الثقافة والأدب

رواية المرأة..
بين خطاب السرد والواقع

  • 81
  • 84a
  • 84b
  • 85

الروايات النسائية في المملكة بلغت اليوم عقدها الخامس، وهي وإن جاءت متأخرة عن روايات الرجل، إلا أن ساحتها تشهد مزيداً من العطاء، الأمر الذي يدفعنا إلى استنطاق خطابها واستطلاع خصوصياته، وذلك من خلال مراجعة الناقد الدكتور حسن النعمي لنماذج مختلفة من هذه الروايات بدءاً بإنتاج جيل الرائدات ووصولاً إلى روائيات اليوم.

مع تزايد عدد الروايات النسائية في المملكة غدا الوقوف أمامها ومحاولة استنطاق خطابها ضرورة معرفية ملحة. وقد أتيحت الفرصة في ملتقى جماعة حوار بنادي جدة الأدبي في هذا العام لقراءة خمس عشرة رواية صدرت ما بين عامي 1960 و 2003م، ومثلت مراحل زمنية مختلفة بدءاً من الكتابات الأولى لسميرة خاشقجي، وهدى الرشيد وهند باغفار، ومروراً بكتابات رجاء عالم ونوره الغامدي وانتهاء بكتابات مها الفيصل ونداء أبو علي على سبيل المثال. وكما تباينت هذه الروايات في أزمنة صدورها، فقد تباينت في مستوياتها السردية من حيث مواكبتها لتقنيات السرد الحديثة. فتواضع روايات سميرة خاشقجي يبرره ضعف البدايات، وهو المبرر نفسه بالنسبة لروايات عبدالقدوس الأنصاري والسباعي والمغربي في الثلاثينيات الميلادية.

تزامن أول ظهور لرواية المرأة مع بداية مرحلة النضج النسبي في الرواية السعودية على يد حامد دمنهوري، خاصة في رواية “ثمن التضحية” الصادرة عام 1959م وروايات إبراهيم الناصر. غير أن مدة ثلاثين عاماً تفصل بين أول صدور لرواية الرجل وبين رواية المرأة لم تنقذ المرأة من الوقوع في انكسارات البدايات، من حيث ضعف الأساليب وجفاف التقنيات. فقد كانت الروايات المنشورة منذ أوائل الستينيات الميلادية تسير في أفق بعيد نوعاً ما عن التطورات السردية في الرواية العربية إلا استثناءات قليلة، مثل رواية نوره الغامدي “وجهة البوصلة”، ورواية ليلى الجهني “الفردوس اليباب”، حيث ظهرتا بمستوى فني يميزهما عن بقية الروايات الأخرى. غير أن الروايات الأخرى لم تكن كلها على مستوى واحد، فتفاوتت بدورها. فهل أن غايات الكتابة لدى المرأة لم تكن روائية أصلاً؟ أي هل كانت الكتابة مجرد منبر تطرح من خلاله الكاتبات أفكارهن من دون الوقوع في مأزق مواجهة سلطة المجتمع طالما أن الرواية تبدو في نظر المجتمعات المحافظة مجرد تسلية لا يحفل بها أحد ولا يؤخذ ما فيها مأخذ الجد؟. أم كانت الكتابة سعياً من المرأة لاستخدامها أداة لفضح خطاب الرجل المهيمن بثقافة الكتابة؟ هذه مدارات وأسئلة جديرة بأن يعاد النظر فيها من خلال ربطها بمفهوم الخطاب، حيث لا ينبغي عزل الكتابة النسائية عن واقع الثقافة التي تقع تحت هيمنة الرجل.

لعل أهم ملمحين يمكن أن نتبينهما في رواية المرأة هما دلالة المكان، حضوراً وغياباً، ومفهوم الإقصاء والإحلال في علاقة المرأة بالرجل. ونعتقد أن هذين الملمحين، رغم وجود قضايا أخرى يمكن تناولها كالتقنيات السردية، أكثر إلحاحاً بالنسبة لفهم الخطاب الذي تتكئ عليه رواية المرأة.

المكان: إقصاء المتن.. وتثبيت الهامش
تبدأ أزمة المرأة مع المكان من الواقع وتمتد إلى المتخيل السردي. فهي تبدو محكومة بالمكان المغلق. كبرت القناعات حولها حتى بدت هي القاعدة وما عداها هو الاستثناء. ومن هنا تأتي كتابة المرأة السردية لتنقلها من ظل المكان إلى أرض تتخلص فيها من إقصائها. فهل حققت لها كتابتها السردية بعضاً من مطالبها، أم أن لعبة المكان المغلق ظلت تطاردها حتى وهي تكتب خطابها وتفضح أزمتها؟ إن المرأة التي كتبت هذه الروايات هي سليلة واقع الإقصاء هذا، فكيف سيكون تعاملها مع المكان سردياً؟

كنموذج لتغييب المكان تقدم رواية هند باغفار “البراءة المفقودة” مفهوم المكان البديل. تجري حوادث الرواية صراحة في محافظات مصر من خلال الهروب الدائم للمرأة “غربة” من جريمة قتل لم تقترفها، بل اقترفها رجل تحرش بامرأة أخرى. ورغم أن الرواية في ظاهرها تعالج قصة عامة بحبكة بوليسية قوامها المطاردة والتخفي، فمن الممكن تأويلها إلى أبعد من ذلك، إذا نُظِر إليها ضمن آليات الخطاب. ولعل ضرورة المكان هنا ليست في مناقشة علاقته بخصوصية مجتمع الكاتبة، بل رغبة في إتاحة حرية التنقل والحركة للمرأة الهاربة من قدرها. إن الهروب هنا لا يؤخذ في شكله البوليسي، بل في بعده الاجتماعي. فهو هروب من هيمنة الرجل / الضابط المعني بتعقبها والأب الذي لم يتوقف عند إمكانية السؤال عن براءة ابنته مطلقاً. وحتى عندما وصلت إلى براءتها لم تصل إليها بنفسها، بل بإرادة جبارة من الرجل بصرف النظر عن اختلاف الدوافع من رجل إلى آخر. فغربة واقعة بين إرادتين ذكوريتين، إرادة شريرة وأخرى خيرة. ومصيرها يقرره الرجل سواء رضي عليها أم سخط. إن أهم ما في هروب غربة أنها استطاعت أن ترعى نفسها في أحلك الظروف. فمشكلتها ليست في عدم قدرتها على رعاية نفسها، بل في ملاحقة الرجل لها، وهو هنا الأب، وضابط الشرطة، وكثير من الذين يشون بها. وهي ملاحقة إقصاء، أولاً بالتهمة التي لفقها رجل، وثانياً لتقديمها لعدالة الرجل.

وإذا كان إقصاء المكان أو عدم تبرير حضوره سردياً في هذه الروايات يبدو خاضعاً لأسباب اجتماعية أو لإخفاقات فنية، فإن رجاء عالم في رواية “مسرى يا رقيب” تشغل نفسها بالمكان الميتافيزيقي. فهي تهرب من واقعها إلى واقع ما ورائي، حيث تبدأ رحلة الخروج من شرطها الاجتماعي بتأسيس كتابة لا منتمية. قد لا تكون الأسباب نفسها التي حدت بالكاتبات الأخريات في التخفي خلف المكان الآخر، أو تسطيح حضوره إلى أقصى مدى، هي الأسباب التي أملت على رجاء عالم اختيارها. لقد كتبت رجاء لقارئ لا يعيش مشكلاً اجتماعياً، كتبت لقارئ يحتاج إلى أن يعيش العوالم الميتافيزيقية أكثر من رغبته في التعايش مع الفن الذي يسائل الواقع ويستنبت منه جدوى الحياة. إن كتابتها من حيث قراءتها ضمن آليات خطاب الإقصاء، هي أيضاً هروب آخر وراء اللامكان. فهي ليست في نهاية المطاف بعيدة عن مستوى الخطاب في الكتابات النسوية الأخرى. فالكاتبات اللاتي استخدمن تقنية المكان البديل لتمرير قناعاتهن بضرورة التغيير هن أكثر التحاماً بالخطاب على مستواه الاجتماعي والثقافي.

السؤال الآن، هل هناك رهاب حقيقي عانت منه الكاتبات في عدم التصريح بالمكان من ناحية، أو في اتخاذ المكان البديل بوصفه حلاً لتمرير خطابهن من ناحية؟ أم هل هو الخروج من المكان المغلق بغرض الإدانة من ناحية، أو بغرض معالجة موضوعات تبدو معالجتها في ظروف المكان المغلق غير مؤاتية من ناحية أخرى؟ لا نملك إلا التساؤل وقراءة ما قد يكون مدخلاً لفهم الظاهرة. فربط السياقات بعضها ببعض قد يفسر دون أن يحسم الإجابة، قد يبرهن مرحلياً، دون أن يكون هذا البرهان أو ذاك نهائياً. لأن النهاية بالمفهوم الفلسفي غير حتمية، بل متغيرة بحسب البدايات المختلفة. فكل نهاية تحمل بدايتها في أحشائها، كما أن الولادة تحمل نهايتها في أحشائها كذلك.

الخطاب والخطاب المضاد:
الإقصاء والإحلال
إن رواية المرأة في السعودية نمط من الكتابات السردية التي تتخذ من الفن السردي منطلقاً للتعبير عن جدل الذات مع الواقع، هاربة من الكائن إلى واقع ينبغي أن يكون حتى ولو في المتخيل. فالمرأة الكاتبة في هذه الروايات لا تشبه شهرزاد إلا في كونها تريد أن تهرب من كونها ضحية إلى الخلاص من واقعها. كما أن إشكالية المرأة في هذه الروايات هي في أنها لا ترى من العالم إلا الرجل. فهو خيبة أملها، وهو شريكها المستبد، وهو مصيرها الذي تهرب منه. لقد تحولت بعض كتابات المرأة إلى ذات ناقمة تفترض سوء الرجل مقدماً. فالمرأة، التي تستخدم السرد في هذه الروايات، ليست شهرزاد التي أشاعت روح التسامح ونقلت الرجل من التدمير إلى التسامح، ومن القتل إلى العفو بفعل السرد، بل إنها امرأة واقعية عانت من تسلط ثقافة الرجل، وعنَّ لها أن تأخذ بعض أدواته لتقهره بها.

تتسم معظم روايات المرأة بضعف فني بارز، مرده على الأرجح الافتقار إلى الموهبة لدى أغلب الكاتبات. ولعل منطلق بعض هذه الروايات لم يكن الفن في الدرجة الأولى، بل استغلال الكتابة لفرض هيمنة الحضور. فالكتابة قادرة على حمل انتصارات متخيلة للمرأة في مقابل انتصارات الرجل الواقعية. وبالتالي فإن الكتابة هنا تنتقل من صفتها الأدبية إلى صفتها الاجتماعية، ومن صفتها السردية إلى صفتها الآيديولوجية، بغية تأسيس خطاب مضاد لخطاب الرجل. فمثلما يمارس الرجل حرب الإقصاء في خطابه الواقعي، تمارس المرأة الإقصاء في المتخيل السردي بعد أن عجزت عن تحقيق الإقصاء أو استرداد حقها في المماثلة لخطاب الرجل في الواقع. غير أن إقصاءها للرجل عن هيمنته هو إحلال لها في موقع الهيمنة والسيطرة. فإذا كان الرجل يقف على هرم متعال من أخطاء الإقصاء والتهميش والتسلط، فإن سلوك المرأة للخطاب نفسه هو مأزق وضعت نفسها فيه تحت طائلة الدفاع عن حقوقها. لقد بدا واضحاً أن خطابها السردي يقدم نفسه بديلاً لخطاب الرجل. فالعالم، وفقاً لتصوير المرأة السردي، قد سئم من الرجل الذي قاد العالم إلى الخراب. فهو خطاب يؤسس شرعيته على فرضية الأخذ بمبدأ الفرصة. والرجل، في نظر هذه السرود، تسيّد العالم ولم يفلح في إسعاد الإنسانية، وتحولت المرأة إلى سادنة القرابين، حيث ظلت تنجب الأبناء ليجروا إلى ساحات الحروب.

إن هذه الروايات تطرح السؤال الآتي: ماذا لو حلت المرأة مكان الرجل؟ كيف سيكون حال العالم؟

قدمت رواية “آدم يا سيدي” لأمل شطا فرضية الإجابة لخطابي الإقصاء والإحلال عندما أقصت الرجل / حمزة عن حبكة الرواية معترفة له بدور شهم، لكنَّ عليه أن يعتزل الحضور، أن يتقاعد عن دوره، أن تحضر المرأة ويغيب الرجل حتى يظهر دور المرأة. لأن من أساسيات الخطاب استبعاد الثنائي، وتأكيد فرضية الإقصاء. لقد جاء موت حمزة فعلاً حاسماً ليخلو مسرح الأحداث للأم الأرملة لتنهض بدور كان يقوم به زوجها. ولعل أول صدمة واجهتها هي إقرارها أنها لم تكن تعرف العالم الذي عاشت فيه سنوات طويلة، لأن حمزة / الرجل كان هناك دائماً يقوم بدوره. أما هي، فقد ظلت قابعة في شرطها البيولوجي القائم على العطاء دون المشاركة والمبادرة. أما بعد إقصاء حمزة، فقد نجحت الأم الأرملة في تربية الأبناء، حيث كشفت خطاباً مناقضاً للرجل وهو الحوار في حل كل المعضلات التي تواجهها دون اللجوء للقهر والتسلط والاستبداد. وهو ما نلحظه كذلك في رواية “امرأة فوق فوهة بركان” لبهية بوسبيت، حيث تقوم الأم بترميم العلاقة بين الأب وأبنائه. ظهرت الأم شريفة قادرة على تأسيس قناة للتواصل مع ابنها في الوقت الذي رأى الأب أن الحوار مع ابنه فيه قدر من جرأة الابن عليه وتعويد له على تكسير أوامره. وهي إشارة إلى تعطيل الرجل لعقله واستبداله بعضلاته لحل مشكلات العالم. ولا تبتعد رواية “بسمة من بحيرات الدموع” لعائشة زاهر أحمد عن تحمل الأم أخطاء الرجل في ترميم العلاقة المنهارة بين الأب وأبنائه. وإذا كانت رواية “آدم يا سيدي” لا تتنكر للرجل ولا تصمه بالتسلط، بل تمنحه من الصفات الكريمة ما يجعل هذا الوصف يخرج عن سياق كثير من الروايات المقروءة في هذا الملتقى، فإن ذلك لا يبدو مختلفاً في محصلة الخطاب العام الذي تشتغل عليه هذه الروايات وهو أنه لا وجود للمرأة في حضور الرجل، وبالتالي، لكي تحضر المرأة لا بد أن يغيب الرجل. إنها المفارقة بعينها. ففرضية أنهما شريكان في السلطة / المسؤولية فرضية خارج الخطاب الذي لا يمكن أن يتسامح في دحر سلطة الهيمنة التي تتأتى للمفرد لا للمثنى.

وإذا كانت رواية “آدم يا سيدي” أكثر دهاء في إقصاء الرجل، فإن هناك روايات لم تحتمل لعبة الدهاء. من هذه الرواية “وهج من بين رماد السنين” لصفية عنبر، حيث أقصت الرجل بطريقة بدت نزقة وغير مبررة سردياً. فالبطلة منى فتاة نذرت نفسها وقلبها لابن عمها أمين، الذي حقق نفسه علمياً ومهنياً وهي منتظرة له. وعندما أرادت أن تكمل تحصيلها العلمي على أن يتزوجا ويسافرا معاً لتكمل دراستها خارج وطنها، اعتذر لأنه لا يمكن أن يترك حياته المهنية. وهو ما جعلها تقرر ألا تنكسر. فسافرت للدراسة وحيدة، مقصية له، مثلما أقصاها من قبل، إقصاء بإقصاء. وإذا كانت الرواية بهذا الترتيب مفرطة في الخيال، فإنها تسعى إلى تأكيد قدرة المرأة على النهوض بنفسها والانتصار مثلها مثل الرجل. وتنتهي الرواية بانتصار متخيل لمنى، يكمن في ثناياه خطاب الهيمنة، الواحد بسلطته، والمشترك بعقلانيته. وإذا كان سفر منى بمفردها للدراسة للخارج غير ممكن في خطاب الواقع، فإن ذلك يؤكد جموح خطاب المتخيل في تعزيز أسبقية خطاب السرد على الواقع. فهناك فرق بين الكائن والممكن، فالكائن خطاب الواقع المعلن، بينما الممكن خطاب متخفٍ يحرص على تحقيق ما ينبغي أن يكون، وهو في الغالب ردة فعل للخطاب الكائن.

فبشكل عام، إن أهمية قراءة رواية المرأة من منظور الخطاب يتيح فرصة الوقوف عند نقطة استخدام الجمالي لتبرير مواقف مسبقة أو لجعلها الركيزة الأساس في المقولة السردية النهائية في رواية المرأة. فالمرأة تكتب بحس الإدانة المسبقة للرجل، بحس الرغبة في تجاوز وكسر القيود، فتتحول كتابتها إلى نص مقاوم يفتقد المبرر لوجوده الفني. وربما يفسر ذلك ضعف معظم نتاج المرأة الروائي من الناحية الفنية. وهذا لا يعني، بطبيعة الحال، الدعوة إلى كتابة سردية خالية من القيمة الموضوعية، بل إنه تأكيد على ضرورة تلازم الجمالي والفكري في أي عمل سردي.

—————————————————————

مقتطفات
الفردوس اليباب
ليلى الجهني
“ها أنت ذي قد رحلت قبل أن تدعيني أكتشف معك جدة، المدينة التي كشفت لحبك عن وجه لم أره فيها. ظللتُ البارحة أتذكر كل الأماكن التي عبرت في أوراقك، الشوارع والمنعطفات والجسور والبنايات الضخمة والبحر قميص جدة الشاحب المتراجع دوماً إلى الوراء، المدفون تحت أطنان الرمل من أجل أن تصير اليابسة أكبر من البحر، وكم كان غريباً أن أكتشف أن كل ما عرفته عن جدة لا يشبه بأي حال من الأحوال ما عرفته أنت وكتبتِه.
وها قد خلت جدة منك. ها هي ذي ستكشف لي عن وجه الموت، تقرأ عليَّ سطرين من كتاب المعرفة ثم تسلمني للشوارع، لنزق الذكريات وجنونها، للبحر – قميصها الشاحب – يفتح عشاقها أزرته واحداً تلو الآخر، وإذ تتبدى التفاصيل تكون الدهشة قد أخذتهم بعيداً وتكون هي قد رتبت شعثها وعدَّلت هندامها في انتظار عاشق جديد.

الآن، لا بحر في البحر، وأنا لم أنم ولم أبكِ (ما أقساك! حتى الدمع أخذتِه معك). وأغسطس يغير طقسه تجاه الموت. أغسطس يعتسف الغيم ويصفع وجه البحر. أغسطس قاسٍ شحيح مستبد وأنا أكرهه وسأكرهك أيضاً يا صَبا. أجل، سأكرهك وسأحقد عليك إذ تغيبين وتتركين للقلب كل تلك التفاصيل التي عشناها معاً تماماً مثلما يفتح المسافرون حقائبهم في غرفات الفنادق ثم يطوونها عند الرحيل على عجل وقد نسوا بعض ما فيها في الأدراج. وأنت لم تنسي شيئاً، بل جئت وفتحت حقائبك في القلب ثم رحلت عنها وعني بلا وداع.

تركت رفوفاً من الذكريات والتفاصيل الصغيرة التي لن تغيب عن القلب، وجهك ونحن نتداول أحاديث العذاب أمام الفردوس المفقود وتنورتك الزرقاء الشاحبة ترتطم بساقي مثل موجة بحرية بلا زبد. في نهاية الأمر يا صَبا، ربما كنا نحن الزبد الهش الذي يذهب جُفاء. ولم نكن نتحدث، كنا فقط نحاول ألا نستسلم لليأس وأحياناً لجدة التي غدت مثل أكُفٍ عملاقة تطبق على الأحلام فتغتالها. جدة التي لا تعرف منطقة وسطى، ولا تؤمن بأنصاف الحلول، ترهف أسماعها لخطاب المال وكرة القدم والفيديو كليب، وتتثاءب – مثل جمهور أمسية قصصية – أمام خطاب الحلم الهامس الذي يحتاج لتواقع وأذونات كثيرة قبل أن يرفع صوته.”

قطرات من الدموع..
سميرة خاشقجي
“ينفرد الشيخ بابنته يحاول مخاطبتها فلا تجيبه. وينام كل منهما في طرف من الخباء ما بقي من الليل.
ويصبح الصباح.. وينادي الرجل على ابنته القابعة أمامه فلا تجيبه.. فيقترب منها منادياً عليها بصوت مرتفع.. وهي تنظر إليه في بله.. ولا حياة لمن ينادي.. وعجب من أمر ابنته.. وتحركت الشفقة في قلبه.. وربت على خدها.. فهاله ارتفاع حرارتها.. فقال لها:
– 
ماذا بك؟ متى ارتفعت حرارتك يا ذكرى؟
فلم تجبه فيزداد حيرة.. فتشير إلى فمها.. ويعرف الشيخ العلة.. فيرق قلبه.. ويخرج إلى الخلاء يضرب كفاً بكف قائلاً:
– 
اللهم لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه.
ويجهش بالبكاء.. ويلتف حوله جيرانه ويعرفون الخبر.. فيشيرون عليه بالسفر بها إلى «الرياض» حيث الطب والعلاج.

ترك الشيخ محجوب متاعه لدى جيرانه أمانة وذهب بابنته إلى المدينة «الرياض» بعد ساعتين قضياها، في السيارة.. وكان الجو بارداً.. يلفح الوجوه. ويتجه الرجل وابنته إلى دار صديقه الشيخ صالح بمنطقة الشميسي.

وشيخنا صالح يعمل تاجر بقالة ويقيم بالقرب من متجره الصغير في بيت مصنوع من الطين به مدخل صغير.. وباحة ضيقة.. وثلاث غرف.

ورحب الشيخ صالح بصديقه.. وجلست ذكرى مع زوجته كدمية لا تأتي بحركة ما.. ولا يسمع لها سوى شهيقها.. وزفيرها.. وبعد تناول الغداء أخذ الشيخ محجوب يقص على صديقه حوادث الأيام.. وعوادي الزمن.. والرجل منصت له، حتى إذا ما أتم حديثه رفع الشيخ صالح رأسه إلى السماء وقال:
– 
اللهم لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، هذا أمر الله وقضاؤه.. إن كان الأمر كما حدثتني يا صاح.. فلقد ظلمت زوجتك وابن أخيك يرحمهما الله…”

البراءة المفقودة..
هند باغفّار
“اقتحم الجمهور المتجمع بيت القتيلة بحثاً عن غربة بينما كانت هي تستقل إحدى سيارات التاكسي للعودة إلى بيتها ولكن صوت إشارات البوليس الذي كان ينطلق في الشوارع أدخل الخوف إلى نفسها فخفق قلبها وخشيت أن يلصق (محي) الجريمة بها..

احتارت.. وارتبكت.. مزق الاضطراب أعصابها.. فقالت لسائق التاكسي.. اتجه بنا نحو محطة القطار الذاهب إلى الاسكندرية.. فأطاع وأوصلها إلى هناك..

طوّق البوليس منزل القتيلة واستمعوا إلى شهادة (محي) ضد (غربة) وساعده في إنجاح كذبته معرفة الكثير من الطلبة بالخصام الذي جرى بين غربة وشهرزاد..

بعد ذلك فتش البوليس المنزل فوجدوا كتب غربة ملقاة على المقعد وشاهدوا بصماتها على السكين وجسد القتيلة ملقى على أرض المطبخ وقد انحدرت منه الدماء بغزارة..

كان هرب غربة دليلاً قاطعاً لدى البوليس والناس على إثبات تهمة القتل عليها. فطلب البوليس الضابط محمد عبدالعاطي والد المتهمة بعد أن بحثوا عنها في الأحياء المجاورة لمنزل القتيلة.. طرق رجال البوليس باب الفيلا الفخمة ففتح لهم البواب وسار بهم إلى غرفة الصالون حيث استقبلهم الضابط وزوجته وأبناؤه الأربعة. سأل أحد الرجال الضابط محمود عن (غربة) فقال له:
– غربة في منزل إحدى صديقاتها.. خيراً إن شاء الله.. ما الذي حدث..
– خيراً يا سيدي.. ولكن في بيت من بالضبط..
– في بيت الحاج عبدالرحمن منير..
– ألم تعد بعد؟
– كلا.. ولكن ما الذي جرى؟
– أعتقد أن الأمر بسيط يا سيدي..
– لقد نفد صبري ما الذي جرى..؟
– ابنتك يا سعادة الضابط متهمة بقتل صديقتها (شهرزاد) منير.. وقد بحثنا عنها فلم نجدها..

نزل الخبر نزول الصاعقة على الجميع.. صرخت الأم صرخة حادة وتهاوت على الأرض مغشياً عليها فتجمع حولها أبناؤها الأربعة وهم يصرخون.. وعقدت المصيبة لسان الأب المسكين فتمتم في ذهول..
– غربة تقتل.. مستحيل.. لا أصدق.. إنها ملاك.. لا يمكن أن تفعل ذلك..

فجذبه أحد رجال البوليس من يده قائلاً:
– هيا بنا يا سيدي.. البوليس ينتظرك.. وانطلقوا مسرعين إلى مكان الحادث.. وقد ركب معهم أخواها مشتاق ومحمد بعد أن تركا والدتهما في رعاية الخدم وشقيقتهم سميرة.. وبعد قليل وصل الجميع إلى مكان الحادث وشاهدوا الجثة واستمعوا إلى شهادة بعض الجيران بأنهم رأوا (غربة) تدخل منزل صديقتها. ثم استمعوا إلى شهادة محي الذي أكد بأنه سمع صرخة الاستغاثة وأنه رأى (غربة) وهي تخرج هاربة ويداها مخضبتان بالدماء..”

أضف تعليق

التعليقات