بيئة وعلوم

السياحة البيئية..
الاختلاء بالطبيعة البكر

  • 33b
  • 34
  • 35a
  • 35b
  • 36a
  • 36b
  • 36c
  • 36d
  • 36e
  • 37
  • 38
  • 30-31
  • 32a
  • 32b
  • 32c
  • 33a

لم يكن تعبير “السياحة البيئية” (Ecotourism) موجوداً قبل عقدين من الزمن. ولذا، فالصورة لا تزال ضبابية في أذهان الكثيرين ممن يحاولون فهم هذه الظاهرة الجديدة في صناعة السياحة القديمة. مراسلو القافلة يناقشون في هذا الموضوع هذا النوع من السياحة وما يمثله في اقتصاديات بعض الدول، بالإضافة إلى تناول آفاق السياحة البيئية في المملكة.

1
إنقاذ الطبيعة عبر بيعها!
يفاجئنا البحث عن “السياحة البيئية” على صفحات الإنترنت بمئات العناوين التي تزداد يوماً بعد يوم. وينتشر الحديث عن هذا النوع من السياحة في أوروبا مع بعض النكات، مثل السؤال: “ما الفرق بين السياحة البيئية والسياحة العادية؟”، والجواب هو: “20%”. أي أنها سياحة أكثر كلفة من غيرها.

فمتى تكون السياحة بيئية ومتى لا تكون؟

المسألة غير محسومة تماماً، إذ لا توجد معايير رسمية في هذا المجال، وإن كانت هناك بعض المبادئ العامة. ويمكننا أن نطلع على بعض هذه المبادئ في كتابات صادرة عن جهات أقرب من غيرها إلى فهم هذا الموضوع مثل الجمعية البيئية العالمية في الولايات المتحدة، أو اتحاد المحافظة على البيئة العالمي ومقره الرئيسي في سويسرا، وغيرهما.

جميع الأضداد
يحق لنا أن نتساءل ما الذي يجمع بين السياحة كصناعة ترفيهية وعلم البيئة؟ إنه، إلى حد ما، اجتماع أضداد. فالسياحة تضر بالبيئة على الصعيد الطبيعي والاجتماعي والثقافي، في حين أن علم البيئة يسعى إلى إنقاذها وحمايتها من المؤثرات الخارجية.

حصل اجتماع الأضداد هذا بعدما عرفت السياحة نمواً متسارعاً في السبعينيات من القرن العشرين، وتحولت من متعة خاصة بنخبة اجتماعية إلى متعة في متناول شرائح واسعة من المجتمعات. إذ وصل حجم الحركة السياحية في العالم في عام 2000م إلى نحو 700 مليون سائح، وقُدّر الإنفاق المالي على السياحة العالمية بأكثر من 650 بليون دولار، وهذا ما يعادل نحو 20% من الدخل العالمي. ومع وصول “السياحة الجماهيرية” إلى هذه المستويات غير المسبوقة ظهرت عواقب النمو السياحي في منتجعات تحولت إلى تراكم منشآت سريعة البناء وفقدت معالم الأصالة، وانخرط السكان في المناطق السياحية في نشاطات خدمية غير منتجة وموسمية، ودمّرت عناصر ثقافية وتراثية لديهم. وبموازاة ذلك، ومنذ الستينيات من القرن العشرين، كان الاهتمام بالبيئة يعيش فورة فكرية وتنظيمية تهدف إلى التوعية والضغط لحماية البيئة.

جاءت السياحة البيئية لتلبي حاجتين: حاجة المستهلك إلى أماكن سياحية طبيعية لم تتلفها سياحة الجماهير، والحاجة إلى تطوير عقلية بيئية محافظة لها فلسفتها ومبادئها.

البعض يربط انخراطه في السياحة البيئية بـ “الطبيعة” وسياحة المغامرة، مثل الوصول إلى القطب الجنوبي أو تسلق جبال الهملايا، على الرغم من أن مفهوم السياحة البيئية تخطى ذلك لاحقاً بعض الشيء. كما أن هذا النوع من السياحة هو عند البعض عودة إلى سياحة ما قبل انتشار سياحة الجماهير، لكنها مرافقة مع إحساس أكبر بالمسؤولية تجاه الطبيعة والثقافة والقيم المحلية.

وتحمل السياحة البيئية المخاطر نفسها التي تنطوي عليها أية سياحة، وتُطرح حيالها معضلة النمو والحماية. فنموها مثلاً يثير أسئلة حول تأثير انتشارها الجغرافي ووصولها إلى أماكن لم تصلها السياحة من قبل، مقارنة مع حدود التأثير الجغرافي لسياحة جماهير “ممركزة”. وإذا ما بقيت هذه السياحة البيئية محصورة في النخبة من محبي الطبيعة المخلصين، فإن السؤال يطال جدواها في خدمة التنمية المستدامة للقطاع السياحة بشكل عام.

الطبيعة سلعة
هناك ادّعاء جريء من الحريصين على ظاهرة السياحة البيئية يقول: يمكن “إنقاذ الطبيعة عبر بيعها”. وهذا التفكير ليس جديداً، إذ تعود جذوره إلى مفهوم “المتنزه الوطني” (National Park) الذي نشأ في أواخر القرن التاسع عشر في أماكن مختلفة مثل الولايات المتحدة وكندا واستراليا.
المتنزهات هي في الواقع شكل من أشكال المناطق المحمية، توفر في الوقت نفسه خدمات سياحية تختلف فيها درجات الحماية بين نطاق جغرافي وآخر، بحيث تتضمن مناطق حماية صارمة، ومناطق قابلة للاستخدام المحدود، ومناطق مرنة تسمح للزائرين بالقيام بنشاطات متنوعة ملائمة للمحيط البيئي مثل المشي، التسلق، استخدام الزوارق، الغطس، ركوب الخيل، صيد السمك وغير ذلك. وعلى الرغم من أن العلاقة بين السياحة والحماية في تلك المناطق معقدة، لا بل متناقضة في بعض الأحيان، كانت السياحة عنصراً مهماً أُخذ دائماً بعين الاعتبار عند بداية تأسيسها وإدارتها بشكل يصونها لزائري المستقبل.

وعرفت المناطق المحمية توسعاً في السنوات الأخيرة، سرَّعه الوعي البيئي منذ الستينيات، ووصل عددها اليوم إلى ما يناهز 44 ألف منطقة محمية حسب مقاييس “اتحاد الحفاظ على البيئة العالمي” الذي يصنفها عادة في ستة مستويات تبعاً لدرجة الحماية المطلوبة. والمستوى الأول من التصنيف وحده يمنع دخول تلك المناطق على الزائرين منعاً باتاً، ما يعني أن السياحة ممكنة بحدود مختلفة في التصنيفات الأخرى.

العبرة التي تقدمها هذه المتنزهات الوطنية أو المحميات التي يمكن زيارتها هي أن السياحة (بما فيها من تأثيرات سلبية في البيئة) يمكنها أن تساهم في شكل من الأشكال بدعمها من خلال ما توفره من عائدات يعاد توظيفها في المحافظة على هذه المناطق، إضافة إلى رفع مستوى الوعي لأهداف حماية البيئة وترغيب الزائرين بوجوب الحفاظ عليها.

وقد بات المردود الاقتصادي لهذه النشاطات مسألة مهمة في بعض البلدان. ففي كندا تشكل هذه السياحة ربع السياحة الداخلية، تجني منها الدولة نحو 1.7 بليون دولار من الضرائب، في حين أنها لا تصرف على صيانة هذه المتنزهات والمحميات أكثر من 300 مليون دولار سنوياً.

وقد نمت هذه الظاهرة السياحية في العقدين الأخيرين. فمراقبة الطيور في الولايات المتحدة شملت 54 مليون شخص عام 1994م، وهو ضعف حجمها عام 1982م. كما حوّلت كوستاريكا مثلاً نحو 25 في المئة من مساحة أراضيها إلى مناطق محمية على شكل متنزهات وملاجئ للحياة البرية، وهي تستقبل نحو 800 ألف سائح أجنبي سنوياً.

أما في فرنسا، فتدل الإحصاءات على أن غابة فونتنبلو استقبلت في العام الماضي نحو 13 مليون زائر، في حين لم يستقبل مركز الترفيه الشهير “يورو ديزني” أكثر من 11 مليوناً.. أما المخاوف فهي أن يشكل المردود الاقتصادي حافزاً لنمو سياحي قد تكون عواقبه غير مقبولة بيئياً.

دمج التناقضات: الحماية والاستخدام
محاولة الدمج بين حماية الطبيعة واستثمارها سياحياً باتت مسألة رائجة في العقد الأخير، والمعنيون بها كثر: الحكومات الوطنية الإقليمية، المحافظون على البيئة، السيّاح، أصحاب المصالح المختلفة، السكان المحليون، الجامعات ومراكز الأبحاث، المنظمات الثقافية والشركات الممولة للمشاريع… وبما أن هذا النشاط هو دمج توفيقي بين أهداف متناقضة ومصالح متعددة ومتمايزة، فإنه اتخذ أشكالاً متنوعة يختلف بعضها عن بعضها.

فليست كل المناطق المحمية تابعة لملكية أو إدارة عامة، إذ إن هناك ملكيات شاسعة تجري زراعتها وتدار مواردها بشكل تحافظ فيه على المناظر الطبيعية والتنوع الأحيائي كملجأ قرود البابون في بيليز. وهناك مناطق برية وغابات لنشاطات متنوعة وهوايات ملائمة للبيئة كغابة هاليبرتون في كندا. وفي جنوب أفريقيا هناك مناطق مخصصة لصيد الحيوانات البرية! (ولو أنها تحصل ضمن شروط) وتوفر لزائريها طعام الصيد…

إن السياحة البيئية لا تنسجم تماماً مع جميع النشاطات السياحية في المتنزهات، فهي ترفض على سبيل المثال التحليق بالطائرات المروحية فوق غابة كما يحصل في متنزه بلوستون الوطني في أمريكا. إنها حالة موسعة للدمج بين الحماية والنشاط السياحي.

صعوبة التحديد
ليس هناك تعريف واحد للسياحة البيئية. فهناك من يعادلها بالسياحة الطبيعية، أو بالسياحة الحريصة على البيئة، وفيما يرى البعض أن كل سياحة هي بيئية في شكل ما، يشكك آخرون بوجود سياحة بيئية أصلاً.! يقول التعريف الذي تقدمت به جمعية السياحة البيئية عام 1992م: “السياحة البيئية هي سفر مسؤول إلى مناطق الطبيعة التي تصون البيئة وتساند مصالح الشعب المحلي”. أما برنامج الأمم المتحدة للبيئة فاعتبر، عام 2002م، أن السياحة البيئية تشير من جهة إلى مفهوم مبني على مجموعة مبادئ، ومن جهة أخرى إلى قطاع محدد من السوق السياحية. كما خصصها كجزء من السياحة المستدامة بأربع مزايا:
– 
تساهم بشكل فاعل في الحفاظ على الطبيعة والثقافة والتراث.
– 
تشارك الجماعات المحلية في تخطيطها وتطويرها وتساهم في رفاهيتها.
– تفسّر التراث الطبيعي والثقافي للمنطقة المعنية.
– 
تخدم بشكل أفضل السائح المستقل والرحلات المنظمة.

ولإضافة تعريف آخر، طرحنا السؤال على النادي السياحي البيئي (echoclub)، وهو هيئة غير حكومية تضم مجموعة من الأعضاء في أكثر من 50 دولة، وكان الجواب ما يأتي: “السياحة البيئية تعبير يصف حركة واسعة في الفلسفة والممارسة من أجل سياحة أفضل تحاول تخفيض التأثير السلبي للسياحة حتى الحد الأدنى، وتمويل مشاريع محلية بيئية واجتماعية، وزيادة المعرفة البيئية والثقافية، وهي مفتوحة للجميع وبمتناول قدرات الجميع”. الأمر الذي يعني أنها حركة واسعة، وليست مجرد قطاع سياحي، ولا تقتصر على الطبيعة.

باختصار، لا توجد حتى اليوم مقاييس تسمح بتحديد ما هية السياحة البيئية ومراقبتها على هذا الأساس. والتخوف في هذا المجال هو من عدم تمكن قطاع الأعمال الصغيرة من المواكبة والتأقلم مع معايير يُخشى في حال وضعها أن تكون صارمة.

كانت أستراليا البلد الأول في العالم الذي وضع شهادات تصديق وطنية، وكانت المهمة الأصعب أمام المعنيين على تحديد ما هية السياحة البيئية. وتم الاتفاق على التركيز “على البيئة الطبيعية، الاستدامة البيئية والثقافية، التعليم والتفسير، والمنفعة الإقليمية”.

ولا يعني غياب المعايير المحددة والقانونية غياباً مماثلاً للمبادئ التي تقوم عليها السياحة البيئية، وتستند مجموعة المبادئ هذه إلى اعتبارين أساسين: الأول هو موضوع التأثير السياحي في البيئة بتخفيضه إلى الحد الأدنى، فيأخذ بعين الاعتبار حجم استيعاب الزائرين ومشاكل التلوث والتخلص من النفايات واستخدامات الطاقة والتأثيرات الثقافية والاجتماعية في السكان المحليين. وليس المهم هنا النطاق أو الحوافز، بل التأثير. إذ إن فرداً واحداً من محبي الطبيعة المخلصين قد يلحق ضرراً كبيراً بنقله فيروساً معيناً إلى محمية غوريلا، في حين أن آلاف الزائرين لا يلحقون أي ضرر يستحق الذكر في أماكن أخرى، بل يفيدونه كثيراً..

أما الاعتبار الثاني فهو المتعلق بالسكان المحليين، وذلك على أساس أن إنقاذ الطبيعة لا يمكن أن يحصل على حساب هؤلاء الذين قد يخسرون موارد رزقهم، ولا بد من إعطائهم حصتهم العادلة.

ولعل أفضل ما يلخص دمج هذا الطموح بالممارسة هو القول إنه “بينما تضع السياحة الطبيعية أرضيتها في تصرف السائح الفردي ودوافعه، فإن السياحة البيئية مفهوم أوسع مبني على توجه مخطط من قبل دولة مضيفة في منطقة محددة من أجل تحقيق أهداف مجتمعية أبعد من الفرد. إنها تؤسس لمعايير قاسية من أجل البرنامج أو المكان المقصود يؤهله لأن يكون منطقة سياحة بيئية”.

التأثير كمقياس
يشمل التأثير السياحي جوانب عديدة، منها الطبيعي والاجتماعي والثقافي والسيكولوجي. ومقياس التأثير الذي هو عادة من اهتمامات المناطق المحمية التي تستقبل زائرين هو أيضاً من اهتمامات السياحة البيئية.

إن عناصر التأثير متنوعة ومتغيرة، ولا تحددها فقط كمية الزيارات، بل أيضاً أشكال النشاط وتصرفات الزائرين ووسائل السفر، وقدرة العناصر الطبيعية على التحمل وحماية الأنواع والحرص على الحياة الثقافية والاجتماعية المحلية. ولهذا، يقترح البعض أن يكون هناك تخطيط ومراقبة للتأثير السياحي عندما يتعدى زائرو منطقة معينة 500 شخص في السنة. إذ ليس من السياحة البيئية في شيء أن يرتفع عدد زائري جبال الهملايا من 10 آلاف شخص عام 1965م إلى 250 ألفاً في السنة خلال التسعينيات، ولا أن يحصل تغيير كبير في البنى الثقافية والاجتماعية كالذي طرأ على النيبال.

ويطال الاهتمام أيضاً التطوير الحسّاس للبنى التحتية والخدمات مع التشديد على مسألتين: أن يكون لتصميمها أقل تأثير ممكن على الطبيعة والثقافة، وأن يتوافر فيها مستوى محدد من الاكتفاء الذاتي. فعلى الأبنية مثلاً أن تكون ملائمة في علوها وأحجامها للنباتات المحيطة بها والطوبوغرافيا، وتؤخذ في تصميمها اعتبارات متعلقة بالميزات التاريخية والثقافية لمعالم العمارة المحلية. كما أن الخدمات تقدم في إطار الحفاظ على الموارد وتقليص الاستهلاك وآثاره مثل المياه والطاقة والنفايات والمياه المبتذلة والضجة والضوء حتى أدنى حدد ممكن. أما على صعيد الاكتفاء الذاتي فهناك تشجيع لأن تكون الموارد محلية، وكذلك تقنيات البناء التي تحتاج إلى القليل من الصيانة، وأن يكون هناك اكتفاء ذاتي في إنتاج الطعام. إن المسكن البيئي بسيط، ونابع من المنطقة نفسها، ويوفر نافذة على عالم الطبيعة كأداة للتعلم والفهم. وموضوع التعلم والفهم أي التوعية البيئية والثقافية من العناصر الأساسية التي تقوم عليها السياحة البيئية.

السياحة والمجتمع المحلي
يسود الاعتقاد بأن مشاركة الجماعات المحلية هي الحلقة الأضعف في مسيرة التطور هذه من السياحة الطبيعية إلى السياحة البيئية، رغم أن الموضوع أساسي بالنسبة لهذه السياحة، طالما أن صيانة البيئة الطبيعية والثقافية لن تكون طويلة الأمد من دون مشاركة السكان المحليين، ولأن هؤلاء يتكبدون تكلفة معينة لعدم استغلالهم الأراضي المحمية فيجب تعويضهم عن ذلك بمشاركتهم في المنفعة الجديدة.

فعلى المستوى النظري، تركز بعض الكتابات على أن المشاركة لا يجب أن تكون فقط منفعية (أي تقاسم الإيرادات)، بل يجب أن تشمل تقوية القرار المحلي بالمشاركة في التخطيط والإشراف على النشاطات التي تؤثر في حياة المجموعة، وهو أمر يستدعي الاهتمام بالتدريب والتعليم وتشجيع المشاركة المحلية الفردية والمنظمة.

إلا أن الممارسة تختلف، فمقابل وجود المئات من أماكن السياحة البيئية في العالم، تبدو الأمثلة قليلة جداً عندما نتحدث عن نجاحات في تحقيق الهدف المزدوج لتنمية الجماعات المحلية والحماية البيئية. وفي حالات عديدة، أدت السياحة البيئية إلى ظهور مشاكل عديدة بدلاً عن الفوائد المرجوة منها. ومصادر هذه المشاكل كانت، حسب اعتقاد البعض، فقدان الإرادة السياسية والالتزام من قبل الحكومات بالعمل على “تعبئة الموارد البشرية والمالية والثقافية والأخلاقية، لتأمين اندماج مبادئ السياحة البيئية بالتطور الاقتصادي”. والسبب الآخر هو أنه غالباً ما يجري ترويج السياحة من قبل منتفعين كبار من خارج المنطقة، ومن دون بنائها لتلبية الاحتياجات المحلية. أما أشكال المشاركة المحتملة فهي واسعة جداً، وتتضمن: تأجير الأراضي، العمل في الوظائف المستحدثة، تقديم خدمات مختارة، تقديم مشاريع تجارية مشتركة، ونشاطات سياحية تديرها في شكل مستقل الجماعة المحلية.

بين المثال والواقع
وقد تثير بعض المشاريع الوافدة من خارج منطقة معينة بعض التحفظ لكونها غير منسجمة مع احتياجات هذه المنطقة، خاصة في الدول النامية. فقد تطور في التسعينيات مثلاً نوع من السياحة البيئية ضمن السوق الرائجة لرحلات السفاري في أفريقيا. ووقّع بعضها عقود إيجار لمدة 99 سنة مع القرى المحلية كما هو حال “أوليفر كامب ليمتد” في شمال تنزانيا، الأمر الذي ترتب عليه تغييب السكان المحليين من ممارسة حقوقهم في تلك الأراضي مدى الحياة.

وكان البعض الآخر أكثر حساسية، ووقع عقود إيجار لسنوات محدودة، وتضمنت إشراك الأهالي بالمنافع بصورة مستمرة مثل “سفاري ورحلات دروبو للمخيمات النقّالة”. وكان غيرها أكثر نجاحاً في توطيد العلاقات المحلية مثل “شركة المحافظة على البيئة الأفريقية” وقاعدتها في جنوب أفريقيا. فقد عملت هذه الشركة على توفير سلسلة من المساكن المكلفة في أكثر من 22 منطقة، ويعود جزء من مداخيلها إلى مشاريع اجتماعية واقتصادية في الجوار الآهل. لكنها كانت أقل اكتراثاً بالطبيعة، إذ قطعت نحو 75 ألف شجرة من أجل مدّ الكهرباء إلى المساكن. وهناك أمثلة كثيرة أخرى من بلدان مثل بيليز وكوستاريكا تشير إلى وجود تداعيات سلبية للسياحة البيئية على صعيد العلاقة مع السكان المحليين.

ولأن الأمثلة الناجحة لا تزال حتى اليوم شبه محصورة في المستويات الصغيرة من السياحة البيئية، يتشجع البعض على الاستنتاج بأننا إذا أردنا أن تسهم السياحة البيئية في نوعية بيئية أفضل، فيجب عليها أن تبقى حيزاً صغيراً من القطاع السياحي العام، وأن تبقى جهداً منغرساً في الجماعات المحلية، وأن تكون جميع تسهيلاتها فريدة من نوعها كما هي فرادة بيئتها، وأن على الفئات المعنية (من حكومات وجماعات) أن تنظر إلى السياحة البيئية كفرصة نمو محدودة، وليس كتطور كبير يمكن أن يخنق البيئة. بينما يدعو البعض الآخر إلى الأخذ بعين الاعتبار المعايير نفسها التي أظهرت نجاحاتها على المستوى الصغير، وتطبيقها على مستويات كبرى.

وقد بدأ يظهر اعتراف متزايد بتفاوت المصالح بين المعنيين بطريقة مؤثرة في التحولات في التفكير والتأقلم مع قيم كانت تعتبر سابقاً غير ملائمة للحفاظ على البيئة. فالمناطق التي أعلنت محميات بطريقة استثنت كل أشكال الخدمات الاستخراجية، تشهد اليوم اعترافاً بوجود مطالب محقة للسكان المحليين فيها. فالسؤال لم يعد اليوم: “كيف يمكن تحقيق تصور بيئي للمستقبل؟” بل بات يقول: “أي مستقبل يمكن اختياره؟”. واختيار المستقبل هو بالدرجة الأولى اختيار سياسي واجتماعي وليس تقنياً.

إن السياحة البيئية بدأت تفرض نفسها على الرغم من أنها في عمر التجربة. وهي تواجه بعض المشككين الذين قد يعتبرون – وربما كانوا على حق – أن علل سياحة الجماهير يمكن وضع حدود لها “بمركزتها” في مناطق دون أخرى. ولكن، حتى ولو تحول السائح البشع إلى سائح مسؤول في إطار ما يعتبر اليوم سياحة بيئية، فإن ضرر انتشارها ووصولها إلى مناطق لم يصلها الإنسان على مستوى مهم حتى اليوم، مسألة يجب أن تؤخذ في الحسبان.

إلى ذلك هناك عدد متزايد من الحكومات التي تقوم الآن بتشجيع نوع من السياحة في المناطق التي تعتبر أنها ستقدم أمثلة جيدة عن بلدانها، وهي عادة مناطق محمية أو مناطق طبيعية يمكن حمايتها – أي لثروات البلدان الحياتية والثقافية – إلا أن مخاطر تزايد الطلب وترك الأمور لحرية السوق قد يهدد الهدف البيئي الذي هو الأساس.

فالسياحة الهادفة، مهما كانت، هي سياحة مخطط لها من ضمن أهداف واضحة ومحددة. والسياحة البيئية كظاهرة سياحية لا تزال في أول طريقها نحو محاولة التأثير في السياحة بشكل عام، ولا يمكنها أن تختصر العلاقة بين السياحة والحفاظ على البيئة. ولذلك، فإن أي نشاط سياحي هادف، سواء سُمِّيَ نشاطاً بيئياً أو أية تسمية أخرى، لن يكون متوازناً ما لم يرافقه جهد بيئي أهم على مستوى السياحة ككل.

2
واقعها وآفاقها في المملكة
لا يزال وضع السياحة في الوطن العربي، وفي دول مجلس التعاون تحديداً، محدوداً نسبياً، حيث لا يتعدى حجمها 3% من الناتج الإجمالي، بينما يصل هذا الحجم إلى 11% في الدول المتقدمة سياحياً. وما بين عامي 1995 و 2002م، استثمرت المملكة العربية السعودية ما يوازي 25 بليون ريال في السياحة الداخلية. وقد نمت السياحة وارتفع استقطابها للسياح المحليين ليصل إلى 27 في المئة من أصل أربعة ملايين سائح سعودي يتوجهون إلى الخارج سنوياً، وينفقون ما يصل إلى نحو 64 بليون ريال. وعليه، فإن السيّاح السعوديين يصرفون ما يتراوح بين 6 و 10 بلايين ريال على السياحة البيئية وفق التقديرات العالمية لحصة السياحة البيئية من السياحة عموماً.

تعتبر خطة التنمية الخامسة (1410 – 1415هـ) البداية الحقيقية للاهتمام بالسياحة في المملكة، إذ شهدت المرافق السياحية توسعاً كبيراً على السواحل البحرية والمرتفعات الجبلية. وزاد حجم الاستثمارات في هذا المجال خلال السنوات السبع الأخيرة عن 25 بليون ريال وهو في ازدياد سريع ومستمر.

ونظراً لما تتمتع به المملكة من مساحة شاسعة وشواطئ مميزة على ساحل البحر الأحمر والخليج العربي وسلاسل جبال شاهقة وتنوع في نظمها البيئية، فإن السياحة البيئية تشكل عنصراً مهماً من عناصر الجذب السياحي الداخلي فيها.

تُمارس نشاطات السياحة البيئية في المملكة كنشاط تقليدي حتى قبل تأسيس جهات حكومية لتنظيم هذا النشاط، إذ تمارس منذ القدم رياضات الخروج والتخييم في الصحراء والتمتع بالمشاهد الطبيعية وجمع “الكمأة” في مواسمها والصيد البري والبحري في المواسم والطرق الكفيلة باستمراره.

وقد أسست الهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية وإنمائها منذ 1986م، ووضعت خطة استراتيجية لإنشاء المناطق المحمية في المملكة. واشتملت الخطة على اقتراح 108 مناطق محمية تمثل تمايز البيئات والتنوع الحيوي في المملكة، منها 56 منطقة برية، و62 بحرية موزعة على 38 منطقة في البحر الأحمر و24 منطقة في الخليج العربي، وقدرت مساحة هذه المنظومة بـ 8 في المئة من مساحة المملكة.

واعتمدت الهيئة منذ إنشائها تأسيس 16 منطقة محمية برية وبحرية تزيد مساحتها الإجمالية عن 80 ألف كيلومتر مربع وتقدر بنحو 4 في المئة من مساحة المملكة. وعملت الهيئة على حمايتها وإعادة توطين بعض الأحياء الفطرية إليها، خاصة تلك التي انقرضت من البرية، أو المهددة بالانقراض، ضمن برامج علمية للتكثير وإعادة التوطين.

وقد أعيد توطين المها العربي في محميتي محازة الصيد (160 كيلومتراً شرق الطائف). ومحمية عروق بني معارض (شمال غرب الربع الخالي)، وغزلان الريم في المحميتين السابقتين وغزلان الأدمي في محمية الوعول بحوطة بني تميم وعروق بني معارض، وطيور النعام وطيور الحبارى في محميتي محازة الصيد وسجا وأم الرمث، إضافة لنماء الأنواع النباتية والحيوانية المشمولة بالحماية.

وعقدت الهيئة بالتعاون مع الهيئة العليا للتطوير السياحي ندوة دولية للسياحة البيئية في المملكة العربية السعودية في الرياض عام 2002م قدرت في إحدى دراساتها أن سبع محميات في المملكة تصلح لأن تفتح للسياحة البيئية، وتشتمل النشاطات المتوقعة فيها على الرحلات الراجلة والقيادة لمشاهدة الحياة الفطرية والطيور، والمشي على الكثبان الرملية والتخييم والغوص ومشاهدة معروضات مراكز الزوار (متاحف بيئية مصغرة).

تغطي هذه المحميات النظم البيئية المختلفة والمشاهد الطبيعية في المملكة. وتتمثل في محمية جزر فرسان على الساحل الجنوبي الغربي للبحر الأحمر، ومحمية ريدة في قمم جبال السروات، ومحمية عروق بني معارض على الطرف الشمالي الغربي للربع الخالي، ومحمية الوعول على جانب جبال طويق، ومحمية محازة الصيد على هضبة نجد، والمحميات الشمالية: حرّة الحرة والخنقة والطبيق التي تشتمل على الحرات البركانية. وجميع هذه المحميات تزخر بالأنواع الفطرية المستوطنة أو المعاد توطينها من الأنواع المحلية المهددة بالانقراض.

ورغم أن أياً من هذه المحميات لم يفتح للزيارة، إلا أن الهيئة تنظم زيارات للمدارس والزوار في بعضها، كما تنظم عمليات جمع الكمأة (الفقع) في المحميات الشمالية. وهناك خطوات حثيثة لاعتماد استراتيجية وطنية للسياحة البيئية تراعي الطاقات الاستيعابية للزيارات في المناطق المحمية وما يترتب عليها.

وعلى الرغم من كل الإيجابيات للسياحة البيئية إلا أن موضوعها بحاجة إلى دراسة متأنية وضوابط ملزمة تكفل عدم تعريض البيئات الصحراوية الهشّة لضغوط تساهم في تدهورها. فهناك العديد من الدراسات العالمية المتخصصة تتحدث عن التأثيرات السلبية على سلوكيات وتكاثر الحيوانات في المحميات المستثمرة في السياحة البيئية. ورغم أن خارطة التنوع البيئي في المملكة طويلة، وتتشكل من نحو 2250 نوعاً من النباتات الزهرية ونحو 500 نوع من الطيور البرية والبحرية ومئات الأنواع من الثدييات والسحالي والبرمائيات والأسماك والحشرات. إلا أنه ينبغي التذكير بأنه لا يوجد نموذج مثالي واحد حول العالم يصلح للتطبيق في أماكن مختلفة، وأن البناء الذي يشاد على عجلة، على عجلة يقوّض.

———————————————————

اقرأ للبيئة

البيئة والمجتمع

بسبب توالي الاكتشافات في مسيرة علوم البيئة حديثة العهد، وتضارب بعض النظريات وظهور الجديد منها في كل يوم، تصبح الدراسات العامة في البيئة بالغة الأهمية إذا استطاعت أن تلحق بكل المستجدات والاكتشافات وإعادات النظر لتضمها بين دفتيها. ومن هذه الدراسات ما وضعه الدكتور أيمن سليمان مزاهرة والدكتور علي فالح الشوابكة في كتاب “البيئة والمجتمع” الصادر عن دارالشروق في عمّان – الأردن.

يقع هذا الكتاب في 247 صفحة موزعة على ستة فصول، هي: مفاهيم أساسية في البيئة، التغيرات في النظم البيئية، الدورات البيوجيوكيماوية، نوعية البيئة وإداراتها، الأخطار البيئية وتقييم الآثار البيئية، السكان والتنمية والبيئة.

وتحت كل عنوان من هذه العناوين الستة هناك مجموعة عناوين فرعية يشغل الواحد منها ما بين صفحتين وعشرين صفحة، وتستمد أهميتها الكبرى من الشروحات الدقيقة لا للقضايا البيئية فحسب، بل أيضاً للمصطلحات العلمية المستعملة في الدراسات البيئية (وهي تتكاثر بسرعة يصعب على الكثيرين اللحاق بها)، مما يجعل هذا الكتاب أشبه بقاموس جديد لعلم يتجدد دائماً على صعيدي المسائل التي تشغله والمصطلحات التي يستنبطها.

أضف تعليق

التعليقات