تأثير التقنية في حياتنا أمرٌ ظاهر ولا يحتاج إلى شرح. ولعل من أهم آثارها تلك التغيرات التي تطرأ على المهن فمنها ما يندثر ومنها ما يولد ومنها ما يتغير. والأمثلة على ذلك كثيرة فتجارة اللؤلؤ اندثرت تقريباً لأن التقنية طوَّرت اللؤلؤ الصناعي، وكثير من التخصصات في مجال تقنية المعلومات ولِدت وأصبحت من ضروريات العصر.
ولعل من أهم الحِرفْ أو الوظائف التقليدية التي بدأت تتأثر بتقنية المعلومات هي وظيفة السكرتير أو السكرتيرة. فإذا كانت أهم المبررات لوجود هذه الوظيفة هي كثرة الأعمال وتطلبات العمل الإداري فإن تقنية المعلومات جعلت تنظيم تلك الأعمال أكثر سهولة. وهذا لا يعني أن هذه الوظيفة في طريقها للاندثار ولكنه يعني بدون شك أنها تحتاج لأن تتطور وتبرِّر وجودها في عصر تقنية المعلومات في القرن الحادي والعشرين (انظر موضوع: مهنة نخبوية تاريخياً.. السكرتارية.. البقاء للأصلح تكنولوجياً).
وإذا كانت الصورة تبدو كئيبة، وتعبِّر لأول وهلة عن اندثار وظائف وحِرفْ فإنه ليس من الضروري أن تكون كذلك. فكما أن التقنية تقدِّم الكثير من الحلول التي تلغي الحاجة لبعض الحِرفْ فإن التقنية والتقدم بكل أبعاده الاجتماعية والعلمية والعمرانية والحضرية يخلق أيضاً كثيراً من المشكلات التي تحتاج إلى حلول. وبمعنى آخر تخلق التقنية الكثير من الفرص الجديدة للاستثمار وفرص العمل وغير ذلك. فالمشكلات والاختناقات في مستوى من مستويات التحليل عبارة عن فرص للإبداع والاستثمار والتطوير وخلق فرص العمل.
ولنأخذ على سبيل المثال الازدحام السكاني ونشوء المدن الكبيرة التي يُعد سكانها بالملايين. لقد بدأت هذه الظاهرة مع ظهور العصر الصناعي، رغم أن أعداد السكان لم تصل إلى تلك الأعداد الهائلة إلا في القرن العشرين.
فتكدس الملايين من البشر، وظهور وسائل المواصلات الحديثة، والسيارات الصغيرة، خلق مشكلة الازدحام في المدن، تلك المشكلة التي تولَّد عنها الكثير من المشكلات، مثل التلوث في المدن الكبرى، وحوادث السير، وصعوبة الحركة في أوقات الذروة، وصعوبة التعامل مع الحوادث والطوارئ، مثل إطفاء الحرائق وغيرها. كل ذلك بسبب كثرة البشر وزحمة الشوارع وبطء حركة السير.
ولكن هل استفاد العالم من التقنية الحديثة للتعامل مع هذه المشكلة، التي يكفي لحلها، إلى درجة كبيرة، أن نقلِّل بشكل كبير عدد البشر الذين يضطرون لمغادرة منازلهم كل يوم في نفس الوقت لأداء أعمالهم؟ فلا شك أن استخدام التقنية الحديثة للتعامل مع مشكلات العصر الناشئة عن التقدم بكل أبعاده هي أحد أهم أسباب حلها.
ولنأخذ على سبيل المثال التقدُّم في تقنية المعلومات وزيادة انتشار واستخدام شبكات الإنترنت والإنترانت، فهذه التقنيات جعلتنا قادرين على أن نؤدي الكثير من الأعمال من منازلنا، مما يجعل من الممكن أن نحقق الكثير من المكاسب، ومنها:
•
خفض درجة الازدحام في الطرق، وتوفير الوقت الذي يقضيه الجميع في الشوارع والطرق السريعة.
•
تقليل عدد الحوادث المرورية والإصابات والوفيات.
•
زيادة الكفاءة في التعامل مع الحالات الطارئة مثل حوادث السير والحرائق وحالات الإسعاف.
•
إتاحة الفرصة لربات البيوت المتزوجات والمرضعات أن يحصلن على عمل دون أن يتخلين عن وظائف عائلية رئيسة أو يوكلنها لغيرهن.
•
رفع مستوى نظافة البيئة لانخفاض عدد السيارات التي تجوب الطرق.
•
رفع المستوى الصحي في المجتمع، فلا شك أن الازدحام المروري يرفع درجة الضغط والسكر وغيرهما من المؤشرات الصحية.
ولكن إذا كانت هذه المكاسب حقيقية فما الذي يمنعنا من الاستفادة منها؟ هذا الموضوع يحتاج إلى بحث ودراسة، ولكن يبدو أن الأسباب الرئيسة تشمل الآتي:
•
البشر لايتبنون الابتكارات الجديدة بسرعة، وقد درس المتخصصون في العلوم الاجتماعية هذا الموضوع باسترسال، وقسَّموا الناس إلى فئات بناء على سرعة تبنيهم للمبتكرات، وخرجوا باستراتيجيات وتوصيات لتسريع تبني المبتكرات المفيدة.
•
صعوبة تغيير مؤشر الأداء الوظيفي التقليدي (الحضور والانصراف) رغم وضوح قصور هذا المؤشر، فالموظف الذي يحضر ويغادر في الوقت الصحيح بدون إنتاج لا ينفع مؤسسته ولا يستحق راتبه. والمؤشرات الحديثة للأداء الوظيفي تدور حول الإنجاز، وهذا يمكن قياسه سواء عمل الموظف من بيته أو مقر مؤسسته.
وإلى جانب ما ذُكر، هناك قضاياً أخرى تتعلق بهذ الموضوع يجب التعامل معها أيضاً، ومن هذه القضايا:
•
أسلوب العمل من البيت عبر شبكات المعلومات الحديثة لا يلغي حضور الاجتماعات فهي ضرورية لأن بعض القضايا تحتاج أن يتعامل معها فريق، كما أن الاجتماعات تسهم في خلق ثقافة المؤسسة والمحافظة عليها، رغم أن بعض الاجتماعات يمكن أن تكون أيضاً بواسطة الاتصال التلفوني أو التلفزيوني.
•
أسلوب العمل عن طريق الإنترنت والإنترانت
لا يمنع من بناء أرشيف المؤسسة والمحافظة عليه، فنظام الأرشفة الإلكترونية قادر على أداء الدور، وهو الأسلوب المتبع حتى في كثير من المؤسسات التي تعمل بشكل تقليدي. وهذا لا يعني أنه لن يكون من الضروري الحفاظ على بعض الوثائق بنسخها الورقية الأصلية، إذا كان ذلك ضرورياً.
وقبل الختام تجدر الإشارة إلى أن العمل من المنزل، ومن خلال شبكات المعلومات الإلكترونية، لا يناسب كل حِرْفة. فهناك الكثير من المهن التي تتطب تواجداً فعلياً ليسير العمل بشكل صحيح. أما فيما عدا ذلك فإنه من غير المعقول أن تقدِّم لنا التقنية، التي ابتكرها البشر، الحلول وأن نتجاهلها لعقود. إن تأخر تبني مثل هذه الحلول يعود إلى بطء تبني الأفكار الجديدة التي تتطلب إحداث تغييرات تشريعية، وتنظيمية، وإدارية، قبل أن تكون قابلة للتطبيق بفعالية.