راحلتهم في الغزو، ومطيتهم وقت الصيد، ورهانهم وقت السباق.. أسباب كافية لرسم الخيل في شعر العرب: أشكالها، حركاتها، ألوانها، علاماتها المميزة، وأهميتها في حياة أصحابها. الباحث خالد عثمان* يقرأ في بعض المعلقات ويتوقف أمام التنوع الكبير في أشكال تناول الخيل شعراً وما فيه من زخارف فنية مختلفة.
لنقرأ أولاً لـ “امرئ القيس” وقد باكر الطير التي ما زالت مستقرة في أعشاشها، على فرسٍ ماضٍ في السير، قليل الشعر يقيّد الوحوش بسرعة لحاقه إيّاها إضافة إلى كرّه وفرّه وإقباله وإدباره معاً في قوته التي تشبه الحجر العظيم وقد ألقاه السيل من مكانٍ عالٍ:
وقد اغتدي والطير في وكناتها
بمنجردٍ قيد الأوابد هيكلِ
مكرٍ مفرٍ مقبلٍ مدبرٍ معاً
كجلمود صخرٍ حطه السيل من علِ
وللوصف الحسّي، وشكل الفرس نصيب أيضاً.. وهنا تكثر التشبيهات والمقارنات بين الفرس وبعض الحيوانات الأخرى:
له أيطلا ظبي وساقا نعامة
وإرخاءُ سرحان وتقريب تتفلِ
ضليع إذا استدبرته سدّ فرجه
بضاف فويق الأرض ليس بأعزلِ
كأن على المتنين منه إذا انتحى
مداك عروس أو صلابة حنظلِ
ذئب!
ولصورة الفرس عند “طرفة بن العبد” صورة الذئب وقد اجتمعت له ثلاث خصال: إحداها كونه شبيه الغضا وهذا أخبث الذئاب، والثانية إثارة الإنسان إياه، والثالثة وروده الماء، وهذان سببان يزيدان في شدة العدو:
وكرّي إذا نادى المضاف مخبّئاً
كسِيدِ الغضا نبّهته المتورد
فطرفة يعطف – في إغاثته – فرساً في يده انحناءٌ.. وهذا شيء محمود في الفرس.
معركة..!
أما عنترة فهو خير من يصف الفرس. وكيف لا؟! وهي راحلته إلى حبيبته، وأداة السفر في تنقلاته، وصهوته في معاركه:
هَلاَّ سألتِ الخيل يا ابنة مالك
إن كنتِ جاهلة بما لم تعلمي
إذ لا أزال على رحالة سابحٍ
نهدٍ تعاوره الكماة مكلّمِ
يدعون عنتر والرماح كأنّها
أشطان بئر في لبان الأدهمِ
فازورّ من وقع القنا بلبانه
وشكا إليَّ بعبرة وتحمحمِ
داحس والغبراء
وإذا كانت معلقة “زهير بن أبي سلمى” تخلو من ذكرٍ للخيل، ووصف لها، فإن من أسباب نظمها هو الخيل.. وبالتحديد “داحس والغبراء”.. حينما اجتمع القوم وتذاكروا الخيل وانتهوا إلى أن يُنزل قيس بن زهير العبسي داحساً والغبراء (الفرسين) ويُجري رجل من غطفان فرسين أيضاً.. اعترض ناس من فزارة من غطفان داحساً مرتين.. ومع ذلك فقد وصل “داحس” ثانياً.. و”الغبراء” سابقة.. طلب العبسيون حقهم من الرهان، فأباه عليهم الفزاريون. لذا نشبت حرب عرفت باسم “داحس والغبراء”.. دامت العداوة بسببها أربعين عاماً.. لكن الحارث بن عوف وهرم بن سنان.. وهما كريمان من غطفان أخمدا النار وحقنا الدماء بما دفعاه من مالهما الخاص، لذلك فقد أفرد الشاعر أبياتاً عديدة في مدحهما.
ونصل إلى معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي، فنقرأ له في سياقها عدداً من الأبيات.. مبرزاً في الأول صفة الغرّ للخيل.. وهي ما تشتهر به، يقول في ذلك في معرض حديثه مادحاً قومه:
وأيام لنا غرٍّ طوال
عصينا الملك فيها أن ندينا
لقد استعار إحدى أجمل أوصاف الخيل (الغرّ) وشبّه بها قبيلته العظيمة، ووقائعها التي لا تزول مع الأيام..
تركنا الخيل عاكفة عليه
مقلّدة أعنتها صفونا
حمامة!
ولدى “لبيد” صورة جميلة للخيل حينما يشبه عنقها بجذعٍ باسقةٍ ومنيفة، يسهُلُ عليها أن تعدو سريعة كالنعام.. وأن تطير كالحمام:
أسهلت وانتصبت كجذع منيفة
جرداء يحصر دونها جرّامها
رفعتها طرد النعام وشَلَه
حتى إذا سخنت وخفّ عظامها
ترقى وتطعن في العنان وتنتحي
ورد الحمامة إذا أجدّ حمامها
هذه بعض مشاهد الخيل عند الشعراء الجاهليين الذين أحبوها حتى أن بعضهم لم يتردد في رفعها إلى منزلة البشر وتحميلها المحمود من صفاتهم!.