الرحلة معا

اقرأوا تصحُّوا..

حسب طرق توزيع هذا العدد، طالت أم قصرت، فإن القارئ ربما تصفحه في هدأة من أيام رمضان، التي يتراجع فيها اللهاث اليومي لحساب السكينة والتأمل والقراءة. والأخيرة بالذات عادة ترتفع وتيرة ممارستها في هذه الأيام المباركة، وهو ما يحدونا إلى أن نرحل معا بصحبة الحديث عن القراءة.

إذا شئتم، فإننا سنستضيف في هذا الحديث رأيين. الأول يكتسب صبغة كونية عامة، كما هو الحال عند صاحب كتاب “تاريخ القراءة” الأرجنتيني ألبرتو مانغويل. والثاني يكتسب صبغة عربية بحتة و(متشائمة!!) كما هو عند المثقف العربي المرموق شاكر لعيبي، الذي يبدو له مأزق القراءة والمقروء مدوياً في العالم العربي اليوم، حيث لا يظهر – هذا المأزق- فحسب في انحسار المقروء لصالح المرئي، وكلاهما في الثقافة العربية مشكلة معرفية، لكن في هجوم مرئي غير أصيل ومقلَّد على مقروء ذي أصول تاريخية.

ويظهر أن لعيبي أراد في هذه المقالة، التي كتبها قبل سنتين تقريباً، أن يفتح على نفسه وعلينا أبواب جحيم المرئي العربي، الذي ينظر إليه البعض على أنه سفّه أحلامنا وهمّش، أو هشّم، آمالنا لكونه يمتلك قدرات لا يمتلكها المقروء العربي، بينما نحن المنتسبين إلى قبيلة المقروء نتحول، من وجهة نظر قبيلة المرئي، إلى رجعيين متعلقين بالأرفف المغبرة، في الوقت الذي تلمع الفضائيات بوجوه الحسناوات المعاصرات وتذر الرماد الثقافي في عيوننا عبر برامج حوارية تُطبخ على عجل وتُبهَّر بالاستوديوهات الفارهة في الوقت الذي لا تخلو فيه من ثقافة الشائعة.

شاكر لعيبي، أيضاً، صنف القارئ العربي على هذا النحو: هناك من لا يقرأ مطلقاً، وهذا يشكل نسبة عالية في الأوساط المتعلمة. ومن يقرأ لكي يعيد لاحقاً صياغة الأفكار التي يتلقاها ناسباً إياها لنفسه. ومن يقرأ لكي يقتنص، فحسب، بعض الأفكار لكي يردَّ عليها. وهناك من يقرأ لكي يؤول ما يقرأ على مزاجه. ومن يقرأ بطريقة خاصة تؤكد له أفكاره هو. ومن يقرأ وهو لا يرى جديداً على الإطلاق في ما يقرأ. وهناك من يقرأ للمؤلفين الذين يعرفهم شخصياً ويخلط تصوُّره، الجيد والسيئ، عنهم بمضمون كتاباتهم. ومن يقرأ للمؤلفين الذين لا يعرفهم شخصياً البتة، ونتائج القراءة هنا مثمرة في الغالب وموضوعية نسبياً. وهناك قرّاء مجهولون نادرون، يقرأون بعمق نادر وهم لا يشكلون أية ظاهرة في الثقافة العربية المعاصرة. ومن يقرأون فحسب للأسماء اللامعة والشهيرة أو التي تثير أعمالها الفضائح. وأخيرا هناك شاردو الذهن الذين يحسبون أنهم يقرأون بينما هم لا يقرأون على الإطلاق.

الحقيقة أنني لم أظفر بتصنيف للقارئ العربي، وربما غير العربي، من قبل على مثل هذه الصورة من التوسع والدقة. ربما كانت أنواع القارئ ملقاة على الطرقات يعرفها الجميع، لكن ما فعله هذا المهموم بفعل القراءة هو أنه التقطها من هذه الطرقات ولمعها ورصها رصاً بيناً ليعرف الكاتب مع أي نوع من القراء يفترض أن يتعامل.

في المقابل أين تضع نفسك أنت كقارئ من هذه التصنيفات؟ لديك فرصة، إذا وقع بين يديك هذه الأيام نص، أن تتدبر مقروئيتك وربما تعيد قولبة علاقتك بعادة القراءة. المهم أن تتجاوز كل القوالب، بما فيها قوالب شاكر لعيبي. وهنا بإمكاننا أن نستعين بتحليل ألبرتو مانغويل، فهذا المؤرخ يرى أن القراءة لا تقدم دوماً ثراءً داخلياً، فالعملية نفسها التي تملأ نصاً بالحياة، وتستخلص منه ما يوحي به وتضاعف تنوع معانيه، وتعكس فيه الماضي والحاضر وطاقة المستقبل، يمكن أيضاً أن تستخدم من أجل تشويش النص والقضاء عليه. فكل قارئ من القراء يحقق لنفسه طريقة قراءته الخاصة به التي تنحرف أحياناً عن النية الأصلية للنص، لكنها لا تمثل بالضرورة تزويراً. غير أن القارئ يستطيع تزوير النص عن قصد إن أراد عند وضعه في خدمة عقيدة معينة وإساءة استعماله في تبرير الغبن والعنف على سبيل المثال.

وبعيداً عن مزالق الاستطراد، فقد اختلف العلماء في تفسير طبيعة القارئ المجرَّد في علاقته بفعل القراءة. وإذا اتفقنا أو اختلفنا معهم فالمهم من وجهة نظري هو أن نصاب بعافية الفكر لأننا نقرأ، أياً كان نوع قراءتنا أو أياً كانت طريقتنا في التعامل مع النص الذي بين أيدينا. القراءة بحد ذاتها متعة. لتكن القراءة من أجل القراءة، فهذا يكفي ولنترك الباقي تحدده مسارب القراءة على هواها. جربوا في فرصة رمضان أن تواصلوا أو تتعودوا على القراءة.

أضف تعليق

التعليقات