قول في مقال

الأخلاقيات والمواثيق في عصر الإعلام الرقمي

على ما ذكر في قضية «القافلة» في عددها السابق من أن الهواتف المحمولة تتجسس علينا، فإن ذلك يقود إلى البحث في الحاجة الماسة لقوانين وأخلاقيات تنظّم سير هذا الإعلام وتطبيقاته وبرمجياته، وتجعل منه إعلاماً جديراً بالمتابعة، صالحاً للمجتمع بكل أفراده. وليد بن سالم يأخذنا في رحلة حول تلك الأخلاقيات والمواثيق.

تمثل ثورة المعلومات التي يعيشها العالم في الوقت الراهن أحد أهم مراحل التطور التاريخي الكبرى في تاريخ الإنسانية. ومن أهم نتائج هذه الثورة المعلوماتية التغيرات الكبرى التي حدثت في الصناعة الإعلامية، وأنماط استهلاك المعلومات، وإنتاجها، ونشرها، والتشارك في مضامينها. وقد أدى هذا التطور الكبير إلى انقسام القطاع الإعلامي إلى مجالين: الإعلام التقليدي الذي يضم الصحف والمجلات والإذاعة والتلفزيون، والإعلام الجديد الذي يقوم على تدفق المعلومات عبر شبكة الإنترنت والهواتف المحمولة وما يتسيدهما من برامج كالفيسبوك وتويتر ويوتيوب وانستغرام وغيرها.

ومع ظهور هذا الشكل الجديد من الإعلام وانتشاره بصورة واسعة، ودخول الكثير من الإعلامين فيه سواءً متخصصين أو غير متخصصين نشأت عدة ظواهر صاحبته. منها:
1. كسر احتكار المؤسسات الإعلامية الكبرى.
2. 
ظهور طبقة جديدة من الإعلاميين، وأحياناً من غير المتخصصين في الإعلام، إلا أنهم أصبحوا محترفين في استخدام تطبيقات الإعلام الجديد، بما يتفوقون فيه على أهل الاختصاص الأصليين.
3. 
ظهور منابر جديدة للحوار، فقد أصبح باستطاعة أي فرد في المجتمع أن يرسل ويستقبل ويتفاعل ويعقّب ويستفسر ويعلّق بكل حرية، وبسرعة فائقة.
4. ظهور إعلام الجمهور إلى الجمهور.
5. ظهور مضامين ثقافية وإعلامية جديدة.
6. 
المشاركة في وضع أجندات النقاش حيث ينجح الإعلام الجديد أحياناً في تسليط الضوء بكثافة على قضايا مسكوت عنها في وسائل الإعلام التقليدية، مما يجعل هذه القضايا المهمة هاجساً للمجتمع، للتفكير فيها ومناقشتها ومعالجتها.
7. 
نشوء ظاهرة المجتمع الافتراضي والشبكات الاجتماعية: وهي مجموعة من الأشخاص يتحاورون ويتخاطبون باستخدام وسائل الإعلام الجديد، لأغراض مهنية أو ثقافية أو اجتماعية أو تربوية، وفي هذا المجتمع تتميز العلاقات بأنها لا تكون بالضرورة متزامنة. والأعضاء لا يحضرون في نفس المكان. وقد يكون المجتمع الافتراضي أكثر قوة وفاعلية من المجتمع الحقيقي، وذلك لأنه يتكون بسرعة، وينتشر عبر المكان، ويحقق أهدافه بأقل قدر من القيود والمحددات.
8. 
تفتيت الجماهير: فمع التعدد الهائل والتنوع الكبير الذي لم يسبق له مثيل في التاريخ فقد بدأ الجمهور يتفتت إلى مجموعات صغيرة، بدلاً من حالة الجماهير العريضة لوسائل الإعلام التقليدية، وهكذا انتقل الإعلام إلى مرحلة الإعلام الفئوي والإعلام المتخصص.

إننا مع هذا الشكل الجديد بحاجة إلى مهارة التفكير الناقد، وأكثر ما تكون أهمية وأشد إلحاحاً عند التعامل مع وسائل الإعلام الجديد، والإنترنت بصورة عامة، لأن الأمر يزداد تعقيداً مع غموض وعدم وضوح الشخصيات الحقيقية التي تتفاعل في إطار الإعلام الجديد أحياناً، كما أن الحرية التي لا تحدها حدود الزمان والمكان والرقابة تتيح نشر أخبار غير صحيحة، وشائعات مغرضة، وأفكار خاطئة، كما يمكن أن تقود إلى ارتباطات مدمرة بشبكات الجريمة المنظمة، والإرهاب، والمخدرات، وغسيل الأموال، وغيرها من المخاطر المحتملة.

ويمثل الإعلام الجديد فرصة للمجتمعات والثقافات أن تقدم نفسها للعالم، فالإعلام الجديد وبشكل خاص الإنترنت فتحت المجال أمام الجميع بدون استثناء وبدون قيود لوضع ما يريدون على شبكة الإنترنت ليكون متاحاً للعالم رؤيته، وهذا يتطلب استعداداً حقيقياً للاستثمار في هذه الوسيلة، والأهم من ذلك استثمارها بشكل إيجابي، ناجح ومؤثر وفعال.

وهذا يقودنا للحديث حول الأخلاقيات المهنية والالتزام بها في عصر الأجهزة الذكية، عصر انتقاء الخصوصية. فالأخلاقيات المهنية مجموعة القيم والمعايير التي يعتمدها أفراد مهنة ما للتمييز بين ما هو مقبول أو غير مقبول في السلوك المهني، ولتحقيق ذلك يتم وضع ميثاق يبين هذه القيم والمعايير والمبادئ وقواعد السلوك والممارسة. ومن فوائدها أنها توفر إحساساً بالذاتية المهنية، وتشير إلى نضج المهنة. كما أنها تسهم في تشكيل صورة واضحة عن ممارسي المهنة، وتحدد ما يتوقعه منهم المجتمع.

إن غالبية المواثيق الأخلاقية الإعلامية يقوم بصياغتها الإعلاميون أنفسهم، من خلال تجمعاتهم المهنية المختلفة، وذلك لتحسين نوعية المضمون الذي تقدمه وسائل الإعلام، ولمواجهة أزمة المصداقية، ولتجنب إصدار قوانين تؤثر على حرية الإعلام، ولتحسين صورة وسائل الإعلام أمام الجمهور.

غير أن تلك المواثيق لا يلتزم بها كثير من الإعلاميين، ولذلك تظل مجرد نصوص جامدة، لأنه ليس هناك عقوبات يتعرض لها الإعلامي الذي لا يلتزم بهذه الأخلاقيات، أو ينتهكها، ولذلك توصف المواثيق الأخلاقية بأنها (بدون أنياب)، وأنها قليلة الأهمية، وبالرغم من المحاولات التي بُذلت للبحث عن وسائل لتوقيع عقوبات على عدم الالتزام بالأخلاقيات، تبقى عقوبات لا قيمة لها، ولا تؤدي إلى الالتزام بالأخلاقيات.

ولذا يحسن الإطلاع على بعض المواثيق الأخلاقية للإعلام، واستعراض بنودها وموادها لمعرفة الواجبات والأخلاقيات التي يجب على وسائل الإعلام أن تلتزم بها، لأن معرفة المتلقي للمواثيق الأخلاقية للإعلام تمثل المقياس الذي يقيس به أداء الوسيلة الإعلامية ومدى التزامها، ويبتعد بذلك عن التفكير الخاطئ الذي يفترض بشكل غير صحيح أن مالك الصحيفة له أن ينشر فيها ما يشاء، وأن مالك القناة الفضائية له أن يعرض فيها ما يشاء دون أي ضوابط، أو التزامات، أو أخلاقيات! كما ينبغي على المعنيين بدراسة المواثيق الأخلاقية والإعلامية التفكير باقتراحات لحل مشكلة عدم التزام بعض وسائل الإعلام بالمواثيق الأخلاقية فنحن مثلاً نلاحظ أن وسيلة الإعلام التي تعتدي على شخص معين بذاته يستطيع مقاضاتها لدى الجهات الرسمية ويحصل بذلك على حقه المادي والمعنوي، بينما تظل قضية انتهاك أخلاقيات الإعلام التي لا تتعلق بشخص معين بذاته بدون حل واضح حتى الآن.

ويأتي التعميم في صورت السلبية ومفهوم القولبة والتنميط كأحد المحطات المهمة التي ينبغي التوقف عندها حين وضع القوانين لما تمثله من اعتداء إعلامي على الآخرين بعملية القولبة وتصنيع الصورة النمطية السلبية.
ومفهوم الصورة النمطية (Stereotype) مستعار من عالم الطباعة، ويعني الصفيحة التي تستخدم لإنتاج نسخ مطابقة للأصل، وقد استخدم هذا المصطلح ليصف ميل الإنسان إلى اختزال المعلومات والمدركات، ووضع الناس والأفكار والأحداث في قوالب عامة جامدة، بحيث يمثل رأياً مبسطاً، أو موقفاً عاطفياً، أو حكماً متعجلاً غير مدروس، يتسم بالجمود وعدم التغير. وتصنيع الصورة النمطية عملية إعلامية متعمدة مخطط لها، لاختزال وتبسيط مخل للصورة العامة لشخص، أو جماعة، أو فئة اجتماعية، أو شعب، بحيث تختزل في مجموعة قليلة من السمات، تستدعي ردود أفعال معينة من الجمهور.

إن القولبة وتصنيع الصورة النمطية السلبية تحدث نتيجة تشويه متعمد للحقائق، والتعميم المفرط، وبعضها غير مستند إطلاقا إلى الواقع، وهي من أخطر ما تقوم به وسائل الإعلام والاتصال الجماهيري، ومن أشد أشكال الظلم الذي يتعرض له البشر في هذا العصر. وتزداد تعقيدات مشكلة القولبة والتنميط وخطورتها لأنه لا مجال للأفراد لاختبار سمات أية صورة نمطية أو التحقّق منها من خلال الخبرة الشخصية، لأن وسائل الإعلام أصبحت هي المصدر الرئيس لكل أفكارنا وتصوراتنا، عن الدول والشعوب والثقافات والديانات…الخ.

ونظراً لما تمثله عملية القولبة والتنميط من ظلمٍ فادحٍ، واستغلال سلطة الإعلام في الاعتداء المبرمج والممنهج على الآخرين، فقد نصت عشرات المواثيق الإعلامية على عدم التصوير النمطي لأي اتجاه فكري، أو سياسي، أو جماعة عرقية، أو دينية.

إن الصورة النمطية السلبية التي تقوم وسائل الإعلام بتصنيعيها لبعض الشعوب والثقافات والأعراق، وبعض الجماعات ذات الأصول الجغرافية والقومية واللونية، وكذلك بعض الاتجاهات السياسية والفكرية، هي مظهر من مظاهر الظلم، وشاهد على عدم العدل، وتهدد بانفجار الكثير من الصراعات، وزيادة حدة الكراهية في العالم، بل إنها تعطي المشروعية لهذه الكراهية، وتبرر عملية الاعتداء على ضحايا الصورة النمطية السلبية، وتجعل العدوان عليهم شيئاً مبرراً ومفهوماً.

ويكمن الحل في تحمل الجميع لمسؤولية تطبيق الأنظمة والقوانين. فالكثير من دول العالم تحفل بالأنظمة والقوانين، التي تحمي المجتمعات من انحرافات بعض وسائل الإعلام، وتتصدى لممارساتها الضارة بالمجتمع، والمؤثرة سلبياً على أفراده، والمنتهكة للقيم الأخلاقية والآداب العامة. وتختلف قوة القانون والنظام من دولة إلى أخرى، وكذلك مدى جدية التطبيق والتنفيذ.

ونحنُ بحاجة لقيام جمعيات أهلية متخصصة بحماية (حقوق المشاهدين)، أو ما يمكن أن يطلق عليه لاحقاً (حقوق متلقي الإعلام الجديد)، تعمل وفق مبادئ جمعيات حماية المستهلك. وسوف يكون دورها متمثلاً في القيامِ بمهامٍ كثيرة.

من أبرز مهماتها توعية أفراد المجتمع بمخاطر الإعلام السلبي، وتثقيف أفراد المجتمع وتعزيز الدافعية لديهم لحسن الانتقاء والاختيار، وتحفيز مؤسسات المجتمع مثل الأسرة والمدرسة لتفعيل دورها وتحمل مسؤولياتها، والعمل على حث الجهات التنظيمية لإصدار الأنظمة والقوانين، التي تحمي المجتمع من مخاطر الإعلام السلبي، وتفرض مفهوم الحرية المسؤولة على وسائل الإعلام.

ومنها تكليف من يقوم بمتابعة مدى التزام وسائل الإعلام بالأنظمة والقوانين وأخلاقيات الإعلام، ومخاطبة ملاّك وسائل الإعلام، ومن يقوم على وسائل الإعلام الجديدة المؤثرة وغيرها والحوار معهم، للالتزام بالأنظمة والقوانين وأخلاقيات الإعلام، ومقاضاة وسائل الإعلام التي تسيء استخدام الحرية الإعلامية، وتنتهك قيم المجتمع، وترفض الالتزام بمبدأ الحرية المسؤولة.

ومنها مخاطبة شركات الإنترنت الشهيرة، وشركات الاستضافة وغيرها، والحوار معهم، لدعوتهم للالتزام بالأنظمة والقوانين وأخلاقيات الإعلام، وتذكيرهم بمبدأ المسؤولية الاجتماعية، وأن عليهم واجبات تجاه مجتمعاتهم، ومقاضاة الشركات التي تستخف بمبدأ المسؤولية الاجتماعية، وتعمل عن عمد بالإضرار بالمجتمع، وانتهاك قيمه، من أجل تحقيق الأرباح واكتساب الأموال على حساب مستقبل المجتمع.

أضف تعليق

التعليقات