بيت الرواية

حي الأميركان

لجبُّور الدويهي

قصة مدينة واحدة وشخصين

Screen Shot 2015-01-08 at 18.52.18«حي الأميركان».. هي الرواية الأخيرة لجبّور الدويهي، في سلسلة أعمال بدأت قبل ربع قرن بمجموعة قصصية، أتبعها بخمس روايات تُرجمت إلى معظم اللغات الأوروبية، وانتزع بعضها جوائز عربية وعالمية مثل روايته «شريد المنازل» التي حضرت أيضاً على اللائحة القصيرة لجائزة «بوكر» للرواية العربية، إلى جانب «مطر حزيران» أيضاً.

يتابع الخط الرئيس للرواية حياة شاب من أحد أحياء المدينة تصل به ظروفه إلى الالتحاق بأحد التنظيمات السياسية المقاتلة. ويعود اسم «حي الأميركان» في الأساس إلى مدرسة بناها مبشِّرون في بدايات القرن الماضي هي «مدرسة طرابلس للصبيان»، المعروفة على المستوى الشعبي بمدرسة الأميركان. المدرسة نفسها لا تظهر في الرواية، كما لا تظهر أي آثار لها في نمط المعيشة أو التفكير على أهل الحي، وهو من الأحياء التي تسارعت الظروف المعيشية في تحويلة إلى أحد أشد أحياء المدينة اكتظاظاً وفقراً. والحقيقة أن هذا الروائي المرهف الحس والشديد القرب من الناس وأوجه حياتهم اليومية، ينجح في نقل صورة شديدة الالتصاق بمدينة لها كثير مما يميّزها، ويميّز تفكير أهلها على اختلاف انتماءاتهم.

وبطبيعة الحال، فإن الفترة التي تجري فيها أحداث الرواية ما زالت حاضرة ومستمرّة، وكثير من أخبار المدينة لا يزال يتصل بشكل أو بآخر بمجريات الرواية، كما أنها فترة كانت المدينة قد مرَّت قبلها بمراحل أفقدتها كثيراً من أوجه جمالها وبحبوحتها، ومن جملة ذلك تبدل أحوال أحياء فيها كانت معروفة بتجارات أو صناعات معينة، ومحاطة ببساتين الليمون، الذي أعطى المدينة لقبها «الفيحاء» الذي أصبح غير ذي مدلول بعد أن قُطعت الأشجار وأجهز على كثير منها. تدور أحداث رواية الدويهي الأخيرة في مدينة طرابلس، شمال لبنان. والزاوية التي تُسرد منها أحداثها تتصل مباشرة بتطوّرات نعيشها اليوم، وتعيشها مدينة طرابلس نفسها أكثر من غيرها من المدن.

والحقيقة أن لطرابلس المدينة خصوصيات كثيرة، من اختبرها سوف يزداد استمتاعاً بقراءة الرواية، التي تختلف عن سابقاتها باتصالها بظرف سياسي آني، وإن كانت خلفياته تعود في الحقيقة إلى عقود سابقة بلا شك. رغم ذلك، طرحنا على الروائي السؤال: هل أنت نادم على كتابة هذه الرواية ولو من ناحية الانتقال من الحبكة الاجتماعية الخالصة (والقروية إلى حد بعيد) في رواياتك السابقة، إلى موضوع هادف سياسياً وساخن ويزداد سخونة كل يوم، وكأنه نوع من التحوّل يصعب التراجع عنه فأجاب:
«وهل ينفع الندم في هذا الباب؟ لا أنفي مطلقاً أني بدأت انتسابي إلى السرد الروائي بمحاولة مكررة، ربما لكتابة مقاطع من مرويات شفهية على لسان أمي، أو أصدقاء رواة بالفطرة يستعيدون فصولاً من حياتهم العامة وسير شخصيات بعينها تمتاز بفرادتها.
والواقع أني «نزلت» قبل «حيّ الأميركان» إلى بيروت العاصمة في رواية «شريد المنازل» عندما حاولت تصوير يوميات وأوهام جيل هو جيلنا، عشية الحرب الأهلية. أما روايتي الأخيرة فلم أختر الاستهداف «السياسي» بقدر ما عملت على إعادة إنتاج حيِّز مديني أعرفه جيداً، لأني تعلّمت في مدارسه وعلّمت في جامعته، وأقصده يومياً للقاء الأصدقاء، وأعني مدينة طرابلس، التي أنتسب إليها ولو مناصفة مع بلدتي الأم. وما ناداني هناك هو إدراكي بأن المدينة تمثّل نموذجاً لتحولات مجتمع بين تداعي فئة الوجهاء والزعامات التقليدية مع صعود دعوات العمل السياسي على خلفيات جديدة، وتوزّع المدينة على شطرين مختلفين من حيث مستوى المعيشة وأنماط العمران والملابس والواجهات. وأكثر ما «استفزني» هي تلك المواجهة المكانية اللافتة بين ضفّتي نهر المدينة، قلعة صليبية ضخمة من الحجر الرملي الصامد ومقابلها حيّ فقير مكتظ تتراكم فيه البيوت فوق بعضها وهي مشيّدة من مواد بناء هشّة لا تدخلها السيارات بل يضطر أهلها لصعود الأدراج ونزولها تلبية لحاجاتهم اليومية، هذا ما سمَّيته «حيّ الأميركان» والحيّ باسمه هذا قائم فعلاً في الجوار القريب».

american haiتسرد الرواية مسار بيئتين اجتماعيتين على طرفي نقيض في المدينة: الأولى والأساسية متمثلة بالشاب إسماعيل محسن ابن العائلة الفقيرة، حيث الأب عاطل من العمل والأم تعمل لدى أحد بيوتات وجيه وطني، والثانية متمثلة بابن الوجيه عبدالكريم نفسه الذي يربى في دلال نسبي، لكن في بيت تضمر مكانته مع الأيّام، يذهب للعيش في باريس بمساعدة صهر هو رجل أعمال سعودي، يجد له عملاً هناك. ونتابع مع الراوي المسارين كأننا نتابع خطي قطار يلتقيان ويتقاطعان.. إلى أن تنتهي الرواية بتلاقٍ مفتوح الأفق على مستقبل غير محدَّد.. أما الشخصية الثالثة في الرواية فهي أم إسماعيل التي ورثت العمل لدى آل عزَّام عن والدتها، التي تلعب في الرواية دور همزة الوصل بين المسارين، بالإضافة إلى أنها الشخصية التي يصور الراوي عبرها الأوجه المختلفة لحياة الحي والمدينة. جبّور الدويهي نفسه من قرية زغرتا، ترعرع وعاش في مدينة طرابلس القريبة وتردد كثيراً على العاصمة بيروت، حيث التيارات الشبابية والنشاطات الثقافية. في «عين وردة» و«مطر حزيران» كان «حكواتي» ابن القرية بالدرجة الأولى، في «حي الأميركان» تحول إلى حكواتي ابن المدينة. ولا نقول إنه اختلف فعلاً، ولكن، وكأنّه في قيادته للسرد غيّر ترس السرعة، الأمر الذي يعلّق عليه بقوله:
«لا شك في أن كل موضوع تختاره للرواية يستدعي معه لغته، خصوصاً إذا كان المشروع الروائي يسعى للتعبير عن مناخ اجتماعي ثقافي بعينه في حقبة تاريخية محددة. وهذا ما يحصل في كتبي عندما تتغيّر بيئتها. يبقى بالطبع أني أحمل دمغة أولية فيها شيء واضح من الراوي الشفهي. فرواياتي تخرج من هذه التوليفة، من هذا الالتقاء بين المكتوب والمحكي، بين المديني والقروي، بين حقبات متوالية أو متزامنة من حياتنا، في بلد تمتزج فيه أنماط الحياة بسرعة كأن ينزح الريف بما هو إلى المدينة، أو أن يمتد النمط المديني إلى بلدات وحتى قرى مجاورة للعاصمة».

لغة الدويهي سلسة، تقترب اقتراباً شديداً من الكلام المحكي، لكنها تبقى سليمة وفصيحة. علماً أنه نادراً ما يستخدم تعبيراً أجنبياً رائجاً، بل التعابير المعرَّبة مثل قرص مدمج أو حاسوب أو حتى تعبير غير مألوف مثل «أوّل جسر تحوَّل»، وفي هذا ما يعكس مزاج مدينة طرابلس نفسها، الشديدة التمسك باللغة العربية. وفي هذا الشأن يقول الدويهي:
«أميل إلى اللغة العربية المتماسكة، القادرة على استيعاب و«هضم» استعارات محكية ومحلية أحياناً وهي في أساسها عربية فصيحة. وهذا ما نكتشفه في لغتنا المحكية في قرانا وبلداتنا التي اعتقد البعض لبرهة، ومن باب الجهل، أنها مطعمة أو متأثرة بالسريانية، والحقيقة أنها عربية عريقة، تعود إلى تعابير كانت تستخدم قديماً، ثم اختفت من الاستخدام الفصيح، وبقيت عندنا».

يتسم السرد الروائي عند الدويهي بالحيوية والقدرة على تصوير تفاصيل الأشياء والأمكنة، ما يجعل القارىء يعايشها بما يقارب اللمس. وكأن الراوي يحمل آلة مسح ضوئي فلا يفلت من نظره شيء ذو مدلول! أو كأن لديه مخزوناً لا ينضب من الأشياء التي سجلتها عدسته الحساسة، تنصهر في الرواية لتضفي عليها مناخاً شديد الصدقية. فيقول:
«أسعى دائماً لاستخراج المعنى من التفاصيل، من الأحداث الصغيرة، من الأشياء والأغراض، وليس من تقديم الانطباعات أو أي شكل من التحليل النفسي أو الاجتماعي، ولو على لسان الشخصيات. فالرواية في نظري هي تحديداً الاحتيال على الرسائل المباشرة، و«تهريب» المعنى من خلال التفاصيل. وأنا ممن يملكون، ومنذ مقاعد الدراسة، ذاكرة بصرية. فأتذكر الكلمات والجمل كما وردت في صفحاتها. هكذا أيضاً أتصرف باللغة في السياقات الوصفية. والمسألة في النهاية تكمن في حسن اختيار التفاصيل وليس الإكثار منها. فربما تقرأ وصفاً طويلاً تعجز عن تخيّل موضوعه فيما يكفي تفصيل واحد أو اثنان لجعل الشخصية أو المكان مرئيين».

تبدأ «حي الأميركان» وتنتهي متنقّلة بين المشاهد والشخصيات بشكل يحافظ على درجة عالية من التشويق الدّائم. لكن قد تكون نهايتها أبلغ ما فيها. فإسماعيل محسن الذي تقوده ظروفه الاجتماعية وبيئته وأهل حيّه إلى الالتحاق بجماعة مقاتلة، يتراجع في اللحظة الأخيرة ويعود إلى حيّه، وكأنه ولِد من جديد.. وحين يصل إلى الحي يجد صوره واسمه في الأزقّة باعتباره شهيداً. وخوفاً من الاعتقال للتحقيق معه، يلجأ إلى دارة آل عزَّام التي كان عبدالكريم قد عاد إليها بعد قصة حب في باريس انتهت نهاية حزينة. وفي الختام، يعطينا الراوي «طرف خيط» من الأمل والتفاؤل الذي نلمسه في هذا الود الذي نما بين الشخصيتين والذي يتلخّص بوعد عبدالكريم لوالدة إسماعيل بأنه لا بد لابنها أن يعود، وذلك كي يرد إليه معطف الحبيبة التي اختفت في باريس، ويأخذ شجرة «بونزاي البرتقال» النادرة التي وعده بها. شيء ما هنا يقول إن لنافذة التفاؤل مكانها في مثل هذه المشاعر الإنسانية.

جبور بولس الدويهي
من مواليد زغرتا، شمال لبنان، 1949م. حصّل دروسه الابتدائية والثانوية في مدينة طرابلس. حائز إجازة في الأدب الفرنسي من كلية التربية في بيروت وعلى دكتوراة في الأدب المقارن من جامعة باريس الثالثة (السوربون الجديدة). أستاذ الأدب الفرنسي في الجامعة اللبنانية. قام بترجمة عدة مؤلفات أدبية وعامة من الفرنسية إلى العربية.

مؤلفاته الروائية:
• الموت بين الأهل نعاس، مجموعة قصص قصيرة، دار المطبوعات الشرقية، بيروت، 1990
• اعتدال الخريف، رواية، دار النهار، بيروت، 1995.
• ريّا النهر، رواية، دار النهار، 1998، دار الساقي 2014
• عين ورده، رواية، دار النهار، 2002.
• مطر حزيران، دار النهار، 2006، دار الساقي 2013.
• شريد المنازل، دار النهار، 2010، دار الساقي 2012.
• حي الأميركان، دار الساقي، 2013 .
• روح الغابة، قصة للصغار بالفرنسية، دار حاتم،

أضف تعليق

التعليقات