الثقافة والأدب

غائبون لا يفتقدهم أحد المثقفون في مهب رياح الربيع العربي

  • shutterstock_83915677
  • rabea1
  • rabea2
  • rabea3
  • rabea4
  • rabea5
  • rabea6
  • rabea7

منذ أكثر من سنة، و«الربيع العربي» قِبلة أنظار العالم ومصدر صخبه الإعلامي. صخب يحتكره عملياً السياسيون والمتحدثون بأسمائهم وأحياناً الوزراء المعنيّون والعسكريون وأخبار ميادين القتال… ولولا الإطلالات الخجولة والنادرة لعدد من المثقفين على بعض المنابر الإعلامية ليعلِّقوا على مجريات الأحداث، لأمكننا القول إن غياب المثقفين العرب يكاد أن يكون لغزاً. وأغرب ما في هذا اللغز، أنه لا يثير اهتمام أحد. عبود عطية يتناول، من وجهة نظره، مظاهر غياب المثقفين عن المشهد الحالي في البلاد العربية، على ضوء الدور الذي يفترض بالمثقف أن يلعبه في مثل هذه اللحظات التاريخية الحرجة، وحتى قبلها، كي تتخذ مجريات مثل هذه التطورات مسلكها السليم، وتدفع بالمجتمع نحو الأفضل.

كلنا نذكر أن النظام المصري السابق أسند في آخر أيامه وزارة الثقافة إلى الناقد الأدبي المعروف الدكتور جابر عصفور الذي استقال في اليوم التالي لتعيينه «لأسباب صحية». ولكن مجرد ورود اسمه على لائحة التشكيلة الحكومية، كان كافياً لأن توجه إليه حراب المثقفين العرب الذين كانوا قد التحقوا بصفوف معارضي النظام فيما يشبه شراء براءة ذمة على حساب الدكتور عصفور.

وبالطبع فلسنا هنا لمحاكمة الدكتور عصفور أو ما يمثله تعيينه وزيراً في آخر حكومة مصرية ، ولا للدفاع عنه، ولا حتى لتمحيص مواقف المثقفين المعارضين له، بل لإلقاء نظرة عامة على دور المثقفين فيما يسمى «الربيع العربي»، إن كان لهم من دور، الأمر الذي سيجرنا حكماً إلى ما قبل بداية هذا الربيع.

الربيع الذي بدأ قبل الشتاء
يُجمع المؤرخون والكتَّاب السياسيون على تأريخ بداية الربيع العربي بيوم الثامن عشر من ديسمبر 2010م، عندما أحرق المواطن التونسي محمد البوعزيزي نفسه، فامتدت النار منه إلى تونس بأسرها ومن ثم إلى عدد من الدول العربية. وعلى الرغم من الاختلافات الكبيرة ما بين المناحي التي اتخذتها الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية المختلفة، فثمة إجماع على تعليبها كلها تحت اسم «الربيع العربي».

الاسم مستوحى كما هو معروف من «ربيع براغ» الشهير الذي قاده الزعيم الإصلاحي ألكسندر دوبتشيك بدءاً من 5 يناير 1968م، وانتهى في 21 أغسطس من العام نفسه سحقاً تحت الدبابات السوفياتية. فالاسم إذن مستورد ولكن من كان أول من استورده؟ فتشنا ولم نجد أحداً يعلم. فإن كان أول من استخدمه لتوصيف هذه الأحداث غربياً، أو عربياً استنجد بالجانب الغربي من ثقافته، ففي الحالتين، يتكشَّف الأمر عن استمرار الحاجة إلى «مصدر آخر» غير قدرة عقل المثقف على الابتكار، من أجل توصيف حال على مثل هذه الدرجة من الضخامة والخطورة.

ما تتكشف عنه قضية الاسم (هي مثل صغير)، ملحوظ بشكل أكبر بكثير في جوانب أخطر منها. فمنذ بداية هذا الربيع العربي الذي بدأ فعلاً قبل الشتاء، وبعد مرور ربيعين وشتاءين، لا يمكننا الحديث عن أي حضور ملحوظ للمثقفين العرب في مجريات الأحداث، ولا لإبداعاتهم الثقافية، في الأدوار المناطة بها مثل التوعية والتربية والتوجيه والضبط والتعزية. بل عن خلو الساحة تماماً للخطابات السياسية المباشرة والمسطحة، ولأخبار الخسائر والضحايا ونداءات الاستغاثة التي فقدت قدرتها على تحريك وعي المتلقي من سكونه. وكأن كل الخطابات العربية على اختلاف مصادرها، لم تعد تهدف إلا إلى إقناع أحزابها بالثبات على مواقفهم تجاه هذا الحدث أو ذاك، أو تجاه هذه الخطوة السياسية أو تلك، من دون أي طموح إلى ما هو أبعد من ذلك، أي إلى رسم تصور، ولو أولي، للمستقبل.

ثورات؟ هل هي حقاً ثورات؟
مع احترامنا الكبير للأستاذ محمد حسنين هيكل، الذي كان في طليعة الذين وصفوا ما جرى في مصر بأنه «ثورة كاملة وحقيقية بكل معنى الكلمة» على حد تعبيره، لا يمكننا أن نتفق معه إلا إذا كان يرى الثورة من منظور أرسطو الذي حصرها بواحد من أمرين: «إبدال الدستور بدستور آخر، أو تعديل دستور قائم» لأن مفهوم الثورة تطور خلال القرون الأخيرة، حتى أصبح اليوم يعني نظرة جديدة إلى الكون ودور الإنسان فيه، تعبر عن نفسها بتحول بطيء لمجتمع بأكمله، لتتخذ لاحقاً طابع التغيير السياسي المفاجئ الذي قد يكون أو لا يكون عنيفاً.

إن ما حصل في مصر وقبلها في تونس، ولاحقاً في باقي «بلدان الربيع العربي»، هو في حقيقة الأمر انتفاضات شعبية تعبِّر عن التململ من استمرارية أوضاع قائمة وغير مرضية، تتصف بترسخ الفقر وكأنه من سمات الحياة الطبيعية، وامتهان الكرامات لأسباب مختلفة، وبأشكال مختلفة ووصف هذه الانتفاضات بأنها ثورات، هو إنشائي محض، لافتقارها إلى أي هدف غير التعبير عن عدم الرضا عن الأوضاع القائمة، وعجزها عن تحديد أشكال الأنظمة المنشودة البديلة بشكل واضح، بل تركت ذلك لما قد تحمله التطورات اليومية المتلاحقة وغير المتوقعة والسبب في ذلك هو بكل بساطة أنها وإن كانت تعرف ما لا تريده، فهي لا تعرف ما تريد، لأن النخب الثقافية لم ترسم لها أية صورة بديلة أفضل.

في معرض حديث جرى عن غياب المثقفين عن التحضير لـ «الثورة المصرية»، انبرى أحد المدافعين عنهم ليقول: «كيف تقولون بغيابهم والعالم بأسره يعرف أن الشباب الواعي، شباب الفيسبوك، هو الذي أطلق هذه الثورة.» ومثل هذا القول يوضِّح مدى انخفاض السقف الثقافي، وضِعة الطموحات التي يمكن إشباعها بـ «ثقافة الفيسبوك»..

تلافياً لأي اتهام بالتجني، نشير إلى أن استخدام وسائل الاتصال الاجتماعي في مصر كوعاء لنقل الأفكار بهدف تحقيق مثل هذه الانتفاضة الشعبية العامة، كان مبتكراً، والعالم بأسره يشهد على ذلك. ولكن هل تجاوزت حمولات هذا الوعاء غير الخطابات السياسية المباشرة والتعبئة وتنظيم الأنشطة اليومية؟ فكم مرة وردت أسماء جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وطه حسين ونجيب محفوظ على هذه المواقع؟ نعرف الجواب ونعرف أن أسماء «الرموز الثقافية» التي وردت في هذا المجال اقتصرت على الفنانين والفنانات لفرزهم ما بين موالٍ ومعارض.

مهمات لم يقم بها أحد
من حيث المبدأ، تكمن مهمة النخبة الفكرية (الأنتلجنسيا) في دراسة أحوال مجتمعها بغية تحديد مشكلاته وقضاياه ووضع تصورات للحلول المحتملة أما عموم المثقفين من أدباء وشعراء وفنـــــانين، فتكمن مهمتهم في جعل حياة الإنسان في هذه المجتمعات أنبل وأرقى مما هي عليه، وذلك من خلال تغذية حساسيته وطموحاته وتحسين سلوكياته وتنويع الخيارات أمامه وتكامل هاتين المهمتين هو ما يسمَّى مجتمعاً بـ «التنوير».

ما تكشّف عنه الربيع العربي على هذا الصعيد يذكر بنكتة روسية تصف أحوال الاقتصاد أيام الشيوعية، وتقول إن شخصاً دخل متجر لحوم وسأل صاحبه «ألا يوجد عندكم لحمة اليوم؟»، فأجابه البائع: «نحن ليس عندنا سمك، لا توجد لحمة في المتجر المقابل».

فالمشهد على الساحة العربية حيث مصير شعوب بأكملها متروك لمجريات الأحداث السياسية اليومية التي يشترك في صياغتها عسكريون من الخنادق المتقابلة، والمتفاعلة مع عشرات الإرادات السياسية من مشرق الأرض حتى مغربها، هو دليل على أن النخبة الفكرية التي تضم دكاترة العلوم السياسية والاجتماعية وغيرهم من «الفلاسفة» والمنظرين، فشلت في تسويق صورة واحدة لمستقبل أفضل يلتف حولها المجتمع ويسعى إلى تحقيقها.

أما الشريحة الأقل نخبوية، ونعني بها الأدباء والفنانين والشعراء ومن شابههم، فيمكننا أن نرى إلى أي مدى نجحت في جعل حياة الإنسان العربي أنبل وأرقى، في السلوكيات التي ظهرت في الميادين، ، مثل اللامبالاة التامة التي يتعامل بها الإنسان العربي اليوم مع أعداد الضحايا، وكأن آلاف القتلى الذين يتساقطون هم مجرد أرقام لا داعي لتكرارها أو التذكير بها في اليوم التالي. وتتوزع السلوكيات المشينة عادة على الخنادق المتقابلة. فمقابل آلة القمع الدموية التي استخدمها النظام الليبي قبيل سقوطه ، لا يمكن القول إن الطريقة التي انتهى بها رأس النظام كانت أرقى من ممارساته، بغض النظر عن أي موقف من نهجه في الحكم.

«الشعب يريد إسقاط النظام»، شعار قوي بلا شك بسبب بلاغته وكثافة مضمونه وبساطته التي تجعله مفهوماً عند كافة شرائح المجتمع. ومن حق العامة أن تكتفي به للقيام بعمل سياسي ولكن أليس من واجب النخب الفكرية أن تُطلق شعاراً أو رسماً مختصراً لصورة النظام البديل المنشود؟ الأمر لم يحصل وإن كان شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» قد تميز ببعض الجدوى في ميدان التحرير في القاهرة، فإن تكراره ببغائياً في العواصم الأخرى أفقده معناه. فما حدث في شوارع العواصم الأخرى، كان سيحصل بهذا الشعار ومن دونه أيضاً. وهذا ما يجعل من ثورات الربيع العربي في بعض جوانبها المظللة، أقرب إلى أن تكون انتفاضات ضد «التنظيم»، منها إلى انتفاضات ضد الأنظمة.

المثقفون.. ما لهم وما عليهم
يقول الطاهر بن جلون: «في العالم العربي لا يوجد رابط بين العادات الثقافية للناس، وطرق التفكير والإبداع عند المثقفين الحداثيين. إنهما عالمان مختلفان». والأمر صحيح. ولكن ما فات الأستاذ ابن جلّون هو أن أي إبداع أو تفكير منفصل ولو قليلاً جداً عن العادات الثقافية للناس، لا يستحق أبداً اسم ثقافة إنه مجرد ثرثرة، مهما تم تلميعها إعلامياً، لا بد وأن يطويها الإهمال والنسيان فإن كان المثقفون العرب يعتقدون أن أسماء المفكرين والأدباء والفنانين الذين وصلوا إلينا من التاريخ تمثل كل من عمل في الفكر والأدب والفن، فهم مخطئون. لأن الأعداد الحقيقية لهؤلاء تفوق بعشرات أو مئات المرات الأعداد التي وصلتنا ولكن التاريخ لم يحفظ إلا الذين التحمت ثقافتهم وإبداعاتهم بحركة المجتمع والناس من حولهم، بمن فيهم الحداثيون الذين نشأوا في القرن التاسع عشر، ودعوا إلى التخلص من المؤثرات الاجتماعية تحت شعار «الفن للفن»، فكانت النتيجة أنهم غرقوا حتى آذانهم، وغصباً عنهم، في كل المؤثرات الاجتماعية، وعبَّروا عنها وعن أزماتها أكثر من أية مدرسة فنية سابقة.

ولذا، وإن كان مسموحاً لنا أن نعمم حكماً ما، على ضوء مجريات الربيع العربي، وما تكشف عنه من ثغرات وسلوكيات، لأعدنا صياغة ما قاله بن جلّون بالقول: «في العالم العربي، لا يوجد أي رابط بين العادات الثقافية للناس والشريحة التي تزعم أنها النخبة المثقفة فالأولى هي من الضخامة والتنوع والتأثير بما يكفي لتقزيم جهود الثانية، الهزيلة أصلاً، والتي تفتقر إلى النضوج والنبوغ اللازم للتعامل مع الأولى».

لماذا سبقوا الأنظمة إلى السقوط؟
قد يكون من الظلم حصر الحديث عن سقوط المثقفين العرب بتعداد مظاهر هذا السقوط، والكل يعرف من الأمثلة على ذلك ما يملأ مجلداً. فالإنصاف يقضي بتناول جذور هذه الهامشية، والعجز عن إيجاد أي رابط مع العادات الثقافية للناس. ومن المرجح أن هذه الجذور تعود إلى بدايات عصر النهضة العربية الحديثة، أي إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

لقد انطلقت تلك النهضة (والأصح أن نسميها: مشروع النهضة) على أيدي مثقفين تشكلوا وأنتجوا على غرار المثقفين في عصر التنوير الأوروبي. حيث كان المفكر فرداً مبدعاً في أحد مجالات العلوم الإنسانية أو العلوم الدقيقة، ويضيف إنتاجه المنحصر في علم أو مجال ثقافي محدد إلى إجمالي ما ينتجه الآخرون، تاركاً للمجتمع توليف هذه النتاجات مجتمعة، وصياغة تطوره على ضوئها. وقد كان اعتماد هذا النموذج مثمراً عندنا لبعض الوقت. فظهر عدد من المفكرين والأدباء والفنانين الذين لا يمكن لعاقل أن يستخف بما حققوه، ولا أن ينكر وجود رابط قوي بينهم وبين العادات الثقافية للناس، ومن هؤلاء نذكر على سبيل الأمثلة غير القابلة للدحض: الأفغاني، ومحمد عبده، وجرجي زيدان، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، والأخطل الصغير، وأدباء المهجر وشعرائه وأيضاً الفنانين والموسيقيين من صف محمد عثمان وحتى السنباطي مروراً بسيد درويش ومحمد عبدالوهاب وأسمهان وأم كلثوم.. وغيرهم الكثيرون الذين صاغوا فعلاً الحياة العربية وكانوا على تماس مباشر مع ثقافة الناس، يضبطونها ويهذِّبونها ويوجهونها.. حتى النصف الثاني من القرن العشرين.

في تلك الفترة، وبعدما كان مفهوم التنوير قد تغيَّر في أوروبا منذ بدايات القرن، وصلنا هذا المفهوم بصيغته الجديدة. إنه مفهوم لا يكتفي بالقدرات الفردية المنفصلة عن بعضها، بل يتطلب من المبدع أن ينتج ما هو مطلوب ليتكامل مع إبداعات الآخرين التي تنتظر منه إنتاجاً محدداً إذ لم يعد من المهم اكتشاف المحرك البخاري كغاية بحد ذاته كما كان في الماضي، بل بات المطلوب اختراع محرك يأخذ بالحسبان دوره الاقتصادي وجدواه الاجتماعية وأثره على البيئة وعلى العلاقات الدولية وسباقات التسلح.. فقد تداخلت اهتمامات الناس ببعضها لترسم اهتمامات جديدة تتسم بالشمولية وتحتاج إلى التلبية والمعالجة بسرعة طالما أن عصرنا هو عصر السرعة.

أمام هذا المفهوم الجديد للتنوير، حيث ترتبط المعلومة الدقيقة بالموقف الإنساني منها، أصبح نموذج المثقف التنويري القديم غير كافٍ للقيام بما هو منتظر منه والدليل القاطع على ذلك هو انقراض عالم الكبار خلال العقود الثلاثة الأخيرة فلا شاعر اليوم يمكنه أن يزعم أنه بوزن أحمد شوقي، ولا موسيقي بوزن محمد عبدالوهاب، ولا روائي بوزن نجيب محفوظ.

إلى ذلك، ثمة جانب لا يمكن إغفاله في هذا المجال، وهو أن الجيل الثاني من المثقفين، أي ذلك الذي وصل إلى مرحلة النضوج (سناً بالطبع) خلال بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، كان ريفي المولد والنشأة. وفي الأرياف العربية آنذاك، كانت الشهادة الثانوية، أو أي شهادة جامعية تكفي لوضع الشخص في مرتبة عليا مقارنة بباقي سكان القرية أو البلدة وإن اضطررنا إلى التسليم جدلاً بأن من حق هؤلاء أن يصفوا أنفسهم بالمثقفين، فمما لا شك فيه أن مكاناتهم هذه لم تعد كافية للعب أي دور مؤثر في المحيط، خاصة وأن هذا المحيط بات على تواصل مع المدن ومع العالم بأسره، ويعرف ما يجري هنا وهناك، وصار يقيس قدرات المثقف الذي يعرفه بقدرات مثقفين آخرين من كافة أصقاع العالم.

بالوصول إلى الجيل الثالث الذي بلغ ذروة «عطاءاته» في العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية، تكشف حجم الكارثة: الناس لا تقرأ إلا قليلاً، لا رواية تطبع أكثر من ثلاثة آلاف نسخة، ولا ديوان شعر يبيع أكثر من ألف نسخة. وازداد الطين بلَّة مع النمو الصاروخي للإعلام بشقيه السياسي والثقافي، منذ سبعينيات القرن الماضي الميلادي، كما حصل في بيروت، أواخر سبعينيات القرن الماضي، عندما تفجرت الصراعات العربية-العربية غداة معاهدة كامب ديفيد، فزحف المثقفون إلى الإقامة بجوار مقرات الصحف والمجلات ولاحقاً محطات التلفزيون، ومؤخراً الفضائيات فظهر نوع جديد من العمل الثقافي مهما تنوع وتغيَّر في مظاهره، يبقى مستمراً بشكل أو بآخر لتعزيز الخط السياسي للمؤسسة الإعلامية التي تحتضنه وفي هذا لا فرق على الإطلاق ما بين مقالة ذات مضمون سياسي اجتماعي، وبين قصيدة حداثية تزعم أنها بمنأى عن الضغوط الخارجية.

أصغر بكثير من التحديات
إن الضغوط الخارجية على المثقف موجودة في البلاد العربية كما كانت ولا تزال موجودة في كل المجتمعات ومن المرجح أنها عندنا اليوم أكبر بكثير مما هي عليه في أوروبا مثلاً، لأنها تبدأ عندنا بمسألة الهوية التي لا تزال تتأرجح بين احتمالات تبدأ بالقبيلة أو الطائفة وتنتهي بالأمة غير محددة المعالم، أو على الأقل غير المتفق عليها اليوم أكثر من أي وقت مضى، وتصل إلى مختلف الاهتمامات العالمية مثل البيئة والاقتصاد والتربية والتصنيع وغير ذلك.. وفي مواجهة هذا التحدي كان على المثقف إما أن ينكفئ عن زعم أي دور لنفسه، وإما أن يطوِّر نفسه ليصبح قادراً على التعامل معها ولكنه بدلاً من هذا وذاك، صار مستورد أدبيات ثقافية وفكرية، يحاول نشرها علها تحمل له ما حملت لمبتكريها في المجتمعات الأخرى، مثل التبشير بـ «الديمقراطية» كحل لكل المشكلات بما فيها الأمراض المستعصية.. وبسبب الطابع الإنشائي المدرسي الذي يغلب على تناول الديمقراطية على ألسنة المثقفين، فإنهم حولوها (أو تحوَّلت على ألسنتهم ومن ثم في وجدانهم) إلى مرادف لـ «حرية التعبير». علماً بأن حرية التعبير شرط من شروط الديمقراطية التي هي نظام سياسي يتطلب قيامه ظروفاً وشروطاً أكثر بكثير من هذا الشرط الواحد.

ولمناسبة الحديث عن «حرية التعبير»، فقبل أن تكون هذه الحرية من عوامل تفجير الربيع العربي (إعلامياً على الأقل)، كانت لسنوات وسنوات الغطاء الذي حاول كثير من المثقفين استخدامه لتغطية عدم قدرة إنتاجهم على التأثير في محيطهم الاجتماعي. فلو أخذنا مصر مثلاً، لوجدنا أن كل المثقفين المصريين الذين هاجروا إلى لبنان مثلاً خلال الحقبة الساداتية، عادوا إلى مصر غداة تولي الرئيس السابق مبارك مقاليد الحكم. وكثيراً ما سمعنا منهم أو من معظمهم أن هامش الحرية في هذا العهد هو أكبر من أي وقت مضى في مصر. فما الذي جرى حتى صارت «حرية التعبير» من شرارات الثورة ضده؟.

ولو أخذنا الحالة السورية مثلاً ثانياً، حيث كانت حريات التعبير مقموعة فعلاً، لأشرنا إلى أنه منذ ستينيات القرن الماضي الميلادي، ومئات المثقفين السوريين هاجروا إلى لبنان وأوروبا الغربية هرباً من خنق حرية التعبير. ولكن السؤال هو: «من مِنْ هؤلاء المثقفين المهاجرين كتب أي شيء يتسم بالمستويات المطلوبة من القدر والقيمة، كان يمكن توظيفه لتحسين أوضاع المجتمع السوري وتنويره، وما كان بالإمكان نشره في سوريا؟.» لا أحد.. لا أحد على الإطلاق.

بعبارة أخرى، فإن ما برع فيه معظم المثقفين العرب هو استخدام الكليشيهات لتبرير عجزهم، كما برعوا التنقل من ضفة سياسية إلى أخرى مع كل تحول اجتماعي أو سياسي واضح، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحصى.

وعلى الرغم من مساعي الكثيرين منهم للحاق بركب المتغيرات أو الاستفادة منها، مستغلاً بذلك حاجات المنابر الإعلامية إلى المسوقين ومندوبي المبيعات، تتبدد اليوم آخر الأوهام التي كانت معلقة عليهم.. فبدوا أشبه بفصوص ملح ذابت في ندى الربيع العربي.

أضف تعليق

التعليقات