قبل نحو ربع قرن، رصد النقّاد ولادة نمط جديد في الغناء العربي يختلف كل الاختلاف عن نمط الغناء الكلاسيكي والشعبي، ونما هذا النمط بسرعة، وها هو اليوم يكتسح كل ما عداه. فمن المحيط إلى الخليج، ومن المهرجانات الكبرى إلى غرف النوم، وفي سيارات المتنزهين كما في المقاهي.. أصبح هذا النمط الجديد من الغناء وكأنه الزاد الثقافي الأول للشباب والمراهقين، حتى بات يعرف باسم الغناء الشبابي . وصار هذا الغناء بدوره عنوان قضية تستدعي التوقف أمامها.
بعين فاحصة متسائلة تحاول أن ترصد قبل أن تحكم، تسعى القافلة إلى استقراء التفاصيل العملية لحركة إنتاج هذا الفن الجديد وخصوصياته، والظواهر التي يتشكل من مجموعها الغناء الشبابي السائد حالياً في البلاد العربية؛ لما له من آثار بالغة تتجاوز مسألة الذائقة الفنية؛ لتصل إلى أعماق القيم عند هذا الشباب ونظرته إلى أوجه الحياة ومعالمها. هنا حصيلة سلسلة من الجولات شارك في إعدادها كل من أمينة خيري في القاهرة، وزياد سحّاب في بيروت، وياسين عدنان في مراكش، بينما سنفرد في العدد القادم موضوعاً خاصاً بالتأثر الخليجي، ويشمل الفنانين والمتلقين، بهذا المسار الغنائي الجديد، من خلال استضافة عدد من المتخصصين في هذا المجال.
عرفت مراحل التطور الكبرى في الغناء العربي، خاصة في القرن العشرين، ألواناً مما يطلق عليه في هذه الأيام الغناء الشبابي . لكنها كانت جرعات بسيطة، يقوم بها المطربون والموسيقيون الكلاسيكيون، من ضمن الإطار العام للغناء العربي الكلاسيكي، بدليل أن محمد عبدالوهاب كان يعتبر في بداياته التجديدية مطرباً للشباب، كما أن عبدالحليم حافظ ما زال حتى الآن يحمل لقب مطرب الشباب.
أما ما يسود الآن ساحة الغناء العربي، فهو ظاهرة جديدة. ولا تتشكل هذه الظاهرة من نموذج واحد، فمنها ما يحاول استلهام المراحل المتأخرة من الغناء الكلاسيكي والشعبي، ومنها ما قطع الصلة بهما نهائياً. منها ما يحرص على مستوى معين في الكلام واللحن والأداء، ومنها ما تحول إلى سلعة استهلاكية تحكمها معايير السوق لا معايير الفن. ومنها أخيراً ذلك اللون الاستعراضي البصري الذي غلبت فيه الصورة والحركة والشعر الغنائي والموسيقى، وأصبح نمطاً رائجاً على معظم الشاشات العربية، وله فضائيات خاصة به، ألا وهو الفيديو كليب .
الأغنية الشبابية والتعريف الصعب
يمتعض شبان اليوم من الربط بين مفردة الأغنية الشبابية والأغنية الهابطة، وكأن كل ما هو جديد ساقط حكماً، أو كأن كل ما هو قديم فهو راقٍ بالضرورة. الأمر الذي يستدعي العودة إلى آراء جيل أكبر سناً لمعرفة ما كان عليه الموقف في ما مضى من الفن الجديد مقارنة مع القديم.
هل كان فن الأخوين رحباني هابطاً بنظر الجيل السابق لهما؟ وهل شكلت فيروز ظاهرة عمّا كان سائداً قبلها أم أنها امتداد طبيعي له؟ ألم يعتبر محمد عبدالوهاب متغرباً في مرحلة معينة من إنتاجه الفني؟ وماذا لو قال قائل إن من يرفض ظاهرة نانسي عجرم اليوم يشبه من وقف بوجه سيّد درويش ومحمد القصبجي عندما شرعا في محاولاتهما تطوير الموسيقى العربية؟
يقول الكبار في السن اليوم إن جيلهم كان يسمع أغنيات جيل والديه. ولم تكن هناك موسيقى مصنفة شبابية . فالأب وابنه كانا يستمعان إلى محمد فوزي بالاهتمام نفسه، وكانا يتجاوبان بالمستوى نفسه مع الغناء الشعبي التقليدي. أما الأغنيات الهابطة فكانت تلك التي تقوم على كلام هابط، وتحديداً أغاني بدايات القرن العشرين، حين انتشرت – كما هو الحال الآن – موجة المغنيات الراقصات.
ولو تركنا جانباً مسألة المستوى الفني الهابط أو الراقي وبحثنا عن صفة مميزة يتسم بها الغناء الشبابي تمهيداً لتحديده لوجدنا اعتقاداً شائعاً يقول بأن الأغنية الشبابية هي إيقاعية صاخبة تتماشى مع ميول الشبان والمراهقين، وما يميزهم من حيوية وطاقة على الحركة. وهذه الملاحظة يمكن دحضها بسرعة. فبمجرد تشغيل الراديو أو التلفزيون، نلاحظ أن الأغنية البطيئة أو الهادئة منتشرة بكثرة إلى جانب الأغنية الإيقاعية. ومن الأمثلة في هذا المجال نذكر عمرو دياب الذي ارتبط اسمه كثيراً بالأغنية الشبابية، ويؤكد من خلال أي شريط له أن الأغنية الشبابية ليست مرادفاً للأغنية الإيقاعية.
إذن وبشكل عام، وبعيداً عن محاولات التحديد القائمة على ملاحظات تقنية مثيرة للجدل، نقول إن الأغنية الشبابية هي تلك التي تزعم لنفسها صفة التعبير عن شباب اليوم، وتتوجه إليهم، والسواد الأعظم من محبيها ومستمعيها هم من المراهقين أو ممن هم في بداية العشرينيات من العمر.
إنها نتيجة صراع الأجيال، كما يقول البعض. ولكن هذا الصراع انعكس على الغناء والموسيقى على شكل قطيعة تامة ما بين جيلين. فقلة قليلة من ملحني اليوم هم امتداد لمحمد الموجي، وقلة من الشعراء قرأوا صلاح جاهين أو طلال حيدر أو يعرفون هذه الأسماء. فالمشكلة الكبيرة بدأت أولاً مشكلة تواصل، وانتهت إلى تشريع الأبواب أمام ما هو أدهى من مسألة سلامة الذوق والمستوى الفني. ولإدراك أبعاد القضية لا بد من الانطلاق من مقومات الأغنية كلاماً ولحناً بين الماضي والحاضر.
كلام الأغنية ولحنها.. قديماً
إذا ما أخذنا بالنظرية القائلة بتلازم كافة أنواع الفنون في حالتي النهضة والتخلف، يمكن القول أن العصر الذي ينتج موسيقى راقية، كان ينتج أيضاً شعراً راقياً. ولكن التلاقي بين الشعر العبقري والموسيقى العبقرية في عصر النهضة العربية لم يكن أمراً مؤكداً على الدوام، والدليل هو الموروث الموسيقي والأدبي الذي وصلنا.
لم يكن الغناء العربي في القرن العشرين متخلفاً عن الغناء العالمي في مجال الاستعانة بالكلام الجيد وبالشعر وبالمعاني الإنسانية، وحتى بأقصى درجات شفافية اللغة في التعبير عن العواطف. وحسبنا أن نستعرض هنا مئات الأغاني التي كتبت كلماتها للغناء مباشرة، أو تلك التي اقتبست عن شعر معروف أو غير معروف. ونحن نعرف أن أغاني محمد عبدالوهاب وأم كلثوم وأسمهان وفريد الأطرش قبل الخمسينيات، ومن ثم نجوم العصر الذهبي للأغنية العربية أمثال ليلى مراد، نجاة الصغيرة، شادية، فايزة أحمد، صباح، عبدالحليم حافظ، محمد فوزي،… كانت كلها أغنيات تعبر عن الإنسان الجديد وتطلعاته ليس فقط من خلال تعاطيها مع العواطف، بل أيضاً في انغماسها بالشأن الوطني العام.. ولا ننسى هنا أن مؤلفي كلمات هذه المجموعة كانوا يحملون أسماء أحمد شوقي، الأخطل الصغير، ثم حسين السيد ومرسي جميل عزيز، ومن قبلهم بيرم التونسي ومن بعدهم عبدالرحمن الأبنودي وصولاً إلى نزار قباني.. وذلك مقابل الأخوين رحباني، وخاصة أشعار سعيد عقل التي غنتها فيروز في لبنان، ما جعل الغناء اللبناني حالة عربية عامة لأول مرة في تاريخ فنون هذا البلد. ولكن، وفي أحيان كثيرة كان هناك تفاوت في تراثنا الفني ما بين قيمة اللحن وقيمة الكلام في الأغنية كما يؤكد الدكتور نداء أبو مراد. ولو أخذنا مثلاً على ذلك الموشحات التي توارثناها لتساءلنا عن القيمة الحقيقية للكلام في موشح لما بدا يتثنى بالنسبة إلى قيمة لحنه.
يمكن من خلال هذا أن نعطي جزماً قاطعاً بأن الشعر المهم كان للدواوين لا للملحنين. ولكن التعامل ما بين شاعر وملحن من المستوى العالي نفسه ضعف عندما بدأ التلحين يأخذ طابعاً أوركسترالياً، فأصبح الخاطر الموسيقي أحياناً يسبق الكلام، وقليلون هم الشعراء الذين يرضون بكتابة كلام لحن جاهز، فأدى الأمر إلى بروز أسماء لم تلمع من قبل بسبب تنازلات كانت تقدم للملحنين، وكانت النتيجة غير متوازنة في مرات كثيرة، ومن الأمثلة الكثيرة في هذا المجال نذكر الشاعر محمد حمزة الذي كتب كلمات أغنية محمد عبدالوهاب أنده عليك ، وليس في هذا الكلام ما يرقى إلى مستوى تأليفها الموسيقي.
هذا الكلام لا ينفي وجود نماذج غنائية اجتمعت فيها كل العناصر المكونة للأغنية وهي غير قليلة أيضاً، ولا ينفي حالات كثيرة كان عدم التوازن بين عناصر الأغنية فيما يميل إلى صالح الكلام، حيث يتلطى الملحن في هذه الحالات خلف الكلام ليقول بأن مهمته تقتصر على إيصاله بأبسط شكل ممكن، وفي وقت لم تنقرض فيه الدواوين الشعرية، مما يسمح لمن يريد أن يسمع هذا الكلام من دون إضافة لحنية، بقراءة هذه القصيدة. وفي هذه الحالة، نجد الكثير من الملحنين استمدوا شهرتهم من أهمية الشعر الذي يختارونه، بينما تكون موسيقاهم إذا ما عرّيناها من الكلام غير ذات قيمة.
أما اليوم…
أغنيات موسمية في قوالب جاهزة
أثناء وجودنا في أستوديو أحد الملحّنين الأكثر شهرة في أيامنا هذه، دخل الشاعر الذي لا يتعامل هذا الملحّن مع غيره إلاّ نادراً، فدار أمامنا مشهد معاتبة متبادلة. فالملحّن لا يستطيع أن يفهم لماذا أصبح هذا الشاعر يعطي أجمل ما يكتب لتلك الفنّانة ولا يعطي الملحّن سوى ما يتبقّى من فتات. ولم يكن أغرب من السؤال سوى جواب الشاعر الّذي راح يحطّ من قيمة الكلام الذّي كتبه لتلك الفنانة، مؤكداً أنه يكتب أتفه الكلام لها، وبأنه كتب لها نموذجاً واحداً، يحيك لها عليه عشرات الأغنيات، فهو لديه أولاد في المدرسة عليه دفع أقساطهم، وهي تدفع 5000 دولار مقابل سطرين من الكلام.
بدا الشاعر بذلك كأن لا مشكلة لديه من الظهور كتاجر / شاعر مقابل إرضاء جميع الأطراف. بينما يؤكّد الملحّن بأن ما يجعله يتعامل مع ذلك الشاعر دون غيره هو السبب عينه الذي ينتقده لأجله، بحيث لا مفاجآت في ما يقدمه، وهو شيء إيجابي برأيه؛ لأن ذلك يسهّل مهمّة التّلحين. نسوق هذه الحادثة للتأكيد على أن الأغنية أصبحت في هذه الأيام صناعة. فالمغنّي لا يخجل بحسب العديد من المصادر من الاتصال بالملحّن لطلب أغنية مثل تلك التي لحنتها لفلانة ، بحيث أصبحت هناك مواصفات جاهزة للأغنية المنتشرة اليوم وهي غير الأغنية المنتشرة بالأمس، أو غداً. والمطلوب هو عمليّة حياكة أغنية كلاماً، ولحناً، وتوزيعاً، على نماذج جاهزة.
شخصية الأغنية الشبابية
شاعر أغنية آخر التقيناه أكّد أن هذه المواصفات تتغيّر كلّ فترة، فمرحلة عيد العشاق مثلاً، تأتي دائماً مصحوبة بنوع معيّن من الأغاني، تختلف عن تلك التي تسبق فصل الصيف، حيث تكون الأغنية أخفّ، أو ببساطة صيفية أكثر . ولدى سؤالنا عن معنى أغنية صيفية ، أجاب صديقنا هيك، صيفية، عرفت كيف؟ لم نشأ الإلحاح بالسؤال رغم أننا لم نعرف كيف وانتقلنا إلى موضوع محوري في معالجة موضوع الكلمة في الأغنية العربية. عن أية كلمة تتحدّث؟ الفصحى؟ الخليجية؟ اللبنانية؟ المصريّة؟ المغربية؟ اللهجة البيضاء؟ التي هي اختراع جديد يغطي به العديد من الشعراء عدم وجود خلفية أو أرضيّة لغويّة أو حتى محكيّة لما يكتبون.
هنا، لا بد من طرح السؤال: هل هذا التنوّع في اللهجات هو مصدر غنى للأغنية أم مصدر فقر لها؟
يقول الشاعر الذي التقيناه إن ذلك هو الغنى بحدّ ذاته، فهو إن لم يستطع أن يعبّر عن فكرة ما باللبنانية، قد يعبّر عنها بالمصرّية، وعمّا إذا كان يملك ثقافة لغويّة كافية للكتابة بكلّ اللهجات، أجاب: بأن انتشار كل أشكال الأغاني جعله يكوّن ثقافة في كيفية الكتابة بأية لهجة.
ولمناسبة الحديث عن اللهجات في الأغنية الشبابية، يمكننا أن نستطرد ونشير إلى أن صناعة هذه الأغنية تحررت من كل معالم المنشأ، بدءاً بالبيئة الثقافية التي ينتمي إليها مؤلفها ومؤديها وصولاً إلى مكان إنتاجها وتسويقها، وحتى مكان رواجها. فقد صار من الممكن أن يكتب شاعر لبناني كلاماً باللهجة المصرية لمغنية سورية تسجل أسطوانتها في دبي لتعممها إحدى الفضائيات على آذان وعيون كل الشباب العربي.
عامود صناعتها
الفضائيات والفيديو كليب
يؤكد المسؤولون في أحد مركز بيع الاسطوانات في بيروت أن قلة قليلة جداً من الفنانين الناشطين على الساحة اليوم لديهم نسبة مبيعات مقبولة، بينما لا مبيعات على الإطلاق بالنسبة إلى أسطوانات معظمهم.
قد يقول قائل إن ذلك يعود إلى قرصنة الأسطوانات الرائجة، ولكن السؤال نفسه يظهر. فالفنان الذي تباع أسطواناته المقرصنة، لا يحصل من جرّاء ذلك على أي فلس. فمن أين يأتي المال الذي يغذي هذه الصناعة؟
يتحدث البعض عن الحفلات والأعراس التي يحييها هؤلاء الفنانون. وهو جواب قد يكون مقنعاً في ما يخص بعضهم، ولكن ليس كلهم. فعدد كبير من فناني الكليب لا يقيم حفلات. فمن أين تأتي الأموال؟ وما هو دافع الجهة المنتجة إلى تغطية نفقات فيديو كليب يكلف حوالي أربعين ألف دولار كحد أدنى، حسبما يقول المخرج ناصر فقيه، خصوصاً وأنّ عرض هذا الكليـب على إحدى الشاشات مكلف على عكس ما يعتقده البعض. إذ أن الوسائل الإعلامية باتت تتقاضى بدلاً مادياً لإذاعة عمل ما، بعدما كانت في الماضي تدفع الأموال للمطرب والملحن.
إلى هنا، لا يزال مشروع الغناء مشروعاً خاسراً، والكلام لا يزال لناصر فقيه، الذي يؤكد نتيجة لهذا التحليل أن الفنّ والحالة هذه ليس سوى غطاء لشبكات علاقات عامة. فالفضائيات لا تخضع لقانون إعلام البلد الّذي تبث منه، وعلى سبيل المثال، فإن قناة ميلودي غير خاضعة لقانون الإعلام المصري، الشيء الذي ثبت مع محاولة جهات مسؤولة في مصر مقاضاة إحدى الفنانات بسبب الشكل الذي ظهرت فيه في إحد كليباتها على هذه القناة.
ونلاحظ أيضاً بعد أن كثرت برامج الهواة أن العديد منها، وخاصّة تلك التي تتمتع بغطاء جدّي أكثر من غيرها، كبرنامج سوبر ستار ، أن المشتركين يغنّون الاغنيات القديمة للوصول إلى الناس. ويعلق ناصر فقيه (الذي هو أيضاً مخرج هذا البرنامج) بأن المرشحين يعرفون بأن الأغاني القديمـة فيها من صعوبة الأداء ما قد يساعد على إظهار قدراتهم الصوتية بشكل أفضل. يأتي بعد ذلك دور الأغاني الجديدة لظنّهم أن الإدارة تحبّذ أن يؤدي المشترك هذه الأغاني.
ثمّ تكون المرحلة الاخيرة، المسماة بمرحلة دخول السّوق فيحضر هنا دور شركة الإنتاج التي غالباً ما يكون لديها طلبات خاصّة وغير خاضعة للنقاش، قد تبدأ بتسريحة الشّعر وتنتهي بأقل تفصيل له علاقة بالعمل، فعلى الفنان أن يتنازل عن بعض القيم للدخول في الموجة السائدة. وتعتمد شركات الإنتاج في الوقت الحالي كثيراً على تلفزيون خاص بها، فكل شركات الإنتاج الآن تقريباً لديها شاشاتها الخاصة، أو أنها في الأصل تلفزيون تحوّل إلى شركة إنتاج، كتلفزيون ميلودي الذي تحوّل إلى شركة إنتاج، و روتانا لديها شاشاتها، وأيضاً محسن جابر أي عالم الفن لديه شاشته، حيث يكون الربح المادي مؤمناً من خلال الرسائل القصيرة SMS إذ يشتري التلفزيون من شركات الهاتف الجوّال في العالم العربي أرقاماً مختلفة في كل بلد، مع عروض مختلفة بين البلدان من حيث النسبة التي تحصل عليها شركة الهاتف.
وفي حالات ليست بقليلة، تحصل المضاربة ما بين عدّة شركات في بلد واحد، ممّا يؤدي إلى ارتفاع النسبة التي يحصل عليها التلفزيون من قيمة هذه الرسائل إلى ما لا يقل عن %80، ويؤكد البعض، وهو خبر لم نستطع التأكّد منه بشكل قاطع، أن بعض الفنانين، ممّن لهم شهرة واسعة طبعاً، يشترطون تقاضي نسبةً أيضاً من مردود هذه الرسائل تحت طائلة حرمان هذه المحطة من عرض كليباتهم عليها. وفي هذه الحالة، يكون الفنانون المذكورون من القلائل الذين يتقاضون المال لقاء السماح بعرض أعمالهم؛ لأن لهم من الشهرة ما يجعل المحطة تبدو مقصّرة في حال عدم عرض أعمالهم.
أما عامود الفيديوكليب فهو..
إن أية مراجعة مهما كانت سريعة لمجمل ما تعرضه الفضائيات العربية من الفيديو كليب تؤكد أن الرقص صار عنصراً من الأغنية، لا بل بات يفوق في التركيز عليه ما يحظى به اللحن أو الكلام من أهمية. فالغالبية الساحقة من هذه الأغاني تعتمد اعتماداً صارخاً على فتيات عارضات، يرقصن الرقص الشرقي القائم على الإيحاءات الجنسية الصريحة أمام المغني أو المغنية أو بجوارهما أو خلفهما.. وأحياناً يختفي المغني لتخلو الشاشة كلها للراقصات.
أما القراءة المتأنية لهذا الشكل من الرقص فيكشف عما يمكن أن يكون أخطر من ذلك. فالفتيات في الفيديو كليب لا يقدمن رقصاتهن عادة باعتبارهن راقصات محترفات، بل يرقصن باعتبارهن فتيات عاديات يرغبن بالرقص. وفي تحليل للظاهرة نجد أن الأمر لا يقتصر على تحطيم هالة الوقار والأهمية التي كانت تحاط بموضوع الحب فقط، فيسعى إلى إفهامنا بشكل غير مباشر أن كل أنثى هي كذلك، وأن ما نراه يمكنه أن يكون جزءاً من حياتنا اليومية… وربما وصل الأمر ليكون دعوة إلى أية فتاة إلى أن تسلك المسلك نفسه حتى ولو كانت لا تتقن الرقص مثل هؤلاء الفتيات اللواتي نراهن في الكليب.
الكاتب المصري عبد الوهاب المسيري يحلل الفيديو كليب من منطلق مختلف عن التأييد أو التنديد، فهو يرى أنه متوافق مع الرقص البلدي، بمعنى أن الرقص المقدم في الكليب ليس رقص المحترفات، وإنما يشبه الرقص الذي ترقصه بنات الناس الطيبين في الاجتماعات العائلية، وبذلك يتم هدم الحواجز بين حياتنا اليومية والرقص البلدي ويتم تطبيعه تماماً. ويقول إن إحداهن عمقت هذا التطبيع في أغنية لها تظهر فيها بملابس رياضية، وفستان سهرة، وملابس تشبه فتيات المدارس المراهقات، ثم ملابس أرملة، لكنها تقوم بحركات أقل ما توصف به أنها غير عادية، فهي حركات كده ويقصد بها أنها ذات إيحاءات صريحة.
ويعبر المسيري عن اهتمامه الذي يشوبه القلق بما يمكن أن يحدث لتركيبة المجتمع وبناء الأسرة بسبب الفيديو كليب . ففي مقال نشرته جريدة الأهرام المصرية اليومية في يونيو 2004م كتب المسيري أن الفيديو كليب لا يقدم مجرد أنثى تغني وترقص وتتعرى وتتلوى، بل إنه يعبر عن رؤية كاملة للحياة، نقطة انطلاقها هو الفرد الذي يبحث عن متعته مهما كان الثمن، والمتعة في حالة الفيديو كليب متعة أساساً جنسية، لذا فهي متعة بسيطة أحادية تستبعد عالم الموسيقى والطرب وجمال الطبيعة وكل العلاقات الإنسانية الأخرى .
ويخلص المسيري إلى أن الإنسان الجسماني الاستهلاكي الذي يصفه الفيديو كليب منشغل بتحقيق متعته الشخصية، ويدور في دائرة ضيقة للغاية، خارج أية منظومات قيمية اجتماعية أو أخلاقية، لذا فإن ولاءاته للمجتمع وللأسرة تتآكل تدريجياً، كما أن انتماء هذا الشخص لوطنه ضعيف للغاية، إن لم يكن منعدماً .
أما الدكتور أشرف جلال، المدرس في كلية الإعلام جامعة القاهرة، فقد أجرى دراسة عنوانها الهوية العربية كما تعكسها أغاني الفيديو كليب ، ووجد من خلال تحليل 364 أغنية فيديو كليب أن 87 في المئة منها تعتمد على الإثارة، قسمت كالتالي: 51 في المئة تتضمن الرقص والإثارة، و22 في المئة تحوي ملابس مثيرة، وعشرة في المئة إيماءات بالوجه، وخمسة في المئة يكمن الإغراء في فكرة الأغنية. وهو يشير إلى أن دراسة أخرى أجريت في الكلية ذاتها تحت عنوان استخدامات الشباب الجامعي للقنوات الغنائية أظهرت أن 100 في المئة من الشباب المصري يشاهد أغاني نانسي عجرم، وإليسا، و17 في المئة يشاهدون أغاني هاني شاكر. ويقول الدكتور أشرف جلال أن نسبة الكلمات العامية في أغاني الفيديو كليب في الدراسة الأولى بلغت 91 في المئة، والكلمات الفصحى واحداً في المئة، و50 في المئة منها تخلط بين العامية والفصحى. ووجد أن واحداً في المئة من تلك الأغاني وطنية، و83 في المئة عاطفية، و3 في المئة شعبية وتراثية. ووجدت الدراسة أن 83 في المئة من مشاهدي القنوات الفضائية من الشباب، و14 في المئة من الجمهور العام، وثلاثة في المئة من الأطفال!!
ما يقوله المغنون والملحنون
من جانب آخر فقد جمعت القافلة آراء مجموعة كبيرة من العاملين في مجال الأغنية الشبابية، الذين توزعوا ما بين مؤيد ومعارض للفيديو كليب.
يقول الملحن محمد نوح: الفيديو كليب في الحالة الرمادية، وأنا لا أرفض هذه الظاهرة إلا في ما يتجاوز الأخلاق والآداب. والفيديو كليب في حالة حركة وبحث لم تستقر بعد، ولا تزال في مرحلة التقليد وليس الابتكار. لكنها واعدة، إذ أصبح الفيديو كليب جزءاً من العوامل الرئيسة لنجاح الأغنية أو فشلها؛ لأنه إضافة بصرية إلى الجانب السمعي، لا سيما وأن الأغنية حالياً تُسمع وتشاهد . ويضيف نوح أن ظاهرة الفيدو كليب خلقت حالة شبابية حركية وأصبحت أكثر ديناميكية، لكنها لا تزال تقليداً أعمى للغرب من دون الاهتمام بالمضمون.
ويصف الملحن عمر خيرت ما يحدث على الساحة الغنائية بأنه مرحلة انتقالية من عصر إلى آخر فالموسيقى مرآة لأي عصر وما يحدث حالياً هو نوع من الانفتاح الموسيقي ، فأي شخص يشعر بأنه يستطيع أن يقدم أغنية يقدمها، وهذا يحدث في كل مكان في العالم، وليس في الدول العربية فقط، كما أن الأمور أصبحت مادية وتجارية بحته . ورغم أن خيرت يشيد ببعض ما يقدم على الساحة الغنائية، لكنه ينتقد التقليد الأعمى للغرب، يقول: يمكن أن نقلد في العلم الموسيقي أي أن نتعلم الموسيقى وعلومها، ولكن يجب ألا يقتصر التقليد لدينا على المظهر والملابس والصراخ والصياح .
أما الملحن ميشيل المصري فيقول: إنه لا يشاهد أغنيات الفيديو كليب، لكنه يمر عليها أثناء تجواله بين المحطات التلفزيونية ، ويوضح: لا أستطيع مشاهدتها لأنها صور وليست غناءً، وهي للمشاهدة وليست للسمع ، وإذا كان لابد من سماعها فيمكنني الاستماع إليها في المذياع بدون الحاجة إلى ربع الفستان أو نصفه الذي ترتديه المطربة أو فريق الراقصات خلفها أو خلف المطرب .
ويقول الشاعر بهاء جاهين: لا يمكن الحكم على ظاهرة الفيديو كليب من وجهة نظر واحدة، لأنه الفيديو كليب من ناحية الإخراج البصري للأغنية بشكل عام، أحدث تطوراً هائلاً في حل مشكلة تقديم الأغنية التلفزيونية . ويشير إلى أن الصورة كانت تعاني فقراً شديداً أنقذها منه الفيديو كليب الذي يتسم بالغنى البصري، بل إنه يعتمد على الصورة أكثر من أي عنصر آخر، لا سيما بالنسبة إلى الكليبات التي تعتمد على الإغراء الجسدي والجنسي والتي تقدم فتيات شبه عاريات. ويضيف: وتبقى الأغنية مجرد خلفية للفيديو كليب، وهنا تكون الأغنية مغرية للشباب رغم ضعف الكلمات واللحن والأداء .
ويقول الملحن هاني مهنى إن 90 في المئة مما يقدم رديء والباقي جيد، ويعتبر هذا انعكاساً للحالة المتردية في المجتمعات العربية، وتخبطاتها، والعولمة الجديدة، والهجوم الفكري والثقافي بالإضافة إلى أن الحالة الاقتصادية تؤثر في كل هذا؛ لأن الفن السائد حالياً يعكس هذه الحالة، وهو مرآة للمجتمع دائماً. ويضيف: أصبحت الأغنية مثل الساندويتش، حتى أن الجمهور لا يملك الوقت الكافي لينتقد الفن، ولم يعد يميّز الجيد من الرديء، وكل ما يريده هو أن يشاهد حركة، سواء في الصورة أو الصوت لينسى همومه . ويشير مهنى إلى أن الإذاعة كانت الأب الروحي للأغنية الجادة والصادقة التي لم تكن توزع ألبومات، لكن كانت تحافظ على الذوق العام ونوعية الفن الذي يقدم. أما حالياً فلم يعد لديها الموازنات التي تواكب المحطات التلفزيونية. و التلفزيون المصري حالياً على سبيل المثال يقدم حفلات صيفية تجارية سياحية. والغريب أن حفلات أم كلثوم وعبد الحليم حافظ كانت تقدم في الشتاء، وكان الصيف كله عبارة عن فترة راحة وعطلات للفنانين والعاملين، فأصبح العكس هو الذي يحدث حالياً، إذ يتوقف الجميع طوال ثمانية أشهر، وتقدم الحفلات في الشهور الأربعة الباقية .
ويرفض الملحن سامي الحفناوي بشدة ظاهرة الفيديو كليب ويقول: ما يحدث لا علاقة له بالأغنية، والموسيقى والفن بريئان من هذه الكليبات براءة كاملة؛ كما أن من يقدمون الفيديو كليب لا علاقة لهم بالفن، وهم أشبه بعارضات الأزياء وأشياء أخرى . وما ينطبق على الكليبات الإباحية التي تقدمها عارضات الأجسام ينطبق تماماً على المطرب الذي يستقدم الفتيات ليظهرن من خلفه، وأصبحت الأغنيات التي تقدم في الحفلات أفضل بكثير، ونتيجة هذا، بت أشترط شرطاً جديداً في التعامل مع أي مطرب أو مطربة أتعاون معهما، وهو أن أكون على معرفة تامة بكيفية تصوير الأغنية التي ألحنها .
أما الشاعر الغنائي إسلام خليل والذي يكتب أغنيات شعبان عبد الرحيم شعبولا بالإضافة إلى عدد من أغنيات عصام كاريكا وعدد من المطربين والمطربات الجدد، يقول: انتشرت ظاهرة الفيديو كليب بسبب كثرة القنوات الفضائية، فالتلفزيون المصري مثلاً لم يكن يذيع أية أغنيات لأي مطرب إلا إذا كانت هناك شروط منها: أن يكون صوته جيداً ومعتمداً من قبل لجان الاستماع الموحدة في الإذاعة والتلفزيون، وأن يكون عضواً في نقابة الموسيقيين. ولم تكن المعايير تنحصر في الشكل فقط، وعندما انتشرت الفضائيات، أصبحت كل محطة رقيبة على نفسها، وأصحاب المحطة هم من يجيزون الأغنية ولو رفضتها قناة ستقبلها الأخرى، وأصبح من حق أي شخص أن يقدم فيديو كليب لدرجة أنك أمام هذه الفضائيات، التي تعرض الكليبات ليل نهار، تنسى الأغنية بمجرد عرض أغنية أخرى .
ويؤكد إسلام خليل أنه يؤيد فكرة الفيديو كليب؛ لأنه نوع من التطوير الجميل للأغنية، إذ أصبح الجمهور يرى الأغنية ويسمعها، و ليت الفيديو كليب ظهر أيام أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، لكنني أعترض على شكل الفيديو كليب ولست مع التصوير بهذا الابتذال الذي هو أقرب إلى فيلم خلاعي قصير كما أنني أعارض فكرة أن يغني أي شخص لأنه فقط يملك المال اللازم. والحمد لله أن أغنياتي التي كتبتها وصورت لشعبان عبدالرحيم وغيره ظهرت بشكل جيد. ويرى خليل أن الفيديو كليب يجب أن يكون إضافة للأغنية؛ لأنه يمثل العنصر الخامس بعد الكلمات واللحن والتوزيع والأداء، ويشير إلى أن الفيديو كليب أسهم في حل جانب من مشكلة البطالة، وأصبح في إمكان من لا مهنة له أن يتجه للعمل في الفيديو كليب، وكتبت في هذا أغنية يقول مطلعها اللي مالوش وظيفة.. وعايش ع التبني.. جاب بنطلون قطيفة.. وبقي في الأفراح يغني .
ويقول الملحن والموزع الشاب شريف تاج الذي لحن عدداً كبيراً من الأغنيات لأنغام، وعمرو دياب، ونوال الزغبي، وأليسا: القنوات الفضائية الخاصة، لا سيما الموسيقية، هي السبب فيما نعاني منه حالياً؛ لأنها سمحت لأشخاص
لا علاقة لهم بالفن بدخول ساحة الغناء . ويقترح حلاً فورياً يتمثل في قرارات سريعة ومنسقة بمنع مثل هذه الأغنيات، فالانفتاح لا يعني الهمجية وعدم اتباع الذوق الرفيع .
المخرج أيمن أبو يوسف الذي أخرج عدداً من الأغنيات منها بافرد ضلوعي لمدحت صالح، و حبيبي يامالك قلبي بالهوى لعمرو دياب، و باتعود لمنى عبدالغني، وأغنيات أخرى لمحمد فؤاد وعايدة الأيوبي يقول: أنا أويد الفيديو كليب الذي لفت انتباهنا إلى حاسة النظر، بعدما كانت الأغنية تقتصر على السمع فقط، وهو ليس ظاهرة جديدة؛ لأن عبدالحليم حافظ قدمه في أغنيات فيلم معبودة الجماهير ومنها حاجة غريبة و بلاش العتاب أما الغريب فهو أن يستيقظ أحدهم من النوم، ويقول إنه يريد أن يكون مطرباً دون أن تكون لديه أدنى موهبة. ويؤكد أيمن أبو يوسف أن الفيديو كليب تطور بشكل جيد، وأصبح عدد من المطربين يجيدونه بحرفية شديدة ومحترمة، ومنهم سميرة سعيد، محمد منير، أصالة ومدحت صالح، ويتابع: أحرص في أغنياتي التي أخرجها على تقديم فيديو كليب محترم يعتمد على خفة الدم وحركة الكاميرا والفكرة، رغم أنه من السهل إحضار عدد من الفتيات الموديل لعمل حركات وإيماءات خارجة، ولكنني لو وصلت إلى هذا المستوى فسأكون قد أعلنت إفلاسي، فالفنان قيمة وله وضع خاص ولو لم يحتفظ بهما فسيخسر خسارة كبيرة . ويشير أبو يوسف إلى أن الكليبات أغرت عدداً من رجال الأعمال بفتح قنوات خاصة؛ لأنها تدر عليهم دخلاً كبيراً، حتى ولو اقتصر على الرسائل القصيرة SMS التي ترسل إلى هذه المحطات، وأقول للجميع لا تظلموا الفيديو كليب؛ لأن العيب فينا وليس فيه.
ونختتم هذه الباقة من آراء أصحاب المهنة بالمطرب علي الحجار الذي يقول: إن الجمهور الأعظم من مشاهدي الفيديو كليب هو من الشباب صغير السن والمراهقين. فأولئك يركضون وراء الأغنية المعتمدة في المقام الأول والأخير على الصورة والحركة والإبهار البصري. فهم
لا يلتفتون إلى الكلمة أو اللحن، كل مايهم روشنة الأغنية، وهذا أسهم في تسطيح الثقافة العامة للجمهور، فالأغنية هي انعكاس للمناخ الثقافي، وحين يصل الأمر إلى هذه السطحية، فإن الوضع يكون خطيراً على الأجيال المقبلة .
جمهور واحد.. تقريباً
للفيديو كليب، وتحديداً ذلك النوع المتشابه مع بعضه البعض، والذي تغرقنا به الفضائيات العربية المتخصصة به، جمهور محدد: الشباب والمراهقون والمراهقات، ومن هم دون سن المراهقة، ومن هم في حالة مراهقة متأخرة. هذا من ناحية العمر، أما من الناحية الجغرافية، فيمكن القول إن الفيديو كليب هو سيد الساحة الغنائية البصرية على مساحة تمتد من مصر إلى الخليج العربي. فالفيديو كليب المصري يلقى الرواج نفسه ما بين القاهرة ودبي، واللبناني منه قد يهزم أكبر المطربين المصريين في عقر داره.. أليست نانسي عجرم أكثر شعبية من هاني شاكر في القاهرة كما أوردنا سابقاً؟
خصوصية الحالة المغربية
أما في المغرب فتمثل الأغنية الشبابية حالة مختلفة كثيراً عمّا هي عليه في المشرق، ففيما يتقاسم الشبان والصبايا في المغرب الاختيارات نفسها المتعلقة بالموضة والأزياء والسينما ونوع الهاتف الجوال، تصير مواقفهم متناقضة حينما يتعلق الأمر بالموسيقى. فالذكور المغاربة يكادون يجمعون على أن ألوان الأغنية الشبابية الواردة من المشرق شأن نسائي لا يخصهم كثيراً. فقنوات مزيكا ، ميلودي ، روتانا وغيرها هي قنوات خاصة بالفتيات، يحرص الشباب على ألا يضبطهم أحد متلبسين بمشاهدتها، لأن ذلك قد ينتقص من رجولتهم. يقول عبد المهيمن جناح (16 سنة): قد أتابع هذه القنوات مع الأسرة أحيانا، مع أخواتي البنات على وجه الخصوص حينما يتعلق الأمر بسهرة عائلية لطيفة. لكن من المستحيل أن أتابعها بمفردي أو برفقة أصدقائي. الصبيان الذين يتابعون هذه القنوات سرعان ما ينتقدهم أقرانهم لأنها قنوات خاصة بالفتيات.
عبد المهيمن وأغلب الشباب في سنه لهم اختيارات أخرى. إنهم مشدودون بالأساس إلى موسيقى الهارد: مجموعة الميتالوكا ، مجموعة لينكن بارك وغيرها. هناك أيضاً الهيب هوب. فعشاق إيمينيم بلا حدود في هذا البلد. أما أبناء الطبقة الراقية فهم يميلون أكثر إلى الأغنية الفرنسية التي تبقى أكثر أناقة ورومانسية.
يقول عبد اللطيف فؤادي، بائع أسطوانات بالدار البيضاء، إنه قرر أخيراً التخصص في الألوان الشبابية المشرقية بعد أن كانت ذخيرته الموسيقية متنوعة في البداية. والسبب، يقول عبداللطيف، هو أن الفتيان
لا يشترون، بل يأتون جماعات، على شكل عصابات أحياناً، ويجعلونني أُسمعهم أغلب الأسطوانات الجديدة، وبعد أن يقضوا أكثر من ساعة داخل المحل يشترون أسطوانة واحدة وقد لا يشترون أي شيء أصلاً ثم ينصرفون. والأمر مع البنات مختلف. فهن يشترين. لذا تخلصت من اختيارات الفتيان واكتفيت بالأسطوانات الشرقية التي تطلبها البنات. الموسيقى الشرقية تلقى رواجاً أكثر؛ لأنها مطلوبة من طرف البنات. وعموماً هذا رأي أغلب تجار الأسطوانات وليس رأيي وحدي .
الغناء أمام.. القضاء!
ختاماً، وفي حصر الملاحظة بحال الأغنية الشبابية المشرقية والفيديو كليب النموذجي المعبر عنها، يمكن القول إن هذه الأغنية ليست في أفضل وضع يمكنها من الدفاع عن نفسها في وجه منتقديها من المنظورين الفني والاجتماعي.
فبشكل عام، تعاني هذه الأغنية من انتقادات يقول أكثرها اعتدالاً وتهذيباً أنها جزء من حالة التخبط العامة التي تعيشها المجتمعات العربية منذ عقود، والتي تضرب بسلبياتها كل نواحي الحياة العربية، ولا تقتصر على الغناء والموسيقى فقط. وقد صارت هذه الأغنية من خلال إلغائها لكل ما عداها، مصدر خطر ثقافياً؛ لأنها تطمس حتى حدود الإلغاء كل الموروث الفني الشعبي والكلاسيكي المختلف عنه. وهذا ما لم تقع فيه الشعوب الأوروبية التي ظلت حتى اليوم تحتفظ برصيدها الفني الكلاسيكي بكل ألقه وحضوره.
إن اختلال التوازن ما بين الجيد والرديء (لصالح الطرف الثاني)، هو المسؤول عن المواقف المتشنجة التي يتخذها الكثيرون ضد الغناء الشبابي.
وأكثر الجهات اعتدالاً في دعوتها إلى تنظيم ثقافي للعلاقة بين الأجيال، وتجنب الصدام مع الشباب واعتدال الحوار معهم، باتت تستفز بعدد كبير من الأغنيات الشبابية وأشكال تقديمها، بحيث أن هذه الجهات باتت على شفير الانتقال إلى الهجوم المضاد.
فبعد القضية التي رفعت ضد إحدى القنوات بسبب فيديو كليب للمغنية روبي، قدم محامٍ إماراتي مؤخراً شكوى رسمية إلى الشرطة هي الأولى من نوعها في الإمارات العربية المتحدة ضد مدير عام إحدى القنوات الفضائية، وذلك بعد بث تلك القناة أغنية لإحدى المغنيات تحوي مشاهد مخلة ومنافية للآداب العامة .
إلى ذلك تستعد جمعية توعية ورعاية الأحداث في الإمارات لإطلاق حملة شعبية تشمل جميع دول مجلس التعاون الخليجي لمكافحة ظاهرة انتشار الأغاني الفاضحة والمبتذلة ورسائل الجوال القصيرة التي تبثها الفضائيات وتحتوي على عبارات مخلة بالآداب وبقيم المجتمع. وسيكون شعار تلك الحملة التي ستستمر لمدة خمس سنوات لا للمحطات الفضائية الهابطة .
فإلى أين؟ وما هو مستقبل الأغنية الشبابية؟
لا نعرف ما الذي يخبئه المستقبل لها. ولكننا نأمل في أن تكون هذه الجولة قد أعطت صورة عما هي عليه اليوم.
كلمات الأغنية في المغرب
لا مجال للمقارنة بين كلمات الأغاني الشبابية في المشرق ونظيرتها في المغرب. ففي الوقت الذي تبدو فيه كلمات الأغاني المشرقية بسيطة سهلة يمكن حفظها بسهولة، تبقى كلمات الأغاني الشبابية كما نجدها عند مطربي الراي ونجوم البلوز المغاربي وفناني البوب الشباب في الدار البيضاء وتونس والجزائر وغيرها من حواضر المغرب العربي، بالغة التعقيد، وهي تعكس في الواقع تعقد اللهجات المحلية في المغرب العربي. فلهجات المنطقة تتميز بنوع من الصعوبة التي يحسها المشارقة ببساطة؛ لأن هذه اللهجات ليست عربية خالصة، بقدر ما تُباطن عَرَبيتها الكثير من الأمازيغية والفرنسية، معجماً وتركيباً. ففي أغنية الراي وغيرها من التجارب الشابة، تصادفك لغتان أو أكثر في الجملة الواحدة في تجاور حميم صار مألوفا في لهجات المنطقة، وغير مثير للاستغراب بالنسبة للجمهور المغاربي. بل إن هذه الظاهرة بالضبط كانت وراء الإقبال الجماهيري الشديد للشباب على هذه التجارب التي تتكلم لغتهم.
وإذا كانت كلمات الأغاني الشبابية المشرقية تنبع عادة من عيون العشق والغرام ومناجاة الحبيب أو معاتبته، فإن كلمات أغاني المجموعات الشبابية في المغرب العربي قد اتخذت وجهة أخرى. فهي أحرص من نظيرتها المشرقية على الالتزام بهموم شباب المنطقة، والتعبير عن معاناتهم: البطالة، الهجرة السرية، معاناة النساء، وموضوعات من هذا القبيل. وحتى حينما تكون الأغنية عاطفية، فإن كلماتها تختلف مع ذلك عن الكلمات السطحية المكررة إلى حد الابتذال في كليبات الفضائيات المشرقية. وفي كلمات أغنيات الـراي نجد من العتاب والضجر والخصام وإعلان الهجران أكثر مما نجد من العشق والتغزل وعبارات الحب والغرام.
خنساء باطما الفنانة الشابة التي كتبت كلمات أغانيها بنفسها ولحنتها بنفسها لتقدمها باللهجة المغربية وبالفرنسية والإنجليزية. تقول إنها لا تتخيل نفسها مثلاً تغني باللغة العربية الفصحى: سيكون ذلك مضحكاً. سيكون صعباً أن أقدم أغاني شبابية خفيفة بالفصحى. سيبدو دمي ثقيلاً. لذا لا تتوقع مني الغناء يوماً بعربية فصحى. فأنا لست أم كلثوم .