قول آخر

طلسمة الطلاسم

الطلسم (بكسر الطاء، وجمعها طلاسم) كلمة شاعت في منطقة البحر المتوسط منذ عهود البابليين في بلاد ما بين النهرين وفي عهد الفراعنة على حوض النيل. استعملوها كنمط من السحر والتعاويذ. يرسمونها على القرطاس أو يحفرونها على الحجر والآجر. وقد اقتبسها الإغريق وعرفوها بينهم باسم التالسما أو التالسمس، أي التكميل. وعرفها الرومان فشاعت في اللغة اللاتينية باسم اموليتم. تلقاها العرب منهم و من العرب أخذها الغربيون المحدثون فعرفت باللغة الإنجليزية بكلمة طالسمن talisman. المقصود بها حسب اعتقادات من آمن بها، الخطوط التي تنطلق بها القوى السماوية الفلكية الفعالة وتلتقي بالقوى الأرضية المنفعلة بها. ويرى من يتعاطى هذا الفن أو السحر أن معرفة ذلك برسم تلك الخطوط وتوجيهها يمكن تفادي قوى الأذى واستحداث قوى الخير والمنفعة. وقد نشرت كتب عديدة في هذا الموضوع من السحر والشعوذة.

بيد أن شيوع الكلمة بين شتى فئات الجمهور عبر العصور جعل منها أداة للتعبير عن مختلف الأحوال. عمد الشعراء الشعبيون كالنبطيين إلى استعمالها في التعامل مع الحب والوجدان ومعاناة المحبين. فطلسم الرجل أي عبس وتجهم وجهه، على اعتبار أن التجهم يظهر خطوط الوجه وتجاعيده. وهكذا أورد الحريري في مقامته التبريزية فطلسم وطرسم واخرنطم. ونحن نستعمل هذا الاصطلاح في أيامنا هذه في وصف أي شيء غامض ومبهم، فنقول مثلاً هذا أمر مطلسم.

ولكن هذا الاصطلاح القديم اكتسب أصداء واسعة في العصر الحديث بعد أن نشر الشاعر المهجري إيليا أبو ماضي قصيدته بعنوان الطلاسم عام 1925م. عبر فيها في الواقع عن مشاعر العرب في خيبتهم من نتائج الحرب العالمية الأولى وضياع أوطانهم، بل وضياعهم في هذا العالم الجديد الذي داهمهم من حيث يدرون ولا يدرون. وجرت بمحاذاتها قصيدة شاعر مهجري آخر، ميخائيل نعيمة:
أخي قد تم ما لو لم نشأه نحن ما تما
وقد عم الخراب ولو أردنا نحن ما تما

ظهر هذا العالم الجديد لإيليا أبو ماضي وبدا لعينيه وفكره كسلسلة من الطلاسم التي أتعبت المواطن العربي وحيرته. قلما حظيت قصيدة شعرية معاصرة بالاهتمام الذي حظيت به قصيدته «الطلاسم» من منا لم يسمع بهذه الكلمات:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
وسأبقى ماشياً إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت، كيف أبصرت طريقي؟
لست أدري

لقد غنَّاها محمد عبدالوهاب في أحد أفلامه ولحَّن لها عازف العود الأستاذ نصير شما. وتولى تفسيرها والتعليق عليها شتى الباحثون والنقاد. بيد أن شعراء وأدباء آخرين لم يرتاحوا لها. وكان في طليعتهم الدكتور ربيع سعيد عبدالحليم من مصر، نشر قصيدة يرد عليها بعنوان «فك الطلاسم». قال:
جئت دنياي وأدري عن يقين كيف جئت
جئت دنياي لأمر من هدى الله جلوت
ولقد أبصرت قدامي دليلاً فاهتديت
ليت شعري كيف ضل القوم عنـــه ؟
ليت شعري!

تطرف آخرون فزجوا بديانة الشاعر المسيحية في الموضوع. فاعتبروها هجمة صليبية على الإسلام ونسوا كم تؤكد المسيحية على الإيمان المطلق بالله وكتبه. رأى آخرون أنها تعبِّر عن منهج إلحادي لا ديني. وكانت قصيدة الدكتور ربيع عبدالحليم شعراً مؤدباً، غير أن آخرين أوغلوا في شتم الشاعر الذي ينظم مثل هذا الشعر.

وفي العراق انشغل شعراء النجف بهذا الأمر فنظم شعراؤها ردوداً عليها. كان في طليعتهم السماوي والشيخ محمد جواد الجزائري. وتناولها أيضاً الشاعر الشعبي الساخر حسين القسام من بني خفاجة ، فعارضها بشيء من التصوير السريالي:
إصنت واسمع كلامي
إن كان أنت ما تدري
أنا أدري وغيري يدري
للبحر لما سألته
إن قلت له أرد أقلك
ما تقول لي منين إنت؟
ومنهو قل لي اللي مصورك؟
منين هذا السمك يلعب
يرقص يغني على ظهرك
اللي صورك صورني كلي
ومن قدرته تاه فكري
أنا أدري وغيري يدري
والسما شكبرها بقدرته
مركبـــة بليه عمود
والنجوم اللي بسطها
أبد ما تنقص، تزود
بعضها محطوط بمكانه
وقسم من عنده يعود
جلت الباري قدرته
أمري بيده وبيده عمري
انا أدري وغيري يدري

وزادنا الشعراء طلسماً بعد طلسم…

أضف تعليق

التعليقات