه في 2007م قدّر «مكتب التوثيق الوطني» قيمة الخدمات التي يقدّمها النحل إلى الاقتصاد البريطاني بـ 200 مليون جنيه إسترليني. أما قيمة البيع بالتجزئة لما يتم تلقيحه من قِبَل النحل فقد قدِّر بمليار جنيه إسترليني.

وقد يتعجب البعض من هذه التقديرات غير المألوفة، وقد يعد المهتمون بالبيئة بأنه لأمر غير مقبول أن نضع ثمناً على الطبيعة. فالنحل، مثلاً، له قيمة كبيرة وليس فقط من الناحية المادية. ومن ناحية أخرى هناك عديد من المصرفيين ومديري الاستثمار الذين لا يتقبلون مبدأ اهتمام الشركات بأمور غير المستثمرين ويخشون أن يكون الأمر مشتتاً. كما أن هناك عديداً من الشركات التي تدعي المسؤولية الاجتماعية والبيئية ويكون في ذلك كثير من عدم الصدق وتحريف الحقائق.

ومع ذلك، فمن المفيد أن نأخذ كل هذه الأفكار الجديدة على محمل الجدّ؛ لأنّها تجعلنا نفكّر بالطريقة التي نقيس بها العالم ونصنّفه. وقد يبدو ذلك صعباً لأن الأنظمة التي نتعامل معها متجذِّرة بطريقة عميقة، ولذلك فهي صعبة التغيير. ومعظمنا يجد أنه من الطبيعي أن يفصل خبراء المحاسبة التعاملات الاقتصادية البحتة عن العوامل الأخرى. وإنما في الحقيقة، وكما أشار المفكّر الفرنسي مارسيل موس قبل حوالي قرن مضى، بأنّ فكرة عزل التعاملات الاقتصادية عن إطارها الأوسع، فكرة «غير طبيعية» بالنسبة لمعظم الثقافات عبر التاريخ. فعلى العكس من ذلك، في معظم المجتمعات المختلفة يصعب تخيّل التعاملات الاقتصادية دون روابط اجتماعية وبيئية وطبيعية وغيرها.

والسؤال الذي يجدر طرحه هنا: إذا ما أراد أي شخص أو جهة ما تصميم نظام جديد لقياس وتصنيف العالم في عصر العولمة، هل سيبدو عليه مثلما هو النظام الحالي القائم؟

من المؤكد أن يكون الجواب بالنفي. لذلك حان الوقت لكي نفكر ببديل جديد، وربما التواصل وتبادل الأفكار والآراء مع علماء البيئة والأنثروبولوجيا.

أضف تعليق

التعليقات