يُعد مؤلَّف «الخمسون سنة القادمة: حال العلم في النصف الأول من القرن الحادي والعشرين»، ثمرة جهود جون بروكمان، وهو عالم مهتم بالفنون والمستقبل. وترجع أبحاث هذا الكتاب إلى مشروع مهم جداً لجمعية أو شبكة تواصلية بحثية غير ربحية بين العلماء أسسها بروكمان، وينضوي تحت لوائها آلاف الباحثين في العالم، وسمّاها الحافة (The Edge). ويشير اسم هذه الشبكة إلى الحافة التي تمثل أقصى ما وصلت إليه العلوم المختلفة، أما هدفها فهو تصوّر المستقبل الكامن خارج نطاق البحث وحدود المعرفة الحالية. ويترجم هدف الجمعية المملوء بالتحدي، أوجه نشاط إبداعية أهمها طرح سؤال دوري لكل المشاركين يتعلق بالمستقبل. ويصف بعضهم هذه الجمعية، بأنها أذكى مجتمع إلكتروني. وكان عنوان هذا الكتاب -في أول أمره- موضوعاً لسؤال من هذه الأسئلة المستقبلية الموجهة إلى أعضاء الجمعية. ويحوي الكتاب أبحاثاً منتقاة من آلاف المشاركات المقدمة للإجابة عن هذا السؤال المثير عن حال العلم في النصف الأول من القرن الحادي والعشرين. وقام جون بروكمان بتنقيح هذه الأبحاث، ويرجع إليه الفضل في إخراجها في صورة كتاب يتميّز بأسلوب ما يسمى بالثقافة الثالثة أو ثقافة العموم التي تعرض المادة العلمية بأسلوب أقل تخصصاً ليتسنى فهمه من قبل العلماء خارج مجال الاختصاص.
يحوي الكتاب خمسة وعشرين بحثاً قُسّمت إلى مجموعتين: الأولى مستقبل العلم من الناحية النظرية، والثانية المستقبل من الناحية العلمية، ويقدِّمها كوكبة مختارة من الباحثين المنتسبين إلى الجامعات المشهورة ومراكز البحوث الرائدة. ومن العناوين المختارة:
مستقبل العلوم من الناحية النظرية
• طبيعة الكون
يتصدر الكتاب بحث للعالم الفيزيائي لي سمولين -مؤسس معهد بيريمتر باونتاريو- يتساءل فيه عما سنعرفه عن الفيزياء وعلم الكون في الخمسين سنة القادمة، ويعرض سبعة من الأسئلة المهمة التي لم يجب عنها، وتمثِّل في عمومها اتجاهات للبحث المستقبلي، منها: ما مدى صحة النظرية الكمية بصيغتها الحالية؟ وما تركيب الفضاء والزمن؟ وما صحة نظرية الانفجار الكبير التي تفسِّر نشأة الكون، وهل توجد تفسيرات أفضل؟ وكيف تشكّلت المجرات؟
• هل نحن وحيدون في هذا الكون؟
يتوقع العالم الفلكي السير مارتن ريس -بجامعة كامبريدج- أن تركِّز أبحاث المستقبل على البحث عن صور للحياة -ولو كانت بسيطة وبدائية- في مجموعتنا الشمسية خصوصاً على كوكب المريخ، وقمر زحل: تيتان، والمحيطات الثلجية في قمر المشتري: يوربا Europa.
إن نتائج هذه البحوث -في حال نجاحها- ستوسّع نطاق البحث عن الحياة إلى نواحٍ أخرى داخل مجرتنا درب التبانة وما جاورها. في المقابل فإن الفشل لن يخلو من الفوائد، وأولها تعزيز احترامنا وتقديرنا وتعاملنا مع كوكبنا الأزرق لكونه المستقر الوحيد للحياة الذكية، ولعل هذا يغيِّر نظرتنا إلى الأرض فنعتبرها بذرة للحياة يمكن نشرها بجهودنا في أكوان أخرى.
ويذكر ريس سؤالاً محيراً ينسبه إلى العالِمْ الكبير أينشتاين: ما الخيارات الأخرى في خلق الكون؟ ولا شك في أن الاعتقاد بالقدرة اللامحدودة للخالق -سبحانه وتعالى- يجعل كثيرين غير مستبعدين احتمالات لوجود حياة في أكوان مختلفة تحكمها قوانين مماثلة وتشترك في أصل واحد قد تفسره نظرية الانفجار الكبير.
• تحت ظلال الثقافة
يشير برايان قودوين -أستاذ علم الأحياء في كلية شوماشير في إنجلترا- في هذا المبحث إلى الزوايا المجهولة والمظلمة في العلم الحالي بصفتها بدايات ومنطلقات لأبحاث مستقبلية أكثر عمقاً وأشد إبداعاً، من هذه الزوايا المعتمة الخطوط الفكرية الحمراء في المجتمعات العلمية التي تمنع النظر والبحث فيما وراء الطبيعة. ويختم هذا البحث بسؤالين، الأول: ما مصدر المشاعر؟ والثاني: من أين يأتي الوعي؟
• العقول القابلة للمبادلة
يتوقع مارك هاوزر المتخصص في علم العصب الإدراكي وعلم النفس -بجامعة هارفارد- أن يشهد المستقبل أبحاثاً تتمحور حول فهم أدمغتنا البشرية وأدمغة المخلوقات المفكرة الأخرى بغرض دراسة زراعة الأنسجة الدماغية، والمبادلة من مخلوقات إلى أخرى، والبحث في تغيير عمل الدماغ بواسطة إدخال المورثات الجينية. ويستعرض هاوزر مختارات من سجل الأبحاث الكثيرة على أدمغة القردة، تاركاً لخيال القارئ تصور مستقبل هذه الأبحاث.
• الحزن عام 2050م
يرشِّح أستاذ علم الأعصاب في جامعة «ستانفورد» روبيرت سابولسكي، مرض الاكتئاب إلى مرتبة مرض القرن العشرين. وهو مرض متفش في العالم وتبلغ نسبة ضحاياه -حسب إحدى الدراسات- %15 من السكان في الدول المتقدمة، وهذه نسبة كبيرة في ظل وجود الرعاية الصحية النفسية في تلك الدول.
ولكن سابولسكي يشك في زوال مرض الاكتئاب في الخمسين سنة القادمة، بل يتوقع انتشاره واستفحال خطره. ولا يوجد إلى وقتنا الحاضر، مسار أكيد لعلاج الاكتئاب بالعقاقير. فهذا المرض النفسي لا يشبه الأمراض الوبائية الجرثومية المصدر، لذا لا يوجد في أيدينا لقاح مضاد للاكتئاب.
ما هي الحياة؟
يشكك الباحث ستوارت كوفمان -من جامعة بنسلفانيا- في قدرتنا على الإجابة عن هذا السؤال في الخمسين سنة القادمة، ويرجع بنا إلى البحوث الأولى التي أجراها شرودينغر (Erwin Schrodinger) للبحث عن مصدر النسق المنظم للأجهزة الحيوية، والتي أدت إلى اكتشاف المسودة الوراثية للحياة. ولقد وضع شرودينغر اللبنة الأولى في هذا البحث بتصوره لوجود خلايا ثلاثية الأبعاد تحوي في بنيتها التفصيلية قانوناً صغيراً يحدد مسار تطور الكائن الحي. وأثبت صحة هذا التصور العالمان واتسون وكرك (Watson & Crick) باكتشافهما للحمض النووي (DNA)، والذي بينت البحوث التالية أنه الرمز الوراثي.
ولكن كل هذه البحوث -مع أهميتها- لم تعط تعريفاً واضحاً ومقنعاً للحياة.
مستقبل العلوم من الناحية العملية
• قانون ابن مور
ينقل الباحث ريتشارد ديكنز -من جامعة أكسفورد- إجماع كثيرين على أن الاكتشافات التي أنتجها علم الوراثة الجزيئي، تعد بحق أعظم إنجازات العلم في القرن العشرين، ويلخص ديكنز هذا العلم بكلمة واحدة هي: رقمي.
وتعقد في هذا الفصل، مقارنة بين معدل النمو المعرفي لأجهزة الحاسب الآلي، ومعدل تنامي فهمنا للمورثات. فحسب قانون ابن مور فإن قدرة الحواسب الآلية وسرعتها تتضاعف كل ثمانية عشر شهراً.
إن العلم في سنة 2050م -كما يتوقعه ديكنز- سيعرفنا بصورة نهائية وإجمالية بشجرة التاريخ العرقي، وسيتم تأليف ما يسميه بـ «الكتاب الجيني للميت». وفي ذلك الزمن، سيمكننا من أن نلقِّم جينوماً لحيوان غير معروف في حاسوب متخصص، ليقوم بإعادة تركيب شكل الكائن الحي، ويعطينا تفاصيل عن أسلافه وعن البيئات التي عاش فيها. وعندئذ سيتمنى أنصار نظرية التطور أن يعثروا على جينوم الحلقة التي يتحدثون عن فقدانها.
• مستقبل المادة
يتوقَّع الباحث بيتر أتكنز -من جامعة أكسفورد- أن يشهد نصف القرن الواحد والعشرين تطوراً كبيراً في قدرة الكيميائيين على التعامل مع الذرات وربطها بأنماط جديدة. وفي هذا السياق يؤمل نجاح الجهود الرامية لصناعة البروتينات الصناعية المشابهة للأغشية الخلوية والقادرة على البقاء. كما يتوقع أتكنز أن تشهد الخمسون سنة القادمة، تطبيقات جريئة في مجال الكيمياء الزراعية، والذي يستنبت بعض الكائنات الحية -مثل بعض أنواع البكتيريا- بغرض الحصول على منتجاتها والإفادة منها في مجالات عدة. ومن المأمول أن تؤدي الأبحاث في المستقبل إلى قفزات وتحسينات كبيرة في صناعة حاسبات آلية دقيقة في الحجم بالإفادة من التقنيات المتناهية في الصغر (Nano Technology)، ونظير ذلك الإفادة من الأنابيب المجهرية الكربونية لبناء تراكيب وأبنية خفيفة الوزن وفائقة المتانة.
• هل نصبح أكثر ذكاءً؟
بحث فلسفي للباحث روجر شاينك من جامعة كارنيجي ميلون، ويصدره بهذا السؤال المهم. ويبدأ الاجابة بتوقعه أن يضع المستقبل تحت المحك كثيراً من مفاهيمنا الحاضرة عن الذكاء والتعلم. ويباغت القارئ بسؤال جديد عن ماهية الذكاء في المستقبل، وهل يعرف الذكاء بقدرتنا على الإتيان بأجوبة لأسئلتنا؟ أو بقدرتنا على تعلم كيفية التفكير في الأسئلة الجديدة؟ ويرجح شاينك كفة الأسئلة الجديدة في تعريف الذكاء.
أما من ناحية التعلم، فلعلنا نشهد في ظلال العالم الافتراضي تغيرات جذرية في مفهوم المدرسة والمدرس والدارس والمادة الدراسية وزملاء الدرس وطريقة التلقي وتحفيز التعلم وأساليب غرس المعلومة والخبرة والتأكد من فهمها واكتساب القدرة على تطويرها وتعليمها للغير. فالذكاء في المستقبل كما يقول شاينك: «هو القدرة على الوصول إلى حدود الخبرة التعليمية».
• العقل والدماغ والنفس
هذا بحث مطول أعدّه أستاذ الأعصاب جوزيف لودو -من جامعة نيو يورك- الذي يعرض ثلاثة مجالات محتملة لمستقبل البحث في الدماغ البشري من خلال التطور في التصوير بالرنين المغناطيسي ووسائل أخرى.
ويتوقع أن تعين أبحاث الخلايا الجذعية المستقبلية، في علاج أمراض عدة مثل ألزهايمر، وذلك عن طريق حث الخلايا العصبية في منطقة دماغية هي الحصين (Hippocampus) وهي المسؤولة عن إنتاج الخلايا العصبية الجديدة في الدماغ الشاب، ولهذه المنطقة أهمية في قدرتنا على التذكّر بشكل إرادي.
• السيطرة على المرض
يختتم الكتاب بهذا البحث من إعداد الباحث باول ايولد، أستاذ علم الحياة في كلية أمهيرست ومؤلف الكتاب المشهور «تطور الأمراض الإنتانية». ويفتتح البحث بالحديث عن مذهب علاج المرض عن طريق معرفة سبب المرض، ويذكرنا بأن لويس توماس هو أول من عرض هذا المذهب قبل أربعين سنة تقريباً في كتابه «تكنولوجيا الطب»، والذي قال فيه إن معظم ممارسة الطب -بما فيها زرع الأعضاء ومعالجة أنواع السرطان- مكرس ومنشغل بإيجاد حلول وقتية وعابرة. ويتوقع قبول الإنتان كسبب لبعض الأمراض المزمنة والخطيرة مثل مرض السكري ومعظم أنواع السرطان وأمراض نقص الخصوبة.